نص خطبتي الجمعة لفضيلة الشيخ أ.د سعود بن إبراهيم الشريم حفظه الله بالحرم المكي بعنوان قول الله تعالى ? الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي? 18 ذو الحجة 1436هـ الموافق 2 أكتوبر 2015م
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفِرُه ونتوبُ إليه
ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا
من يهدِه الله فلا مُضلَّ له ومن يُضلل فلا هادِيَ له
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[1] ?َيا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا?[2] ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)?[3] . أما بعد ..
فيا أيها الناس ويا حجاج بيت الله الحرام لقد أتم الله لعباده أداء الركن الخامس من أركان الإسلام بعد أن وقفوا بعرصات المناسك وقضوا تفثهم واطّوفوا بالبيت العتيق فله وحده سبحانه الفضل والمنة على التيسير والتمام كما يسَّره واتمه على من قبلنا , ألا وإن هذا التمام المبارك عبادَ الله ليُزكي في خلدِنا طيف إتمام الله هذا الدين على نبيه ? في حجةِ الوداع التي نُعيتْ إليه فيها نفسه ? إذ قال الله جل شأنه ? إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)?[4].
إنها حجةٌ اجتمع فيها للنبي ? أمران :
أولهما : الإشارة إلى دنو أجله والذي أوضحه النبي ? في حجة الوداع بقوله (أَيّهَا النّاسُ ، اسْمَعُوا قَوْلِي ، فَإِنّي لَا أَدْرِي لَعَلّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا) .
والأمر الأخر : وهو إتمام هذا الدين وإكماله فما كان لرسول الله ? أن تُقبَض روحه وهو لم يبلغ رسالة ربه بتمامها لئلا يكون للناس حجةٌ بأن الدين ناقص لذلك قال سفيان الثوري رحمه الله (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة ؛ لأن الله يقول : ? الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا ?) .
ولقد اتفق أئمة التفسير أن هذه الآية نزلت في حجة الوداع , غير أن من المخجل عبادَ الله أن يغيب عن عقول بعض بني المسلمين حقيقةُ هذه الآية بقصدٍ أو بغير قصد حتى لاكت ألسنتهم وخطت أقلامهم لوثاتٍ وشبهات جادلوا بها فلبسوا الحق بالباطل واغتر بهم من الناس أغرارٌ وإمعون تكلموا فيما لا يعلمون , وقرروا ما يشتهون , زاعمين أن الإسلام لا يستطيع ملائمة الواقع المتجدد والأحداث الحضارية المترادفة , وأن الخطاب الإسلامي ينبغي أن يتغير فهو غير صالحٍ لكل زمان ومكان زعموا !.
والواقع عباد الله إنه لعيبٌ كبير وشماتةٌ إيّمُا شماتة أن يكون غير المسلمين أدرى بمعنى تلكم الآية ممن ولد في الإسلام وترعرع في كنفه; ففي الصحيحين (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا قَالَ أَيُّ آيَةٍ قَالَ ? الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا ? قَالَ عُمَرُ قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ ? وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ).
وإننا عباد الله بذكر ذلكم لا ندعو إلى الاحتفال بذلكم النزول كما هي عادةُ من يحرصون على الصور دون المعاني وإنما ندعو إلى أن تكون تلك الآية نبراسًا لنا معاشر المسلمين وحجة دامغةً ندفع بها مشاغبات أولئك المتهورين الذين يريدون أن يتسللوا من الدين لوذا بحجة أن في الواقع أمورًا ليس في الدين حَلُّها وإن ما نسمعه من أصواتٍ تفوهُ بمثل ذلكم أو نراهُ بأقلامٍ لم ترقم بضمير الخشية من الله ما هو إلا بعضٌ مما حذر منه النبي ? مما يكون في أعقاب الزمن فهو القائل صلواتُ الله وسلامه عليه (إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) رواه أبو داود والترمذي .
ألا إن خير الهدي هديه صلوات الله وسلامه عليه وهيهات هيهات أن يأتي الخلف في أعقاب الزمن بخيرٍ مما جاء به النبي ? وما كان عليه هو وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم , وإن من غربة الدين أن تلتصق به المُحدثات التي تشوه جماله وتطمس معالم سننه , في حين أن الدين إنما هو دعوة كمال بين تلك المحدثات فإذا ما تردد أحدٌ بين طريقين دعاه الدين إلى خيرهما وإذا تردد بين حقٍ وباطل دعاه الدين إلى الحق ; فدين الإسلام هو أصعب الطريقين وأحزم الأمرين بالنسبة لأهواء البشر لأن الانحدار مع الهوى من السهولةِ بمكان لا يُحاكي به الصعود إلى العلو لأن فيه الجد والاجتهاد ? وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ?[5] .
إن الله جل وعلا حينما أكمل لهذه الأمة دينها فلم يدع لها خيرًا إلا دلها عليه ولا شرًا إلا حذرها منه , فإنه سبحانه بعلمه وحكمته قد أحاط ضروريات دين الأمة وحاجياتها وتحسينياتها بسياجٍ منيع حتى تبقى تحت ظلٍ وارف من الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمدٍ ? نبيا ورسولا فحينئذٍ لا يَخلُص إليها ما يُعكّر صفوها أو يقوض بنيانها فلا تنهشها أنيابُ المتربصين ولا تجرحُها مخالبُ الماكرين شريطة أن يشيع بين ذويها روح الإخاء والعدل والإنصاف والإيثار والشفقة والتواضع لله ثم لدينه وخلقه ; إنها بتحصيل ذلكم عبادَ الله تنجو من مكر أعدائها وتجتمع كلمتها في الذود عن حياض الأمة حيث تجمعهم كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله ) التي لا يدانيها لغةٌ ولا عرقٌ ولا أرضٌ ولا لون وإنه متى شوهد بين بني الأمة أمارات السهر والحمى لما يصيبها من لأواء ومحن وتكالب اعدائها فإن ذلكم أكبر دليل على أنها جسد واحد لم تمزقه أدواء التنافر ولا علل الأهواء ولقد صدق الله ? يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ?[6] .
..
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم
قد قلت ما قلت إن صوابًا فمن الله وإن خطأ فمن نفسي ومن الشيطان
وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنبٍ وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه , وبعد
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن ما أصاب الأمة من وهنٍ ووهمٍ وهم لم يكن بِدعًا من الأمر ولا طَفرةً لم تُسبق بمسبباتها وإنما هو نتيجة شرخٍ في سياجها المنيع وثقوبٍ تكاثرت في حيطانها على حين غفلةٍ من ترميمها وصيانتها فترادفت عليها حلقات الخطوب حتى أصبحت كل فتنةً تحل بها تقول للأخرى أختي أختي .. وما أوجاع الشام إلا خيرُ شاهدٍ على الطغيان والجبروت والظلم والبغي ? وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ?[7] .
ألا إن الأمة الموفقة هي تلكم التي تدرك أن حسد القريب أو الصديق قد يفوق في الخطورة عداوة العدو وإن الأضرار التي تطالُها من أضرار بني جلدتها ممن ضعف وازعهم فغلبتهم شهواتهم وشبهاتهم قد تتجاوز في الإضرار ما يصنعه عدوها لأن في الحسد من دواعي المكر والتربص ما لا يكون في غيره ; وقد قيل (كُل ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ) , ولا أدل على ذلكم من قول يعقوب لابنه عليهما السلام ? لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى? إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ?[8].
ألا وإن بلاد الحرمين الشريفين حرسها الله لم تسلم من حَسدة ماكرين ومتربصين شانئين يستنشقون البغض والحسد فيستنثرون القعودَ لها كل مَرصَد لما حباها الله من رعاية الحرمين الشريفين مهبط الوحي ومُهاجَر النبي ? ورعاية حجاجها ومُعتمريها وزائريها فلم يصمتْ لأولئك لسانٌ ولم يجفْ لهم قلم في إيذائها بالتحريش والتشويش ولكنها بحمدِ الله خائبةٌ فلم تلق رجع الصدى لذلكم وإنما يضربُ في صخرٍ صلد يوهن يدى صاحب المعول فحسب .
فلأجل ذلكم كله نؤكد أن لدى بلاد الحرمين حرسها الله ضروراتٍ لا تقبل التلاعب بها ولا التجارب عليها فمن أراد أن يفرق ما اجتمع منها أو يشوش ما استقر فيها أو أن يبدل أمنها خوفا فلا مكان له بيننا جميعًا بل ستلفظه أفئدتنا وتطاله سياط ألسنتنا وأقلامنا فضلًا عن أن نهايته ستكون فشلًا ذريعًا ثقة بالله ثم بقوة يدٍ حازمة لا تعرف المزاح الأمني ولا الهرطقات الفكرية ولا مجازفات الفوضى الخلاقة , وأن يد الله على الجماعة ومن شذ عنهم شذ إلى النار بقول الله ومن أصدق من الله قيلا ?وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً ?[9].
..
هذا وصلوا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته المُسبحةِ بقدسه وأيّه بكم أيها المؤمنون فقال جل وعلا
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ?[10] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد
وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين
اللهم أعز الإسلام والمسلمين .. واخذل الشرك والمشركين
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين
اللهم فرِّج هم المهمومين من المسلمين ونفِّس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين واشف مرضانا ومرضى المسلمين
وسلم الحجاج والمسافرين برحمتك يا أرحم الراحمين
اللهم تقبّل من الحجاج حجهم .. اللهم تقبّل من الحجاج حجهم
اللهم ردهم إلى أهلهم سالمين غانمين يا ذا الجلال والإكرام
اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا ، واجعل ولايتَنا فيمن خافَك واتقاك ، واتبعَ رِضاكَ يا رب العالمين
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم
اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام
اللهم أت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها
اللهم كن لإخواننا المستضعفين في دينهم في سائر الأوطان
اللهم كن لهم في فلسطين وفي الشام وفي العراق وفي اليمن
وفي بورما وفي كل أرض يذكر فيها اسمك يا ذا الجلال والإكرام
اللهم وفق جنودنا المرابطين على الحدود اللهم وفق جنودنا المرابطين على الحدود اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم
اللهم سدد آرائهم وسهامهم يا ذا الجلال والإكرام
?رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ?[11] ?سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين ?[12] وأخر دعوانا أن َالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ