09-12-2015, 12:52 PM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 359,472
|
|
من أُحد إلى سوريا
من أُحد إلى سوريا
من أُحد إلى سوريا
وصية الله -سبحانه وتعالى- لكم في كل آنٍ وحين: تقواه -سبحانه وتعالى- إلى يوم الدين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران : 102].
إخوة الإيمان: منظر أصوّره لكم في البداية، ساحة مضرجة بالدماء، وعشرات من الجثث والقتلى والشهداء في مكان عظيم وموقع جليل، ننظر فإذا من بين هؤلاء مصعب بن عمير أول سفير في الإسلام، نبحث فإذا فيهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، نبحث فإذا فيهم مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري -رضي الله عنهما-، نبحث فنرى عمرو بن الجموح الرجل الكبير الذي كان في رجله عرج، فأراد أن يطأ بعرجته الجنة مجاهدًا في سبيل الله، ننظر فنفاجأ بأن من بينهم أسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب، عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
نمضي هنا وهناك فنحصي سبعين من صفوة أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، كانوا شهداء في أحد في شهر شوال من العام الثالث للهجرة، كيف كانت الدائرة على أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-؟!
كيف كانت الجولة الثانية انتصارًا للكفار وانكسارًا للمؤمنين؟!
كيف جرى ذلك وفيهم خاتم الأنبياء والمرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم-؟!
أمر وخطب جليل يدمي القلوب المؤمنة ويحير في أول أمره العقول المسلمة.
وقد جال ذلك كله في الخواطر ومر بالعقول، ثم سجلته وأثبتته آيات القرآن الباقية إلى قيام الساعة: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165]
وهذا هو الدرس الأول الذي نقف عنده ومعه من أحد.
(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ)، أي بما جرى من استشهاد سبعين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- (قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا) في يوم بدر حين انتصرتم فقتلتم سبعين وأسرتم سبعين، (قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا)، قال الصحابة: كيف وفينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! كيف ونحن أهل الإيمان وهم أهل الكفر؟! كيف ونحن نبتغي وجه الله وهم يريدون الدنيا وحظوظها؟! كيف ونحن نريد إعلاء راية الله وهم يريدون نشر الكفر والضلال وإعلاء راية الجاهلية؟! (أَنَّى هَـذَا)، وجاءت الإجابة موجزة ومباشرة وواضحة: (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ)، سُنّة الله الماضية تترتب فيها أقدار الله على أفعال الخلق، هكذا قدّر وقضى، هكذا هي حكمته البالغة -سبحانه وتعالى-.
وذكر أهل العلم في ذلك جملة من الأمور: أولها مخالفتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما أراد أن يبقى في المدينة ويتحصن فيها، وأصرّ جمع كبير منهم على الخروج
والثانية في المنازعة التي وقعت بينهم عندما بدأ الكفار في الانهزام
والثالثة الواضحة الظاهرة في مخالفتهم لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما وضع الرماة على الجبل وقال لهم: "لو رأيتمونا تتخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم"، فنزلوا
والرابعة كذلك سجلتها آيات القرآن؛ لأن هذه المخالفة كان المؤثر فيها بالفطرة البشرية، والصحابة كانوا بشرًا، كان المؤثر هو الغنائم! المال! الدنيا! (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ) [آل عمران: 152].
(قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ) قضية مضطردة في كتاب الله -سبحانه وتعالى- (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم) [يونس: 23]، في الحوار الذي قصّه الله علينا في حديث إبليس: (فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) [إبراهيم : 22]، في يوم القيامة: (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [الحديد: 14].
وساق ابن القيم -رحمه الله- هذا الدرس فقال: "إنه قد ورد في العموم في القرآن: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى: 30]، (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ) [النساء: 79]، قال -رحمه الله-: "الأول من فضله (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ) أي بفضل الله، (وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ)، قال: والثاني عدله، والعبد متقلب بين فضله وعدله، جارٍ عليه فضله، وماضٍ فيه حكمه، وعدل فيه قضاؤه".
وختم الحق -جل وعلا- الآية بقوله: (إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165]، لا تسيئوا الظن بربكم لنكسةٍ أو نكبةٍ أو مصيبةٍ حلّت بكم، لا تشكوا في قدرة الله ولا في وعده، بل انظروا إلى أنفسكم وراجعوا مسيرتكم وفتّشوا في سلوككم وفي إيمانكم (إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، إياكم وسوء الظن بالله؛ فإنه قادر على أن ينصركم، وإنما قدّر ذلك لحكمةٍ أرادها -سبحانه وتعالى-: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) [محمد: 4]، (مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)[آل عمران : 179]، ذلك أمر الابتلاء وأثره.
فدرسنا الأول ونحن نرى اليوم ما يجري في أمتنا وما نراه يتعاظم من الإجرام والقتل والتدمير والسفك للدماء والبراءة ولبراءة الأطفال وغير ذلك في بلاد الشام، مرة أخرى (هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ)، هو في مجموع الأمة كله في تخلفها عن استمساكها بكتاب ربها، في تقصيرها عن التزامها هدي نبيها، في نكوصها عن تحكيمها شرع ربها، في كل ما يتعلق بعلاقاتها وولائها وبرائها، ولذلك تعجبون ويعجب كل أحد كيف يبقى هؤلاء وحدهم والمسلمون من حولهم في كل مكان؟! كيف لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم ولا أن يواجهوا عدوهم بأسلحة وهي مكدسة على بعد مسافات قصيرة منهم؟! كيف، وكيف، لنعرف أن العلل كثيرة، ليست فيهم بل في مجموع الأمة كلها، وفي الآحاد منا، فأنا وأنت جزء من سبب القصور والخلل الواقع في أمتنا بما يكون من تخلفنا عن طاعة ربنا واجترائنا على معاصيه.
وأقف الوقفة الثانية لنجمع بينهما، هل المقصود أن نعرف أن ذلك من عند أنفسنا فنبكي ونلطم خدودنا أو نتناوب في إلقاء التُّهَم والأسباب فيما بيننا؟!
ليس ذلك المراد، بل انظروا كيف فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وقتٍ وجيز في لحظات حاسمة بفعل جازم وقيادة رشيدة وقوة في الإيمان، لم يترك فرصة لهذه الكسرة أو النكسة أو المصيبة أن تَفُتّ في عَضُدهم، ولا أن تنال من إيمانهم، ولا أن توهن من عزائمهم، ولا في أن تفرّق من صفوفهم، ولا أن تقعد بهم عن مواجهة عدوهم، بل استطاع مباشرة أن يزيل آثارها، وأن يُنهض أصحابه وأمته ليبقى الإيمان في قلوبهم راسخًا، واليقين في نفوسهم جازمًا، والارتباط بالله -عز وجل- وثيقًا، والتوكل عليه صادقًا، والقدرة على نصر دينهم قائمة، والقدرة على مواجهة عدوهم ثابتة، بعد أن دُفن الصحابة -رضوان الله عليهم- وما زالت النفوس جريحة وما زالت الصدمة كبيرة، وما زال المصاب عظيمًا.
في اليوم التالي مباشرة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- من كان معه من أصحابه في يوم أحد أن يخرجوا معه، إلى أين؟!
إلى أين وقد هُزموا بالأمس! إلى أين ومازالت جراحهم تثعب دماءً!
إلى أين وما زالت الصدمة قد شلّت عقول بعضهم! إلى أين؟!
إلى اللحاق بعدوهم! إلى الانتصار لإيمانهم! إلى رفع راية ربهم! إلى إعلان الاعتزاز بإيمانهم ودينهم! (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139]، وفعل ذلك قائلاً: "لا يصحبنا أحد لم يكن معنا في أُحُد".
ليست هناك إمدادات عسكرية جديدة! ليست هناك إضافة أعداد كثيرة! لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يكون الدرس العملي قويًا عميقًا، فدعا أصحابه، خرجوا وتجاوزوا أحدًا وساروا باتجاه الطريق إلى مكة حتى بلغوا حمراء الأسد، ومروري بها في آخر يوم من رمضان هو الذي ذكّرني بهذا الحدث العظيم، وظل في ذهني أن أتحدث وأتملى في قيادة النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف أخرج أصحابه من ظلال تلك الهزيمة ومن آثار تلك المصيبة إلى قوة وعظمة واستئناف لمسيرتهم، وقدرة على عدم التأثير السلبي لأي أمر مهما كان عظيمًا.
خرج وبقي في حمراء الأسد ثلاثة أيام، قريش كانت تفكر، لم نقتل محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، لم نستأصل المسلمين، كانوا يفكرون في العودة، لما سمعوا الأخبار اقتنعوا من تلك الجولة وواصلوا مسيرتهم أشبه بالخائفين من العودة، المنتصرون خائفون أن يرجعوا لملاقاة المنهزمين، وهنا يذكر أهل التفسير والسِّيَر أسبابًا أو روايات متعددة أن أعرابيًا مر بأبي سفيان ومن معه فقالوا له: إن كنت ذاهبًا إلى المدينة فأخبر أهلها وأخبر محمدًا بأننا قد جمعنا الجموع وسنأتي إليهم راجعين لنستأصلهم ونبيد خضراءهم، فلما بلغ حمراء الأسد قبل أن يصل إلى المدينة وجد الجيش بانتظاره، فلما قال مقولته لهم، قالوا الكلمة العظيمة: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، وسجلت الآيات ذلك: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ) [آل عمران: 173-174]، تغيرت الأمور! تغيرت النفوس! تغيرت الأحوال!
قال بعض أهل العلم وأهل السِّيَر: "إن وفدًا من عبد القيس كان مارًّا فقالوا له مثل ذلك"، وبعض أهل العلم ذكروا أن المنافقين الذين انخذلوا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ثلث الجيش قبل أُحد قالوا لهم: ألم نقل لكم إنكم ستُهزمون، لم تستمعوا إلى قولنا بأن تكونوا في المدينة، الآن سيأتون بجموع كبيرة ويهزمونكم ويستأصلونكم. كل هذه المقولات، كل هذا الإرجاف، كل هذه القوى التي تتجمع إن كانت حقًا أو كانت دعاية كلها وُوجِهَت بكلمة واحدة: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، وكانت النتيجة: (فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران: 174].
ثم بيّن الحق -جل وعلا- حقيقة الأمر: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175]، المطلوب هو علاج آثار ما يحل من المصائب مع معرفتنا أننا من أسبابها، فلنعالج الأسباب، ولنغيّر النفوس بإعادتها إلى ربها، والصلة به، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والالتجاء إليه، والاستمداد منه، ولندرك كذلك أن القوة إنما هي قوة الإيمان، وهذه الصورة الموجزة في الآيات القليلة كشفت عن قيادة حكيمة، وعن صورة منهجية ينبغي لنا أن نتبعها حتى فيما يقع لنا في آحاد أمورنا، عندما تحل بك مصيبة فَتِّش عن الأخطاء، لكن استعن بالله ولا تعجز، لا تكن ممن تثبط همته ولا ممن يسري اليأس إلى نفسه وقلبه، ولا ممن تفتّ في عضده تلك الأمور، فلا يبقى عنده عزم ولا قوة، كلا، أمتنا قوية بإيمانها، عزيزة بإسلامها، قادرة بالاستمداد من ربها أن تنتصر على عدوها، ولو قادوا كل هذه الجموع فإن الله -سبحانه وتعالى- قد بيّن لنا حقيقة أهل الإيمان: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب: 23].
هذه الصورة العملية في أمرين اثنين مهمين وفائدتين عظيمتين ينبغي أن نربطها بأحداث وواقع أمتنا، لن يتسلل اليأس إلى قلوبنا لما يجري في الشام، فنحن نرى بأم أعيننا أن الجيوش العظيمة بدباباتها وطائراتها لم تستطع أن تنال من عزائمهم وهم يقولون: "ليس لنا غيرك يا الله"، لم تستطع أن تنال من يقينهم وهم ما زالوا رغم كل الخذلان يقولون: "إن النصر من الله، وإن النصر قريب"، وكذلكم: "حسبنا الله ونعم الوكيل".
بقي أن نكون نحن الذين خارج أتون المحنة المباشرة هل وعينا الدرس فنظرنا إلى قوله: (مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ)، وهل وعينا الدرس الإيماني التربوي التعبوي الأممي الذي فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أزاح عن قلوب أصحابه ما جرى من أثر تلك الهزيمة أو المصيبة، أم ما يزال كثيرون منا اليوم مضطربين متراجعين مع أن أصحاب المحنة ثابتون!!
وبلغة السياسة نبحث عن حلول على حساب الدماء التي سُفكت، والأرواح التي أُزهقت، والأعراض التي انتُهكت، والأموال التي سُلبت، والبيوت التي دُمرت، والجرائم التي ارتُكبت، لا يمكن بحال من الأحوال أن تمر هذه الأحداث العظام وتجتمع لها الأمة كلها، ثم لا تقدم شيئًا عمليًا على الأرض في نصرة حقيقة تبقى فيها أجساد الأطفال الغضة، وأجساد النساء الحرائر، والرجال الذين ليس في أيديهم سلاح يقاومون به، هم الذين كسروا ولا يزالون يكسرون رغم تلك كل الفظائع والجرائم، ليست إرادة المجرمين من أولئك القتلة، بل إرادة من وراءهم من القوى العظمى المجتمعة، وهي اليوم تبحث عما يقولون: إنه في المرحلة القادمة بكنس هذا النظام كما يقولون!!
الخطبة الثانية:
الدرسان العظيمان من أحد، العلة فينا والخطأ منا، والتقصير في صفوفنا، والخذلان في صفوفنا، فلنعالج ذلك، والأمر الثاني: استعانتنا بالله ويقيننا بنصره وارتباطنا بشرعه لا ينبغي أن يتأثر بحال من الأحوال، جرى على الأمة أمور عظيمة عندما سقطت بغداد في عام ستة وخمسين وستمائة، قال أهل التاريخ: قُتل فيها ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف، قال ابن كثير: "واستحر القتل بأهل بغداد أربعين يومًا حتى سالت ميازيب البيوت من دماء المسلمين"، ومع ذلك في أقل من عامين استعادت الأمة زمام المبادرة، واستطاعت أن تهزم هؤلاء التتار أنفسهم في عين جالوت في الخامس والعشرين من جمادى الثانية عام ثمانية وخمسين وستمائة للهجرة، والمواقف كثيرة في تاريخ أمتنا.
وعما قريب سنرى صور هذا الانتصار، ليس بالضرورة في هالة عظيمة، لكنّ ما يجري حتى الآن في بلاد الشام وما يجري حتى الآن في أرض فلسطين هو انتصار، وإلا فكل هذه القوى المجتمعة لم تستطع أن تهزم إرادة ولا يقين ولا قوة ولا مواجهة قلة من الناس لا حول لهم ولا طول، بمن فيهم النساء والأطفال والرضع، بل حتى الأجنة في بطون الأمهات، أليس ذلك مثارًا واستبصارًا لأن نتأكد من يقيننا بقوله -جل وعلا-: (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، وقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس: "أن هذه الكلمة قالها إبراهيم الخليل -عليه السلام- عندما ألقي في النار، كان آخر ما قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل)"، ماذا جرى؟! (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء: 69].
أظن أن الذي يجري في الشام من المفترض أن يكون نارًا لا مثيل لها، لكننا نرى أهل الشام -لا أقول: غير متأثرين- لكننا نرى فيهم صورة فريدة عجيبة، وكأنهم قد استسلموا وسلموا لأمر الله تسليم الموقن بنصره -سبحانه وتعالى- والمعترف بحكمته في قدره -جل وعلا-، ولقد رأينا وتداول الناس رسائل لبعضهم وهم يكتبون لغيرهم: "أزف إليكم بشرى خبر استشهاد ابني أو أخي أو نحو ذلك"، ونحن نستمع إلى أهل فلسطين وهم يقولون: "ارتقى اليوم فلان وفلان أو عدد كذا وكذا"، (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ) والفاء للتعقيب السريع المباشر الذي يدل على أن من قال ذلك بعد زيادة الإيمان واليقين واستمسك بالله وأخذ بالأسباب، فإن الله ناصره، وذلك ما كان من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
بقي أن نشير إلى الأثر السلبي للمنافقين الذين كانوا في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومقولاتهم متجددة إلى يومنا هذا، تبث سمومها وزعزعتها في الصف المسلم، ونستمع إليها يومًا بعد يوم، وللأسف وأحيانًا تُقدم إلينا بأسماء النُّصْرة وبعناوين الرحمة لأولئك الأشقاء المسلمين المرابطين هنا وهناك. ونراها كذلك في صور مختلفة.
أشير أخيرًا إلى الربط الذي كنا فيه في رمضان ونحن على همة وقوة في الطاعة وتسابق إلى الخير ومنافسة في ميادين العمل الصالح، واليوم نجد أننا قد ضعفنا، وهذا في جزء منه بدهي باختلاف الموسم، لكن ضعفنا يتجاوز الأمر إلى عودة إلى ما كنا عليه وأكثر مما كنا عليه، ولو نظر أحدكم إلى آخر المسجد لرأى ذلك، حتى الجمعة نتخلف ونتأخر عنها، ومازلنا ننام نهارنا ونضيع صلاتنا وغير ذلك، وأعيد هنا: (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ).
الشيخ على بن عمر بادحدح جفظه الله
المصدر: منتديات بيت حواء - من قسم: منتديات اسلامية,( على منهج أهل السنة والجماعة)
lk HEp] Ygn s,vdh
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|