صلاة الاستخارة
د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم
إن الحمدَ لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ... ﴾ [النساء: 1].
أيها المؤمنون!
من عجيب شأن الصلاةِ جبْرُها ضعفَ العبد وعجزَه، ومدُّه بقوة تعينه على تخطّي مشاق الكبَد الذي صُبِغت حياتُه به.
ومن أوجه جبر الصلاة ذلك الضعف البشري، أن تكون مرشدةً له في اختيار الرأي الصائب واتخاذ الموقف الراشد؛ إذ كثيرًا ما يخفى على المرء وجهُ الصواب فيما يشتبه عليه أمرُه، أو لا يَعلمُ عاقبتَه ومآلَه وإن تبدّى له استحسانُه ابتداءً مع ما جُبل عليه من نقص العجلة، سيما فيما عظم خطره؛ من تعلُّقٍ بأمر جماعة، أو جهةٍ قد تقلّد أمرها، أو كان أمرًا ذا علاقة بحقوق الخلق. فمن رحمة الله بعباده ولطفه بهم، ولما للصلاة ذات الدعاء من قدر عظيم عنده؛ فقد ندب عبده إن همّ بأمر ولم يتضح له رشدُه أو تعارض مع أمرِ رشدٍ آخر سواء كان أمر دين أو دنيا - أن يَسبر خيرتَه وصوابَه وأولويتَه، وأن يستشرفَ مآلَه؛ وذلك بما شرع من « صلاة الاستخارة » التي بلغت من اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم شأنًا جعلته كثيرَ التعاهد لأصحابه بتعليمهم الاستخارة كما كان يعلمهم السورة من القرآن.
قال جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما -: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: «إذا همّ أحدكم بالأمر؛ فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنتَ تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله -؛ فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله -؛ فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني »، قال: « ويسمي حاجته » رواه البخاري.
عباد الله!
إن الاستخارة توحيد لله خالص؛ يحوي إقرار العبد بعجزه علمًا وقدرة، وتوكلَه على ربه، واستعانته به، وتفويضه الأمر إليه، واستقسامه بقدرته وعلمه وحسن اختياره له، وهي من لوازم الرضى بالله ربًا، ومن سبل إرضائه عبدَه؛ ولذا كانت الاستخارة من أجلِّ أسباب سعادة العبد في دينه ودنياه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « من سعادة ابن آدم استخارته لله » رواه أحمد وحسنه ابن حجر.
قال ابن القيم: " المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضى بعد وقوعه؛ فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما ". والاستخارة أخذ للنجاح من جميع طرقه؛ إذ هي سبيل الظفر بالخيرة التي لا يعلمها سوى الله، قال بعض الحكماء: " من أعطي الاستخارة لم يُمنع الخيرة "، قال عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما -: " إن الرجل يستخير الله - تبارك وتعالى -، فيختار له، فيسخط على ربه - عز وجل -، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة، فإذا هو خير له".
والاستخارة أمان من العجلة والندم وإن وقع بعدها ما يُكره؛ إذ كيف يكون ندمٌ من العبد مع بذله ما كلّفه الله به في تلمّسه خيرةَ ربه؟! قال سعيد بن عبدالعزيز: " من استخار واستشار؛ فقد قضى ما عليه ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وثبت في أمره ".
وبركة الاستخارة عظيمةٌ جدُّ عظيمة، يقول ابن تيمية: " إذا عنّ للإنسان جهة؛ فليستخر الله -تعالى- فيها الاستخارة المتلقاة عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم؛ فإن فيها من البركة ما لا يحاط به ".
أيها المسلمون!
وبركة الاستخارة لا تحصل بمجرد نطق اللسان، وإنما تحصل لمن دعا بها مستشعرًا عجزه وجهلَه بمصالحه، وعلّق أمله بربه، واستحضر المعانيَ العظيمةَ وآدابَ العبودية التي حواها دعاءُ الاستخارة حين يناجي ربه طالبًا الخيرةَ من العالِم بعواقب الأمور وتفاصيلها وخيرها وشرها، وطالبًا من ربه القدير إقدارَه؛ فإنه إن لم يُقْدِرْه؛ فهو العبد العاجز، وطالبًا من ربه الكريم فضلًا من فضله العظيم، فإن لم ييسره له، ويهيئه له؛ وإلا فهو متعذر عليه، ثم إذا اختاره له بعلمه، وأعانه عليه بقدرته، ويسره له من فضله، فهو محتاج إلى أن يبقيه عليه ويديمه بالبركة التي يضعها فيه، والبركة تتضمن ثبوته ونموَّه، وهذا قدر زائد على إقداره عليه وتيسيره له، ثم إذا فعل ذلك كله فهو محتاج إلى أن يرضيه به؛ فإنه قد يهيئ له ما يكرهه فيظل ساخطًا ويكون قد خار الله له فيه. فما أجل رحمة الله بعبده! يختار له ما يعلم صلاحه له، وييسره له، ويُقْدِره عليه، ويرضيه به، ويبارك له فيه، ويرزقه السلوَّ عما لا خيرة له فيه وإن تعلقت نفس عبده به. قال أبو عبد الله الدينوري: " اختيار الله – تعالى - لعبده مع علمه بعبده خيرٌ من اختيار العبد لنفسه مع جهله بربه ".
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد، فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...
أيها المسلمون!
الاستخارة مكونة من صلاة ودعاء؛ فالصلاة ركعتان من غير الصلوات المفروضة، ويصح أن تكون سنة راتبة أو تحية مسجد أو ركعتي طواف أوصلاة ضحى على الراجح من قولي العلماء، واستخارة الحائض والنفساء بالدعاء دون الصلاة.
ولا تُصلى الاستخارة وقت نهي إلا في أمر يفوت ولا يمكن استدراكه؛ فتكون من ذوات الأسباب التي يجوز فعلها في أوقات النهي.
ويقرأ المصلي في صلاة الاستخارة مع الفاتحة ما شاء.
وأما الدعاء، فالأفضل أن يكون مع رفع اليدين بعد السلام على الأظهر من قولي العلماء. وعلى المستخير أن يتجرد من كل هوى، وأن يصدق في الافتقار وطلب الخيرة والتبرؤ من كل ما سوى الله – تعالى-.
وعلامة الخيرة بعد الاستخارة – كما ذكر أهل العلم – انشراح الصدر وما سبق وروده إلى القلب، وتيسر الأمر، وضد ذلك علامةُ انتفاء الخيرة من عدم انشراح الصدر، وتعسر الأمر. فإن لم يظهر شيء من تلك العلامات؛ فعلى العبد أن يستفتح ربه بتكرار الاستخارة والاستشارة، فإن لم يظهر له شيء بعد هذا التكرار؛ فليفعل ما اتفق له؛ فتلك هي الخيرة، وقد ورد ما يشهد لها في رواية الطبراني لحديث ابن مسعود رضي الله عنه في الاستخارة، فقد ورد في ختمها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ثم يعزم ».
ويجوز أن يجمع في الاستخارة الواحدة أكثر من حاجة وإن تنوعت وتعددت.
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك