الغلو والعلمانية وعمارة الأرض
وائل بن إبراهيم بركات
قال تعالى: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾ [هود: 61].
وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 10].
لقد خلق الله سبحانه وتعالى البشر في الأرض، بقصد عبادته سبحانه وتعالى، إلهًا واحدًا لا شريك له ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
وحتى يقوم الإنسان بهذه الغاية؛ سخَّر الله له كلَّ ما في الكون لأجله، السموات والأرض، والكواكب والأقمار، والأشجار والأحجار والجبال، والبحار واليابسة، والحيوانات والطيور.
سخَّر الله له ما يراه وما لا يراه، ما يعلمُه وما لا يعلمه؛ حتى يقومَ بالهدف من وجوده في الحياة حقَّ القيام، وهو عبادة الله سبحانه عبادة شاملة، ليست مقطَّعةَ الأوصال، ولا عبادةً مشوهة، ولا عبادة مزاجية؛ وإنما عبادة شموليَّة متوازنة.
فالعبادة هي: كل ما يحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة؛ ولذا فحياة الإنسان كلها في عبادة، حتى منامه وشهواته وألعابه، إذا ابتغيت بها مرضاة الله سبحانه وتعالى، قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((وفي بُضْعِ أحدكم صدقةٌ))، قالوا : يا رسولَ اللهِ، أيأتي أحدنا شهوتَه ويكون له فيها أجرٌ؟ قال : ((أرأيتم لو وضعها في حرامٍ، أكان عليه فيها وزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلالِ كان لهُ أجرٌ))؛ مسلم ( 1006).
حياة الإنسان كلها في عبادة، ذلك الإنسان من الجسم والروح، فلا يوجد جسم متعبَّد وروح ليست متعبدة، بل هما معًا الروح والجسم، الروح والمادة.
ذلك الإنسان الذي لا تنتهي حياته في الدنيا وتنقطع عن الآخرة، بل حياة الدنيا وحياة الآخرة هما طريق واحد، فلا يوجد طريق للدنيا اسمه العمل، وطريق للآخرة اسمه التدين، إنهما طريق واحد الدنيا والآخرة معًا، والعمل والتدين معًا.
وبهذا التوازن بين الروح والمادة، وبين العمل والتدين، تكون حياة الإنسان عبادة لله سبحانه.
الغلو وعمارة الأرض:
إن عمارة الأرض عبادة مقيدة بطاعة الله سبحانه واتباع أوامره، والامتناع عما نهى عنه، وهذه العمارة مطلوبة من كل البشر؛ ولذا يدعو الإسلام إلى عبادة الله، وليس إلى عبادة المادة التي تورث الإنسانية البغضاءَ، والعداوة، والكراهية، والحروب المدمرة، ويدعو الإسلام إلى البناء والتعاون والتكافل، فلا يوجد تمييز عنصري، ولا تمييز لوني، ولا تمييز جنسي، وبالتالي لا يوجد هناك حقد أو استعمار بالمعنى الشائع اليوم وهو (استخراب)؛ وإنما العدل والكرامة والحرية المستمدة من توحيد الله بالعبادة.
ونتساءل ما هو الغلو؟
يعبر الشرع في الإسلام عن الغلو بالتشديد والتنطع.
والغلو: المبالغة في الشيء بتجاوز الحد؛ ولذا نفَّر الإسلام منه، وحذرنا منه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: ((إيَّاكم والغلوَّ في الدين؛ فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين))؛ صحيح ابن ماجه (2473)، ومسند أحمد (85/5).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هلك المتنطِّعون - قالها ثلاثاً))؛ مسلم (2670).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشددوا على أنفسكم؛ فيُشدَّد عليكم؛ فإن قومًا شددوا على أنفسهم، فشُدِّد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهْبانِيَّةً ابتدعُوها ما كتَبْناها عليهم))؛ ذكره ابن كثير تفسير سورة الحديد.
عن أنس أن نفرًا من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم سألوا أزواجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن عملِه في السر، فقال بعضُهم: لا أتزوَّجُ النِّساءَ، وقال بعضهم: لا آكلُ اللَّحمَ، وقال بعضُهم: لا أنام على فراشٍ، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه فقال: ((ما بالُ أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنامُ، وأصوم وأفطرُ، وأتزوَّج النساءَ، فمن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مِنِّي))؛ مسلم (1401).
وبهذه المفاهيم عن الغلوِّ لن يستطيع الإنسان المستخلَفَ أن يعمر الكون، ويعيش فيه في سلام النفس، وسلام المجتمع، وسلام العالم.
وبهذه المفاهيم عن الغلوِّ لن يغمرَ قلبَ الإنسان نورُ الإيمان، ولن تتهذَّب أخلاقه.
التساهل وعمارة الأرض:
إن خير من يمثل الخروج من الدين هي العلمانية، التي هي إقامة الحياة على غير الدين، وبالتالي الضياع، وتنحيةُ الشريعة، واتباع الباطل، والتفنُّن في إبراز العُري والسفور، وقلب موازين المرأة وإخراجها عن مسارها الصحيح.
وبهذه المفاهيم المنحرفة لن نشيد حضارة وعلمًا.
وبهذه المفاهيم تفسد أخلاق الشباب، وتنحَلُّ أخلاق الفتيات، ويخرج جيل بين هذا وذاك.
وبهذه المفاهيم سوف يظهر التعصب الفكري، والإفتاء بغير علم، والخوض في كتاب الله وسنة نبيه بغير فهم ولا وعي ولا إدراك.
إن عمارة الأرض لا تكون إلا بالتوازن بين الروح والمادة، بين طريق الآخرة وطريق الدنيا، ولن تعمر الأرض بغير ذلك.
فعلمانية الغرب المنكرة للدين، وكذلك علمانية الشرق لا تثمر حياةً عامرة بالخير، مليئة بالبناء والحضارة، فالإسلام يمقتُ الخنوع والخضوع إلى الدنيا فتكون هي المسيطرة على حياة الإنسان وأحواله، وكذلك الغلو في الدين، والتبتُّل والرَّهْبنَةُ تُشوِّهُ الإسلامَ، وتدمر عمارة الأرض، فالإسلام ضد الغلو وضد التعصب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الدين يسر، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا وأبشِروا، استعينوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحةِ وشيءٍ من الدُّلْجةِ))؛ البخاري (39).
إن عمارة الأرض لا تكون إلا بالتوازن بين الثوابت والمتغيِّرات، فالثوابت ممثَّلة في العقائد: (الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره).
والعبادات المفروضة: (الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج).
والعبادات التطوعية: (النوافل، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء).
والأحكام القطعيَّة الثابتة في الأسرة: المعاملات، والقضاء، والجهاد، والعَلاقات الدولية.
والقيم الأخلاقية التي بين العبد وربه: كالإخلاص، والرجاء، والخشية.
والتي بين العبد ونفسه: كالنظافة، والعفَّة، والصبر، والحياء.
والتي بين العبد والعبد في الجانب الأُسريِّ: كحقوق الآباء، والأزواج، والأولاد، وصلة الرحم.
والجانب المجتمعي: مثل فعل الخير، وحقوق الجار، وقول الصدق، والوفاء بالوعد والعهد، والأمانة والعدل وغيرها.
والقيم الأخلاقية السلبية: (عدم القتل، والسرقة، والزنا، والربا، والشذوذ الجنسي، وشرب الخمر والمخدرات، وأكل مال اليتيم، وشهادة الزور وغيرها).
ويمكن إجمال الثوابت بما ثبت بدليل شرعي (قطعي أو ظني)، أو بإجماع الأمة إجماعًا صحيحًا.
أما المتغيِّرات، فهي الأحكام الاجتهادية القائمة على المصالح المرسلة أو العُرفِ.
وهناك المتغيِّرات الدنيوية: في مجال الزراعة، والصناعة، والطب.
وبهذا التوازن بين الثوابت والمتغيرات لن نجد سبيلاً للغلو، ولن نجد سبيلاً للعلمانية والتساهل.
وبهذا التوازن نعمرُ الأرض، وتتجسد الوحدة العقلية والشعورية والفكرية للأمة، ونبني الحضارة التي تعيد للبشرية جميعًا السلامَ، والأمن، والعدل، والحرية.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك