09-19-2014, 09:17 PM
|
مشرف
|
|
تاريخ التسجيل: Jun 2013
المشاركات: 7,826
|
|
التوازن والوسطية في خلقنا
التوازن والوسطية في خلقنا
الدم بين السيولة والتخثر مثلًا
د. غنية عبدالرحمن النحلاوي
كثيرة هي الأمثلة المعجِزة في هذا المقام، ويجليها الله تعالى لنا - كأطباء - لنستفيد منها في علاج الأمراض، والأهم لنزداد إعظامًا وحمدًا لهذا البارئ المصور سبحانه، الذي أودع فينا آليات التنظيم الداخلي، وسخرها لنا حتى يتم الاستتباب، ويتحقق التوازن في أجهزتنا ونسجنا، ومن أهمها: دمنا!
علمًا أن هنالك أمثلة لا تقل إعجازًا عن ذلك التوازن المبهر:
مثل: التوازن في نظام جهازنا المناعي بين قتل الخلايا الممرضة والمريضة، وعدم قتل الصحيحة، ولا الجراثيم الصديقة، ومثل توازن العناصر الغذائية في جسمنا؛ كالحديد والكلس؛ حيث إن كلاًّ من زيادتها ونقصها عن القدر المحدد من البارئ سبحانه يؤدي إلى الأمراض!
ومثل الدقة في نظام النوم واليقظة لدينا، وارتباطه بالتوازن العصبي والهرموني ومراحل نمو الطفل، كل ذلك - وغيره كثير - سخَّره لنا بارئنا: ﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ [الأعلى: 2، 3] سبحانه - بقدرته وفضله، وهو العليم الخبير - وقدَّره بالظروف المثلى التي تسمح لنا بالبقاء والاستمرار بإذنه، غفرانك اللهم!
ولعلَّ قوام الدم المتوازن من أكثر تلك الأمثلة سطوعًا ودقة، وهو الذي يضمن جرَيان الدم في الشبكة الوعائية باعتدال، في حالة مثالية، تتوسط بين اللزوجة الزائدة لحد التخثر التلقائي (التجلُّط)، وبين الميوعة وفقد ميزة التخثر لحد النزف الشديد.
معجزة الإرقاء:
إن التأمل في ذلك التوازن والاستتباب يجعلنا نشعُرُ بعظمة الله تعالى الذي خلقنا، ولكل خلية دورها، بل لكل جُزَيْء أو ذرة في تلك الخلية - أو في محيطها - مهمة تؤدى بدقة وتنظيم فائقين؛ وذلك للحفاظ على الثباتِ والاستقرار:
• =×= في البيئة الداخلية لأجسامنا.
•=×= وكذلك خلال تفاعل أجسامنا المستمر مع البيئة الخارجية؛ وأبرز مثال لهذا التفاعل في موضوعنا هو الإصابات الرضية، المغلقة منها أو المفتوحة، في الجروح والرضوح، (رضح = رض + جرح).
فهذا السائل الثمين من أن يراق قضى ربُّ العالَمين بحرمة إهداره، وهو تعالى وهَب لنا معجزة الإرقاء التي تمثل نافذةً على ذلك التوازن المعجز، حين فطَر أجسامنا عليها، لوقف النزف بمختلف أشكاله وأسبابه، ومنع خسارة الدم، وهي بما فيها من دقة وتوازن من أعقد العمليات، والتي سأحاول تبسيطها بإيجاز.
يتطلب نجاح الإرقاء:
• الدقة في التوقيت: استجابة سريعة جدًّا تلي الأذية.
•• الدقة في العمل: استجابة منظمة ومتناسقة.
← في الرسم أعلاه: تحطم جدار الوعاء وعناصر الدم تُهرع للمكان، ثم أدناه: الخثرة تسد الجرح، وتبدو الصفيحات المفعلة (الصفراء) مع شبكة الليفين.
ناهيك عن توفر البنى الأساسية لقيامه، ولكل منها دوره في تلك الاستجابة؛ وأهمها:
1) جدران الأوعية: إن بطانة الوعاء الملساء التي يكون الدم على تماسٍّ بها هي البيئة السوية لضبط سيولته وجريانه، وعندما يتعرض الدم للهواء، أو يحتك بسطح خشن - مثل النسيج الداعم والغني بـ: "ألياف الكولاجين" في جدار الوعاء المتضرر - تبدأ مواصفاته بالتغيُّر، من جهة أخرى يتقلص الوعاء الدموي المصاب فورًا وتتبدل خواصه:
♦ هو يتقلص استجابة لمنعكس الألم الموضعي الناجم عن الأذية، (سبحان الله كيف جعل الألم مفيدًا!).
♦ ويتابع تقبُّضه وتضيُّقه استجابةً لحاثَّات تفرزها الخلايا المبطنة له، والصفيحات الدموية الجائلة مكان الحدث فورًا، وتتضح فائدة تقلص الأوعية في تصغير مكان الأذية، وإقلال النزف، بشكل خاص في الأذيات المتعددة للأوعية الصغيرة.
♦ والمدهش أن جدرانَ الأوعية السليمة تفرز باستمرار في حالة السواء موادَّ مضادة للتخثر، ومانعة للالتصاق، وفور التأذي لا تتوقف خلاياها البطانية عن إفراز مضادات التخثر وحسب، بل تشرع بإفراز محرضات التخثر، ومن أهمها عنصر نسميه: "عامل فون ويليبراند"، وسبب أهميته: أن نقصه يؤدي إلى مرض وراثي يسمى باسمه، وهو أكثر الأمراض النزفية الخلقية شيوعًا عند البشر، فانظر إلى الدقة في الخَلق كيف أن واحدًا من أصغر الجنود رتبةً له هذا الشأن!
2) الصفيحات الدموية، إن العلم عندما عرف أن نظام الإرقاء يقوم على الاستجابة الموضعية السريعة، اكتشف أن مفتاحَ هذه السرعة وتناسقها يعتمد على: "الصفيحات الدموية"، والصفيحات: هي مكون خلوي أساسي من مكونات الدم، ورغم أنها ليست خلايا كاملة فإنها تلعب واحدًا من أهم الأدوار في الإرقاء.
وهي تُعَد (150 - 350) ألف صفيحة في كل مِلِّي متر مكعب من الدم، وتحمل كل منها على سطحها عددًا من "المستقبلات" الجاهزة للتعامل مع الوسائطِ المخثرة للدم، وهي تتحرك في تجوال مستمر - كدوريات - ترصد أي أذية على طول شبكة الأوعية الدموية، حتى أصغر وعاء شعري في رأس إصبعك مثلًا! وخلال ثوانٍ من حصول الجرح وتفرُّق الاتصال في جدار الوعاء الدموي، تلقي الصفيحات نفسها لتلتصق بالسطح المتأذي تحت بطانة الوعاء، بوساطة عامل فون ويليبراند المذكور، الذي يكون موجودًا بالمكان وقد مر بتبدلات هيَّأته للارتباط بمستقبلاته الخاصة على سطحها، فيحولها إلى شكلها المفعل أو النشِط:
• فتصبح قابلة للالتصاق بشدة أكبر مع الجزء المتأذي من الوعاء، ويسمى هذا الحدث لصوق الصفيحات المتفعلة.
• وكذلك قادرة على التلاصق مع مثيلاتها من الصفيحات (وهو ما يسمى: التكدس)، فتحقق السد الأوَّلي للثقب!
وفي الوقت نفسه تفرز كل "صفيحة" مفعلة عدة وسائط كيميائية - تخزنها عادة في محافظ خاصة - أهم وظائفها:
تضييق الوعاء - كما رأينا - واستدعاء المزيد من الصفيحات، وتفعيلها، سبحان الله! فالدورية التي كانت موجودة وتفعَّلَت تنادي المدد من مثيلاتها للقدوم للمكان! وكلما زادت الوسائط المفرزة زاد عددُ الصفيحات المنخرطة في المهمة، لتتشكل سدادة الصفيحات البدئية في أقل من دقيقة، ويذكر أن الصفيحات هي المسؤولة بمفردها عن تدبير التشقُّق والكشط المستمر لجلدنا، والتسحج البسيط (الرضي وغير الرضي) في حياتنا اليومية.
وما أن تلتصق الصفيحات مع مكان الأذية، فإن وجه كل صفيحة يؤمن ما نسميه: "سطح التفعيل"، الذي تلتصق عليه "عوامل التخثر"، وهي البنية الثالثة - في الترتيب - بالنسبة لعملية التخثر ونظام الإرقاء! كما سنرى.
3) دور عوامل التخثر:
هناك "دزينة" - على الأقل - من البروتينات المتميزة جدًّا، يجُول أكثرها في الدم كأنها تقوم بدوريات عَسَسٍ، ولكن هنا ملاحظة هامة، وهي أن هذه العناصر المؤثرة تكون جاهزةً وغير جاهزة! كيف؟ ولماذا؟
هي جاهزة للتفعيل، ولكن مستحيل أن تجُول مفعَّلة، سبحان الله تعالى، وإلا اضطربت سيولة الدم في جسمنا، وحصلت خثرات لا مبرر لها؛ ولذلك تكون عوامل التخثر بحالة طلائع (طليعة الخثرين، طليعة الليفين، أو مولد الليفين)[1]، ويصنع أغلبها في الكبد، وهي تحمل للمكان المتأذي رفقة مرتكزاتها وعوامل تفعيلها، فانظر إلى التوازن والدقة في صنعة البارئ سبحانه! وكما ذكرنا فإن وجه الصفيحات الملتصقة يقدم أول سطح تفعيل لتلك الطلائع! تتالى بعده التبدلات فيما نسميه "شلال التخثر"، الذي ينتهي بتشكيل شبكة الألياف ذات الخيوط المفتولة التي تنتشر من كل الجهات حول سدادة الصفيحات، وتندخل فيها وتتخللها، فتمتِّنها وتشكل معها الخثرة النهائية.
وهي الخطوة الثالثة في هذه الاستجابة السريعة التي تنتهي بتمتين السد الصفيحي ودعمه، ومن ثم ختم الجرح، وليتحول هذا الدم خارج الوعاء من سائل إلى مادة تشبه "الجل" بفضل شبكة الليفين أو "الفيبرين"، وهذه العملية النهائية تجتذب المزيد من مكونات الدم - كالكريات البِيض والحُمْر - وتحتجزها ضمن عيون تلك "الشبكة"، وتحتجز معها الجراثيم والعناصر الغريبة التي أدخلها الجرح للدم، فتتعامل معها عناصر الدم الدفاعية التي انخرطت في ساحته.
يتبع
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|