10-30-2014, 07:56 AM
|
مشرف
|
|
تاريخ التسجيل: Jun 2013
المشاركات: 7,826
|
|
الأطر المفاهيمية للتقنيات فائقة الدقة
الأطر المفاهيمية للتقنيات فائقة الدقة
حسن مظفر الرزّو
1- مقدمة:
تعتمد خصائص المواد على أسلوب ترتيب ذراتها في بنائها الجزيئي، فإعادة ترتيب ذرات الكربون المقيمة في مادة الفحم الحجري تثمر عن الحصول على مادة الماس Diamond، وإعادة ترتيب الذرات الموجودة في التربة، والماء، والهواء تنتج لنا العشب الأخضر، الذي يبهج النفوس بخضرته اليانعة.
ومنذ أن باشر الإنسان رحلة التكيُّف مع العالم الذي يحيط به، محولاً مكونات الطبيعة الجامدة إلى أدوات تفيده في دفع عجلة حياته اليومية، وتذلل من صعابها، فنَحَت بأدواته البدائية الحجر، وصخر الصوَّان لإنتاج أدوات نافعة، باشر بالخطوة الأولى على طريق إعادة قولبة المواد الطبيعية بأساليب الصب Casting، والطحن Milling، والسحق Grinding، والتشظية الرقاقية Chipping.
واستمرَّت رحلة الإنسان الشاقة في تغيير خصائص المواد وإعادة قولبتها؛ لكي تتكيف مع ما يدور في مخيلته من أفكار وإبداعات؛ لكي يحيلها إلى موادَّ صلبةٍ على أرض الواقع، فيشق بأسنَّتها الأرضَ الصلبة؛ ليرسي وجوده على رقعة البسيطة.
بعد أن استنفد الإنسان المعاصر الإمكانيات التي يتيحها العالم التقليدي، بات يتوجه بنظره صوب العالم المتناهي في الكبر، فأطلق مركباته الفضائية؛ لكي تمخر في عباب الفضاء الخارجي؛ لاكتناه مجاهله، واستغلال المزيد من الموارد المتاحة فيه؛ لتحريك عجلة تطور التقنيات التي لا تتوقف أبدًا، ثم بدأ في عمليات تنقيب متأنية بالعالم المتناهي الدقة؛ ليتلمس الجوانب الخفية من عالمٍ يسوده منطقُ الجزيئات، والإلكترونات، والبروتونات؛ لعله يجد فيه حلاًّ إضافيًّا للعقبات التي تعترضه في العالم التقليدي، الذي بات مثقلاً ببصمات التطبيقات العلمية، التي قاربت حدودًا يصعب تجاوزُها بالتقنيات التقليدية، مع ظهور الحاجة إلى صناعات توفر منتجات تمتاز بكفاءةِ أداءٍ عالية جدًّا، ولا تطرح إلى البيئة التي أنهكتها آثارُ التلوث المزيدَ من الملوثات، التي توشك أن تحيل العالم الذي نقيم فيه إلى أرض يباب؛ بتأثير الانحباس الحراري، والتصحر المستمر، وانحسار الغطاء النباتي.
ظهرت التقنيات فائقة الدقة؛ لتجاوز العقبة التقنية التي ورثناها عن الأساليب التقليدية، فاتجهت صوب التخطيط لإنتاج مواد أو معدات مستحدثة، عن طريق إعادة ترتيب جزيئاتها على المستوى الذري (ذرة/ ذرة)، أو المستوى الجزيئي لإنتاج هيكلية بنائية جديدة من المواد والأدوات التي تمتلك قوة ومتانة، تزيد بعشرات الأضعاف عن تلك التي تمتلكها مواد مشابهة تم تصنيعها بالطرق التقليدية، مع منحها خصائص جديدة، كالدقة الفائقة، والمرونة، التي تتيح لها إمكانية التعامل مع مستويات الخلية، أو الذرات؛ لتحقيق أهداف محددة في ميادين علوم المستقبل، كهندسة الجينوم، أو هندسة رقاقات الحاسوب، أو حواسيب التقنية الحيوية.
2- التقنيات التقليدية والمستقبلية:
ترتكز التقنيات المعاصرة على المبادئ التقليدية ذاتها التي تبنَّاها الإنسان منذ ما ينيف على ثلاثة آلاف عام في تعامله مع المواد التي تحيط به؛ لكي يسخرها في إدارة عجلة حياته على كرتنا الأرضية.
كانت تقنية نحت وتقطيع حجارة الصوان هي أكثرَ الآليات تطورًا لدى الإنسان في فجر التاريخ، حيث عمد أجدادنا الأوائل إلى نحت الحجارة الصمَّاء، والتي تحوي على مليارات المليارات من الذرات؛ لاستخلاص لبابها الذي التصقت به صورة منتجاتهم من تماثيل، وجفان، وأدوات، بعد أن نجحوا بجهدهم العضلي، ومهارتهم العجيبة في إزالة بضعة ملايين المليارات من الذرات المقيمة في أجسام هذه الحجارة.
ثم لم يلبث الإنسان أنِ اهتدى إلى تقنية السحق والطحن، ثم قولبة المسحوق ومعاملته بالحرارة، ومواد إضافية؛ لإنتاج أدوات من مادة البرونز، وسبائك أخرى، ثم عاود صقل القوالب الجديدة، وإزالة الشوائب التي تغلفها؛ لتظهر بأزهى صورها.
إن النظرة الفاحصة إلى التطور التاريخي لتقنياتنا المعاصرة تؤكد نجاح الإنسان في تطوير الآليات الخاصة بعمليات النحت والتقطيع، والسحق والقولبة، بعد أن عمد إلى توظيف مكائن وآلات سريعة، تعمل بحواسيب ذكية، لتقطيع صفائح السليكون إلى شرائح صغيرة، وإنشاء دوائر إلكترونية دقيقة على سطوحها؛ لكي نحصل على رقاقات الحاسوب التي لا تتجاوز مساحتها على انج مربع واحد.
لقد ارتقت تقنياتنا بحيث نجحت بالتوغل في أعماق طبقات السليكون، لإنتاج دوائر إلكترونية لا يتجاوز سمك مادة نسيجها بضعة مايكرونات، وتحوي على بضعة ملايين من الترانزستورات، فأضحت بمنظور عصرنا منتجات بالغة الدقة، إلا أن اللافت للنظر هو أن هذه الرقاقات لا زالت تحوي على بضعة ملايين من الذرات.
يبدو واضحًا بأن تقنياتنا منذ فجر التاريخ، وإلى بدايات القرن الجديد - قد بقيت حبيسة لنفس المبدأ في التعامل مع المادة الخام بأحجام كبيرة تفوق حجم المنتج النهائي، ويتركز دور هذه التقنيات في إخراج المنتج من زحمة الكتل المتراصة للمادة الخام، التي تبدو وكأنها تتعمد إخفاء صورة المنتج عن أنظارنا وراء طبقاتها المتراصة.
أما التقنيات التي بات ينادَى بها في بداية القرن الحالي، فإنها تدعو إلى مفاهيمَ جديدةٍ، تستخدم أسلوبًا معاكسًا، يبدأ مع الذرات بوصفها المادة البنائية الأساس، فتركب الذرات مع بعضها البعض، ونستمر في شد خيوط نسيجها الجزيئي؛ لكي نكمل تصنيع المواد التي سنستخدمها في حياتنا اليومية بالمستقبل القريب.
ولما كانت الأبعاد التي تسود عالم الذرات والجزيئات تقاس بوحدة النانومتر، التي تساوي جزءًا من 1012 جزءًا من المتر الواحد - أطلق على التقنية الجديدة تقنيات فائقة الدقةNanotechnology، أو تقنيات جزيئيةMolecular Technology.
3- جولة في النسيج الموغل بالدقة للمواد:
لكي تتوفر لنا صورة واضحة المعالم عن العالم الذري، والفضاء المتاح فيه؛ سنحاول التوغل برفق في هذا العالم المتناهي بالصغر؛ لكي تتعمق مفاهيمنا بسلوك الذرات، والجزيئات في عالمها الذي لم نألف متغيراته وخصائصه الفريدة.
في البداية يمكننا تخيُّل الذرات كخرزات Beads، أما الجزيئات فتكون عبارة عن مجموعة متكتلة من الخرزات، فإذا كان حجم الذرة بحجم الخرزة، فإن حجم الجزيئة المعقدة سيكون بحجم قبضة يدنا، إن الصورة المتخيلة ستوفر لنا مناخًا مناسبًا للتعامل مع مفردات العالم الجديد، الذي لا يزيد حجم ذراته على 1/ 10000 من حجم البكتريا التي لا تدركه العين المجردة، بالمقابل فإن حجم البكتريا لا يزيد على 1/10000 من حجم البعوضة.
تسلك المواد المحيطة بنا السلوكَ الذي تتصف به جزيئاتها، فلا يحتفظ الهواء بحجم أو مظهر ثابت؛ لأن جزيئاته تتحرك بحرية مرتطمة مع بعضها في الفراغ، أما الماء فتلتصق جزيئاته مع بعضها، فيشد بعضها بعضًا عند انتقاله من موضع إلى آخر؛ لذا يشغل الماء حجمًا ثابتًا، بينما يتخذ شكل الإناء الذي يحتويه، من جانب آخر فإن النحاس بشكله وقوامه نتيجة لارتباط جزيئاته بقوى متينة، لكنه في الوقت نفسه يطاوع النحاس عمليتي الطرْق والانحناء؛ بسبب قدرة الذرات على الانزلاق، مع بقاء ارتباطها فيما بينها.
أما الزجاج، فيتفتت بالطرْق؛ لأن ذراته تنفصل عن بعضها، وتأبى الانزلاق الذي تمارسه ذرات النحاس، فتنفصل جزيئاته عن بعضها الآخر.
جدول رقم (1) - أرقام وحقائق بمعيار فائق الدقَّة.
الوصف
القياس: نانومتر
1
سمك شعرة إنسان
100000
2
قطر كرة دم حمراء
10000
3
قطر فيروس حي
100
4
طول سلسلة تتألف من ثلاث ذرات من مادة السليكون
1
أظهرت الدراسات أن المسافة المقيمة بين ذرة وأخرى تتراوح بين 0.08 – 0.1 نانومتر، ويتوقع بأن العمل في وسط تتراوح مسافته بين 0.1 – 0.2 نانومتر سيوفر معلومات مفيدة ومثمرة، يمكن الاستفادة منها في تمييز طبيعة وخصائص الذرات الموجودة في البنية الجزيئية لمركبٍ ما.
4- التقنيات فائقة الدقة: البدايات والأسس النظرية:
تسود عالمَ الذرات والجزيئات - والذي يمتاز بكونه متناهيًا في الصغر - مقاييسُ لا تصلح للمقارنة مع المقاييس السائدة في عالمنا الفيزيائي المتناهي في الكبر، وتحكم هذا العالمَ (الذي لا تستشعره مجسات حواسنا الخمس بذاتها) ثوابتُ، وآلياتٌ، وخصائص فريدة، وجديدة.
كما أن التقنيات التي تصلح للتعامل مع مكوناته تقتصر على تلك التي تمتلك القدرة على الولوج في مسالكه الضيقة، والتي لا تدركها العين البشرية إلا بصعوبة بالغة.
وقد أُطلق على هذه الآليات التقنية المستحدثةِ تقنياتٌ فائقة الدقة؛ لامتلاكها ميزة القدرة على التعامل مع المستوى الجزيئي في المواد المختلفة، كما أنها تختص بمعالجة الأشياء بصورة معكوسة للمعالجات التقليدية؛ وذلك لأنها تشرع في تصنيعها من تخوم المستويات الجزيئية، بدلاً من التعامل مع حجم كبير من المواد الخام.
إن أهم العقبات المفاهيمية التي تعترض العاملين على تأسيس تقنيات جديدة لهذا المضمار الفريد - تكمن في عدم توفر صورة واضحة المعالم، وخبرة عميقة في طبيعة الآليات السائدة على المستوى الذري والجزيئي، ولا يمتلك العلماء والمهندسون سوى حساباتهم النظرية التي تصف خصائص التغير بمعادلات رياضية صماء، أما البُعد الواقعي الملموس للتعامل مع هذه التقنية الجديدة، وطبيعة السلوك الذي تسلكه الجزيئات في عالمها المتناهي بالصغر - فلا زال بعيدًا عن المنال في كثير من جوانبه.
4/ 1- موارد التقنيات فائقة الدقة:
شاع استخدام المعادن بالعصور المختلفة، في ضوء طبيعة التقنيات السائدة بكل عصر من العصور، فبدأت تباشير التقنية الأولى في العصر الحجري، ثم لم يلبث أن جاء العصر البرونزي بأدواته المعدنية البراقة، وساد عصرُ الحديد والفولاذ ردحًا طويلاً من الزمن، تطورت خلاله التقنيات التي وظفها الإنسان لخدمة أنشطة حياته الأرضية بمختلف مراتبها.
وتراجع عنصر الحديد، ليعطي مكانًا متميزًا لعنصر السليكون، بعد سيادة تقنية المعلومات وشبكة الإنترنت، التي ترتكز آلتها إلى رقاقات الحاسوب، والبطاقات الإلكترونية، التي تستمد مادتها من عنصر السليكون، ويبدو بأن التقنيات فائقة الدقة لن تُبقي عنصرَ السليكون في مكانته التي تبوَّأها في أيامنا الحالية؛ لأن آلتها تفتقر إلى معدن يتميز بخصائص فريدة، يعجز السليكون بخصائصه الفيزيائية والكيميائية عن توفيرها.
إن العصر الجديد هو عصر عنصر الكربون، الذي يتألف من أربعة ذرات كربون ترتبط مع بعضها بآصرة تساهمية متينة، وإن الهيكل البلوري لمادة الماس هو الذي سيمثل الموارد الأساس لآلات ومعدات التقنية فائقة الدقة، والتي يتوقع لها مكانة متميزة خلال النصف الأول من قرننا الحالي، إذًا العالم مقبِل على عصر تقني جديد، هو عصر الماس Diamond Age.
يعتبر عنصر الماس أكثر العناصر المعروفة صلادة؛ حيث تصل قيمة معامل موهس Mohs للصلادة إلى 10 درجات على مقياسه الذي تراوح قيمته بين 1 و 10، تتجلى صلادة هذا العنصر بمقاومته الفائقة لعمليات الخدش، ومقاومته لعمليات التآكل الميكانيكي المختلفة.
يتبع
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|