الأزمة المالية: أسبابها وعلاجها
د. علاء شعبان الزعفراني
لما ذاع في الأفق خبر الأزمة المالية التي تهاوت فيها بنوك كبرى ومؤسسات مالية عظمى، وانحدرت فيها البورصات العالمية، وتبخرت تريليونات، وطارت مليارات من أسواق المال، فما هي أسباب هذه الأزمة المالية؟
المبحث الأول: التعريف بالأزمة المالية:
هي الانخفاض المفاجئ في أسعار نوع أو أكثر من الأصول. والأصول إما رأس مال مادي يستخدم في العملية الإنتاجية مثل الآلات والمعدات والأبنية، وإما أصول مالية، هي حقوق ملكية لرأس المال المادي أو للمخزون السلعي، مثل الأسهم وحسابات الادخار مثلاً، أو أنها حقوق ملكية للأصول المالية، وهذه تسمى مشتقات مالية، ومنها العقود المستقبلية (للنفط أو للعملات الأجنبية مثلاً).
فإذا انهارت قيمة أصول ما فجأة، فإن ذلك قد يعني إفلاس أو انهيار قيمة المؤسسات التي تملكها.
وقد تأخذ الأزمة المالية شكل انهيار مفاجئ في سوق الأسهم، أو في عملة دولة ما، أو في سوق العقارات، أو مجموعة من المؤسسات المالية، لتمتد بعد ذلك إلى باقي الاقتصاد[1].
ويمكن إجمال ما حدث حتى تفجرت الأزمة في النقاط التالية[2]:
[1] شجع الازدهار الكبير لسوق العقارات الأمريكية ما بين عامي 2001م - 2006م، البنوك وشركات الإقراض على اللجوء إلى الإقراض العقاري مرتفع المخاطر، والذي يقوم على منح المقترضين قروضًا بدون ضمانات كافية، وبمخاطر كبيرة مقابل سعر فائدة أعلى (عوائد ربوية أكبر)، والهدف هو تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح (عوائد الربا) لمؤسسات الإقراض، وقد بلغت تلك القروض نحو 1.3 تريليون دولار في مارس 2007م.
[2] توسعت المؤسسات المالية الكبرى في منح القروض للمؤسسات العقارية وشركات المقاولات والتي زادت عن سبعمائة مليار دولار.
ومنح هذه القروض كان قائمًا على فرضية عدم وجود خسارة أبدًا، حتى لو لم يتمكن المقترض من سداد قرضه، فإن سعر المسكن سيزيد مع الزمن، وسيتمكن هذا المقترض من بيع بيته أو يتم الحجر عليه وبيعه بسعر أعلى.
[3] أدى ارتفاع سعر الفائدة إلى تغيير في طبيعة السوق الأميركية، تمثل في قلة الطلب على العقار نتيجة ارتفاع أسعاره المبالغ فيها، وبالتالي بدأت أسعاره تتهاوى، وتزايد عدد العاجزين عن سداد قروضهم العقارية في الولايات المتحدة.
[4] أدرك المواطن الأمريكي أنه أمام خيارين: إما أن يستمر في تسديد قرض أصبح أعلى من سعر منزله فيما لو سدده دفعة واحدة، أو يمتنع عن التسديد ويترك منزله لكي يستولي عليه البنك، وهو الحل السليم في نظره.
فبلغ حجم القروض المتعثرة للأفراد نحو مائة مليار دولار.
[5] تبع ذلك ازدياد عروض المنازل المرهونة للبيع، مما أدى معه إلى الضغط أكثر على أسعار العقار، وزاد عدد المنازل المعروضة للبيع في الولايات المتحدة 75% عام 2007م، حيث بلغ عددها 2.2 مليون منزلاً.
[6] أصبحت شركات التأمين في مأزق كبير، بسبب تأمينها على تلك القروض المعدومة.
[7] شعر المواطن الأمريكي الذي كان يربط ودائعه بالبنوك –وهم المقرضون للبنوك بالفائدة الربوية - بخطر شديد، وبدأ بفك ودائعه من البنوك.
[8] ضعفت قدرة البنوك على تمويل الشركات والأفراد، الأمر الذي أدى إلى انخفاض الإنفاق الاستثماري والاستهلاكي، وهدد بحدوث كساد كبير. وبالتالي انخفضت إيرادات البنوك، وبدأت في تسريح الموظفين.
[9] أصبحت مطلوبات البنوك وشركات التأمين أكثر من إيرادتها، وهو ما أدى إلى إعلان بعض البنوك إفلاسها، للاستفادة من نظام إفلاس الشركات المعمول به في أمريكا، وذلك لحمايته من دائنيه، والهروب من المطالبات المستقبلية.
المبحث الثاني: نتائج الأزمة المالية:
1 - إفلاس عدد من شركات الإقراض العقاري الأميركية مثل:
New Century Financial Corporation.
American Home Mortgage Investment.
2 - لجوء الكثير من الشركات العقارية إلى تسريح عدد كبير من موظفيها، ومن بين هذه الشركات شركة (Countrywide)، كبرى مؤسسات القروض العقارية في الولايات المتحدة، التي قررت تسريح خمس موظفيها بواقع 12 ألف وظيفة لمواجهة نحو 1.2 مليار دولار من الخسائر التي لحقت بها جراء أزمة الرهن العقاري.
3 - ما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين أميركي يواجهون خطر فقدان منازلهم.
4 - شركة (Merrill Lynch) الاستثمارية الأميركية تتكبد خسائر بقيمة 14.1 مليار دولار.
5 - Bank of America يشتري بقيمة أربعة مليارات دولار (countrywide bank) أكبر ممول للرهن العقاري في الولايات المتحدة، في خطوة من شأنها تفادي حدوث واحدة من أكبر حالات الانهيار في أميركا جراء أزمة الإسكان.
6 - تدهورت البرصات أمام مخاطر اتساع الأزمة، بينما أعلنت عدة مصارف كبرى عن انخفاض كبير في أسعار أسهمها.
7 - قررت جميع البنوك الأوروبية تجميد صناديقها العاملة في المجال العقاري في الولايات المتحدة، حيث جمد بنك (BNP Paribas) أكبر بنك فرنسي مدرج بالبرصة استثمارات قيمتها (2.3) مليار دولار.
8 - بنك (IKB Deutsche Industrie) الألماني تكبد خسارة تقدر بـ 954.818 مليون دولار.
9 - أقدمت الحكومة البريطانية على تأميم بنك " Northern Rock" للتمويل العقاري لمنع إشهار إفلاسه، وهي المرة الأولى منذ سبعينيات القرن الماضي التي يتم فيها تأميم شركة بريطانية.
10 - بنك JP Morgan Chase"" أعلن شراء بنك الأعمال الأميركي " Bear Stearns " بسعر متدن مع المساعدة المالية للاحتياطي الاتحادي.
11 - باعت مؤسسة " " citi group 7.5 مليار دولار من السندات إلى هيئة استثمار أبو ظبي الإماراتية الحكومية.
12 - خسائر مصرف credit suisse السويسري سجلت أرقامًا قياسية.
13 - الحكومة اليابانية تعلن أن خسائر مؤسساتها المالية نتيجة لأزمة قروض الرهن العقاري تضاعفت إلى 5.6 مليارات دولار بالأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2007م!!
المبحث الثالث: أسباب الأزمة المالية:
إن أسس الهندسة المالية التقليدية المنبثقة من فلسفة المذهب الاقتصادي الرأسمالي الحر لها الأثر الأكبر فيما حصل، وقد لا يبدو أثر تطبيقات هذه الهندسة المالية التقليدية إلا كفقاعة تظهر هنا وأخرى تظهر هناك، لكن تدحرج كرة الثلج يزيد من حجمها ويصبح أثرها واضحًا، وقد يذهب هذا الأثر بالأساس الفكري للمذهب الاقتصادي، وعليه فيمكن إرجاع الأزمة المالية إلى الأسباب التالية:
أولاً: الربا:
لقد ارتبطت بوادر الأزمة بصورة أساسية بالارتفاع المتوالي لسعر الفائدة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذ عام ٢٠٠٤، وهو ما شّكل زيادة في أعباء القروض العقارية من حيث خدمتها وسداد أقساطها. وتفاقمت الأزمة بحلول النصف الثاني من عام ٢٠٠٧م، حيث توقف عدد كبير من المقترضين عن سداد الأقساط المالية المستحقة عليهم.
وهذه نتيجة طبيعية لأن الربا عنصر خفي محفز على التضخم. وقد نبه اقتصاديون غربيون كبار لهذا الأثر المسيء لكن جشع المؤسسات والأفراد أعمى بصيرتهم بتفضيل المصلحة الفردية بصورة مطلقة على المصلحة الجماعية (العالمية).
فالتوسع الهائل في الإقراض لجني الأرباح، دمر الاقتصاد، وتزايدت حجم المديونيات حتى صارت أكبر من نمو الاقتصاد الحقيقي نفسه.
فمنذ عقدين من الزمن تطرق الاقتصادي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد (Maurice Allais) إلى الأزمة الهيكلية التي يشهدها الاقتصاد العالمي بقيادة "الليبرالية"[3] معتبرًا أن الوضع على حافة بركان، ومهدد بالانهيار تحت وطأة الأزمة المضاعفة (المديونية والبطالة). واقترح للخروج من الأزمة وإعادة التوازن شرطين هما:
• تعديل معدل الفائدة إلى حدود الصفر.
• مراجعة معدل الضريبة إلى ما يقارب 2%.
وهذا ما يكاد يتطابق تمامًا مع إلغاء الربا ونسبة الزكاة في النظام الإسلامي.
وقد تقدم بعض صوره في باب الربا والصرف، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 130] [4].
فالربا من أكبر الكبائر في شريعتنا، وقد أعلن الله الحرب على أصحابه في قوله تعالى ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278، 279] [5].
وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار[6].
وتنكير الحرب للتعظيم، وزادها تعظيمًا نسبتها إلى اسم الله الأعظم، وإلى رسوله الذي هو: أشرف خليقته[7].
ثانيًا: التوسع بالدين:
من أسباب الأزمة المالية عملية بيع الديون العقارية وذلك من خلال تصكيكها - تجميعها وتحويلها إلى أوراق مالية لا يمكن لأي مستثمر في العالم شراؤها - وهو أمر مألوف في الاقتصاد ويسمى توريق الديون التقليدي ومن ذلك حسم السندات والكمبيالات. لكن الأمر توسع على الصعيد المصرفي الدولي وصيرته مصارف الولايات المتحدة ظاهرة في نهاية الثمانيات سمي: "بجنون الثمانينات" بسبب تكالب المصارف على توريق ديونها[8]. وهذا ما يفسر انعكاس الفشل المالي في السوق الأمريكية على السوق الأوربية بشكل مباشر.
وبعبارة أكثر وضوحًا يتم تحويل الديون بعد تصكيكها إلى سندات مالية، ويعمل لها تأمين مخاطر، وتباع كأوراق ائتمانية على شركات استثمارية وعلى مستثمرين، ومع رهن يربط بها.
وهذه القروض الجديدة تقوم بنوك أو مؤسسات مالية تحصل بها على قروض جديدة، وهكذا، حتى تكونت أصول مالية ساقطة رديئة، تثمينها صعب، وشراؤها عسير.
وإذا ما راجعنا مسألة "بيع الدين الحال لمن هو عليه بدين آخر"[9] وتطبيقها المعاصر علمنا كيف نظمت الشريعة هذه المسألة المهمة بخلاف الاقتصاد الغربي الذي تسبب في هذه الأزمة.
ثالثًا: البيوع الوهمية (البيع بدون تقابض):[10]
الاقتصاد العالمي مبني على وهم مستندات مالية لا مقابل لها، وقيمتها مرتبطة سياسيا بحجم الطلب، في سيل من المضاربات من دون تسلم فعلي للمواد.
هذه الشكلية من التعامل يدحضها النظام المالي الإسلامي بمعناه المادي، حيث أن في رأي كثير من الفقهاء، أن التاجر إذا اشترى حنطة مثلا ولم يستلمها، لا يسمح له أن يربح فيها عن طريق بيعها بثمن اكبر، ويجوز له ذلك بعد استلامها، مع أن عملية النقل القانونية تتم في الفقه الإسلامي بنفس العقد، ولا تتوقف على عمل إيجابي بعده، فالتاجر يملك الحنطة بعد العقد، وان لم يستلمها، ولكنه بالرغم من ذلك لا يسمح له فقها بالاتجار بها، والحصول على ربح ما لم يستلم البضائع، حرصا على ربط الأرباح التجارية بعمل، وإخراج التجارة من كونها مجرد عمل قانوني يدر ربحًا.
والشريعة نهت عن بيع الشيء قبل قبضه حتى يكون البيع حقيقيًا، فمن اشترى شيئًا فليس له أن يبيعه حتى يقبضه وينقله من مكانه.
وعند التأمل في "أحكام قبض المبيع" تحديدًا مسألة: بيع المبيع قبل قبضه من بائعه أو غير بائعه"[11].
فالنهي عن بيع ما لم يقبض له حكم بالغة يعجز النظام الاقتصادي العالمي عن وضعها، بما يكفل للشريعة الإسلامية التميز والمصداقية المطلقة في أنها من لدن حكيم خبير.
فأساس المشاكل المالية والمخاطر الدولية التي تهدد النظام المالي الدولي هو تخطي هذه القاعدة.
فإذا باع المشتري السلعة لآخر قبل قبضها، ثم باعها الثاني لثالث، والثالث لرابع وهكذا... كما يحدث كثيرًا في الأسواق المالية اليوم، نشأ عن ذلك هرم من الالتزامات التي يتكئ بعضها على بعض بصورة هشة جدًا.
فإذا أخفق الأول أو من يليه في تسليم المبيع، تسلسل إخفاق هذه العقود واحدًا تلو الآخر، وتحول هذا الهرم إلى هرم من الديون الحاَّلة التي يجب على كل مدين فيها سداد دينه فورًا، وكلما كبر هذا الهرم كلما ارتفع احتمال انهياره من أي موضع فيه.
وهذا من شانه أن يزعزع الثقة في أداء الاقتصاد واستقراره، فمنع الشارع الحكيم هذا التصرف من أساسه سدًا لهذا الباب.
ولذلك أصدرت الهيئة الفرنسة العليا للرقابة المالية - وهي أعلى هيئة رسمية تعنى بمراقبة نشاطات البنوك - في وقت سابق قرارًا يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية التي يتميز بها النظام الرأسمالي واشتراط التقابض في أجل محدد بثلاثة أيام لا أكثر من إبرام العقد، وهو ما يتطابق مع أحكام الفقه الإسلامي[12]، فهل من عودة إلى شريعة الله؟
رابعًا: إشهار الإفلاس:
إن قانون إشهار الإفلاس الذي أصدرته الولايات المتحدة الأمريكية هو الطريقة الأسهل للقضاء على أية مطالب قانونية، وهو بمثابة ممحاة تمحو كافة العقود للمؤسسات لكنه يجعل من الصعب شطب ديون الشخص الذي أشهر إفلاسه الشخصي. وعليه، إذا أصبحت قوانين إشهار الإفلاس أكثر صعوبة فإن المصارف ستجد نفسها فجأة تمتلك قصورًا وبيوتًا وأشياء أخرى كثيرة لا تريدها حقًا، وستواجه مشاكل عديدة للتخلص منها لقد أشهر أكثر من مليوني أمريكي إفلاسهم عام ٢٠٠٥م.
والغريب أن القانون قد استبعد بشكل محدد الفيضانات كسبب لإشهار الإفلاس. وفي هذا تضييق شديد على الناس، فالأصح أن يشدد القانون على التوسع في الدين لأنه السبب، أما الإفلاس فهو نتيجة، فما الفائدة من توريط الناس ثم حصرهم في الزاوية إلا استعبادهم؟ ودليل ذلك ما ذكرته عضو الكونغرس الأمريكي (Sheila Jackson Lee): "أنفقت المصارف ستة وثلاثين مليون دولار لإصدار قانون إشهار الإفلاس، وأضافت شركات بطاقات الائتمان ثلاثة عشر مليون دولار أخرى، وبعدها أضافت جمعيات رجال الأعمال مئة مليون دولار أخرى. وأصبح المجموع مئة وأربعة وخمسين مليون دولار فقط لإصدار القانون"[13].
وقد سبق بحث أصل هذه المسألة في باب الحجر المسألة الأولى منه، فليراجع.
يتبع
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك