في حضرة الإصرار
سميرة بيطام
قد يكون ما سأكتبه حقيقة ساكنة في داخل صدر كل قارئ كريم فاضل، تعوَّد فَهْم حرفي الذي يصدح عاليًا، حتى في أوقات مرضي وتعبي؛ لأن الحق ليس له ظرف معين من الصحة والقوة والهدوء، بل يظهر كلما أراد لمعناه الحضور، ولا شيء يمنعه؛ لذلك أنا أكتب في كل مواقفي، وعلى وضعيات قد لا تكون مناسبة بالمرة لأن أتطوع وأُقرِّب القلم من يدي، لكنه الصوت الخفي الذي يُصرُّ على أن أبوح به عبر هذه الكلمات المتواضعة تواضع قناعتي ورضاي بما قسمه الله لي في كل أمور حياتي.
ناديت بالأمس أسماءً كنت أُقدِّرها كثيرًا، وأحترم فيها إقدامها على مسيرة العمل بكَدٍّ وجِدٍّ، ولكني اليوم لست أنادي أحدًا، ولن أنادي، ربما الموازين اختلت، والأفكار تشردت، والمبادئ رحلت، والقيم اضمحلت، والابتسامة خَبَتْ، والحبور رحل عني منذ زمن، هي كميات من الأحاسيس شعرت بها وأنا أُصرُّ أن أقول الحقيقة، ولن يكون بغير الحقيقة مدعاة لسهري اللحظة، ومن غير مشروب يريح تفكيري من حين لآخر؛ لأني عزفت على هكذا عادة من فترة قريبة، فكل ما في كِياني يتفاعل مع بعضه بانسجام، ولا شيء يعارض رفض حاسة مني، أو تقلب مزاج بعد ظهيرة أخذت فيها قسطًا من الراحة؛ لتعطيني الدفع القوي للكتابة ليلاً، أو فجرًا من غد اليوم الموالي، هي مواعيد تعودت عليها، حيث لا ثواني تطارد الدقائق في اصطدام للرغبات، ولا الساعة تؤجل تَرحال الجزء من الثواني حتى لا يكتمل ميعاد الساعة، هي دقات أحببتها لنفسي؛ لأشعر معها أني حية، ليس بفوضى أحدثها من حين لآخر، أو صراخ يندفع مني حال سوء تنظيم، أو ضياع مواعيد مهمة، كان لأيدي البشر دخل في هذا الخلط، وبعد هذا التنسيق والترتيب في دبكة المنبه لميعاد اليقظة، أنا اللحظة يقظة؛ لأتفاعل بما أشعر به، وأوضحه خلاصة وعصارة ما استنتجته في حضرة إصراري دائمًا على قول الحقيقة، والبداية أن عجبًا لهذا الزمن، ولو أن العجب في بَشَر اليوم، ولما أقول عجبًا في لحظة غضب قد لا أنتبه لفرز السبب من المسبب بأيِّ ظرف كان؛ لأن المهم من كلامي أن الخطاب الذي يوجه للعقول أصبح غير مفهوم، والحواس التي ألِفنا فيها التقبل والإقبال هي الأخرى لا تؤدي وظيفة الرغبة كما ينبغي، فلا طلب لك سيلبيه مَن طلبت منه خدمة أو معونة، ولا رسالة واضحة اللغة سيعمل بها من أرسلت له الخطاب، ولا الحنان يأخذ مدارجَ من التدفق من صدورٍ تحنُّ وترحم ومن غير حدود، ولا صلة أرحام أصبحت تزين مجالسنا مثل السابق إلا لحاجة مادية.
نعم، يجب أن تبدو يا أخي، ويا أختي، في كامل الرشاقة المادية، والمظهر المُسجَّى بكماليات تلمع في عيون الغير طمعًا ليس ينتهي، فإن بادرت بالفهم بطرح سؤال عادي جدًّا تلقى الرفض هو مبدأً وقرارًا في قطيعتك؛ لأنك أردت فهمًا واقتناعًا عن سبب تغير السلوكيات، وجيل اليوم من البَشَر يكره أن تبحث له عن مواضع الشرح والتبرير، والإحاطة بحجة الخلل؛ لأن من يبحث له عن الفهم في هذا الزمن فلن يفهم مهما حاول؛ لأن الحقيقة يكره أن يُقرها أحد، ولا أحد يرغب في التعرف عليك إن كان هذا هو شعارك من الفهم، وإن بادرت بصلح له أبعاد رائعة من البناء المجدد فسينهار أساسه وأنت بعدُ لم ترتفع إلى السطر الثاني من تشييدك لبناء النهضة العتيد، مع الوقت وبفهم مثل هذه المظاهر أدركتُ لماذا كنت أشرب فنجان قهوة في غير أوانه، خاصة إن قارب الوقت ليلاً؛ ربما لأني مربكة في مشاعري، وربما لأني أريد أن أنتقي ألفاظًا مؤدية للمعنى، ويجب أن أكون جد يقِظة؛ حتى لا أتعب في منتصف المقال، وإن كانت كتاباتي لست أكتبها بالسهل الممتنع، بل أبذل مجهودًا كبيرًا لأَصِلَ إلى رنة الإبداع التي تُبكيني أحيانًا مع حلاوتها؛ لأن الصدق تدحرج دمعًا من عيوني خُلسة، ولم أَحْتَطْ لهذا الاختلاس، لكنه محمود لديَّ؛ لأني أريح همًّا كبيرًا من ضيق نفسي.
أقول هذا الكلام في حضرة الإصرار، الذي يجعلني أتكلم بطلاقة، والأصل أني تعودت الطلاقة منذ زمن، لكن الذي تغيَّر هو إقبالي على استقبال وجوه البشر؛ لأنظر إلى ملامحها، وأتفرس منها معنى واحدًا لجدوى وجودنا، أريدها كلمة واحدة، أو فكرة واحدة، وإن شئتم فقرة واحدة، تريحني من العذاب الذي انتابني اللحظة، وأنا أكتب عن تغير الناس وطبائعهم بشمائلهم التي تبدو جزئيات، والأحرى أنها لو لم تَبْدُ لكان أحسن، فإن كنت أنا قد تغيرت، فما الداعي ليتغير غيري؟! وإن كان غيري قد تغير، فما الداعي لأن أساير هذا التغيير؟! بمعنى أن ثمة دوامة تديرنا نِدًّا بند من غير إدراك منا، حتى إننا لا نستعمل المكافح لفرملة أيِّ مسار قد لا يؤدي بنا إلى الهدف المنشود، ما الداعي لأن يتغير الإيمان في القلوب، والفهم في العقول، والإحساس في الصدور؟! ما لزوم أن نُقرُّ أننا مسلمون، ونؤدي فرائضنا، ولكن لسنا نظهر في صورة المحسنين كما يحث عليه ديننا؟! نحن نتأثر بسلوكيات بعضنا بعضًا، فإن كان الفرد لا يلقى تجاوبًا من فرد آخر يرحل عنه، وتنطفئ أخباره كأنه في عِداد الأموات، وإن كان الفرح يلُمُّ الشمل بين المحبين، فاليوم هو صفة للمتشائمين في أن يبدو سخطهم على نبأ الفوز والنجاح، ثم لا أحد يرسل لك كلمة مبارك؛ لتسمعها أذنك، فتزداد انفعالاً وإقبالاً على الحياة والنجاح من جديد، بل يكتفي من يعرفك أن يرسل لك رسالة قصيرة على هاتفك ليُعلِمك أنه يؤازرك في فرحك، وما خفي في القلب أعظم، ولست أخشى عليك؛ لأني أعي جيدًا أن إحساسك لا يكذبك، وقد عرَفت نية مَن راسلك، يا ألله على تعب هذا الزمن! يا ألله على نيات العباد، كيف تغيرت؟! يا ألله على غربة يعيشها الواحد منا رغمًا عنه، ومهما حاول ألا يبدو غريبًا فسيزداد غربة أكثر من ذي قبل، ربما يفكر أن يكف الواحد منا عن أعمال البر، والخير، والصلح، والتآزر، والتراحم، إذًا وماذا يفعل إن هو كف عن ذلك؟! ليس له دور آخر يتقنه غير الأدوار السابقة؛ لأن دينه يحثه عليها، وتربيته أمْلَت عليه نقاطًا لا يمكن تغييرها؛ لذلك كتبت لكم هذه الحقيقة من الواقع، وبحضرة الإصرار مني؛ حتى لا أكتب ما لا أشعر به، وما لا أراه في حياتي اليومية، فإن كانت لديكم إجابة لهذا الواقع فأخبروني؛ لأتأكد أني لست وحدي الغريبةَ في هذا العصر.
لو لم أُعانِ من تضارب الآراء والسلوكيات في هذا الزمن، لما طرحت إشكالية قد يُحس بها معظم من قرأ كلامي، يبقى أن العودة لأحاديث الرسول الكريم عن علامات آخر الزمان هي ما يُسكِت فينا السؤال، ويوقف عنا الحَيرة؛ لأنه واقع لا بد أن نعيشه، حتى لو كان مرًّا، فقط نُقلِّل من مرارته ببعض الأمل والتفاؤل؛ حتى نستطيع الاستمرار في الحياة، ثم دائمًا أضع في بالي أن الدنيا ما زالت بخير، وأن ثمة أناسًا يفكرون مثلي، وأنهم طيبون، ولكن لا نعرفهم بحضورهم أمامنا؛ لأنهم يعملون في الخفاء، ويجتهدون لنصرة دينهم ونبيهم بصمت محمود، وقلب خاشع للمعبود، وعقل مفكر في يوم موعود، ورُوح ترحل كل يوم إلى سماء تلألأت فيها نجوم السرور، هي خاتمتي دائمًا في كل كتابتي أن لا يأس مع الله، نعم، لا يأس مع الله، أقولها وبحضرة اليقين مني.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك