فهمنا الخاطئ للغفلة
د. غنية عبدالرحمن النحلاوي
يقول عزَّ من قائل: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].
مقدمة:
مما دفعني للكتابة في هذا البحث أن المفهوم السائد لـ: "الغفلة" فيما يتعلق بالأخلاق والسلوك والعبادة، بل وفي كافة الجوانب الروحية - فيه الكثير من الهلامية، والتهاون، والمغالطات، على النقيض منها في عالم "المادة"، حيث يلفت النظر إلى أن الغفلة مرفوضة ومذمومة:
هنا لا أحد يرضى أن يقال عنه: مغفَّل، وهنا الإجماع منعقد على أن "القانون لا يحمي المغفَّلين"، وهنا قد تُكلِّف الغفلة المرءَ حياته (عندما يغفُلُ السائق عن الطريق؛ إذ يتحدث على جواله مثلاً).
وإذا أعدنا النظر بعَلاقتنا برب العباد أفرادًا وجماعات، وعلاقتنا بالكون الذي يضمنا وبقية الكائنات، وجدنا الأثر السلبي للتناقض المذكور بشكل عام، ولفهمنا الخاطئ للغفلة بشكل خاص:
إذ حينما فصلنا شؤون الروح والنفس وعلومها عن علوم وشؤون حياتنا المادية؛ من طب وفلك، واتصالات وصناعات، وبيع وشراء، وربح وخسارة، كانت النتيجة أننا ما أنجزنا في هذا ولا في ذاك، وكانت غفلتنا مركَّبة حين غفلنا عن أنَّهما بنيانان متلازمان ومتكاملان في الكينونة البشرية، بل هما مترافقان منسجمان في فطرتنا، والشرعة والمنهاج الذي ارتضاه الخالق لخلقه ليُحْسِنوا الحياة على أرضه وإعمارها.
ولقد عظَّم سبحانه وتعالى شأن الغفلة في جميع أحوال المسلمين حين شرع لنا صلاة الخوف - على سبيل المثال -، قال تعالى: ﴿ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً ﴾ [النساء: 102]، وهذه الصلاة هي أنصع دليل على تلازم المَسارَينِ الروحي والمادي، وانسجامهما في حياة المسلم عمومًا، وبالنسبة للغفلة خصوصًا.
وتأمَّل كيف لا يغفل الجندي عن سلاحه، وفي ذلك موته لو غفل، وكذلك لا يغفل العاقل سليم الفطرة والقلب عن طاعة ربه، ولو غفل لمات قلبه وشقيت روحه.
والغريب أن الأمر واضحٌ وضوحَ الشمس في أسس ديننا ومصادره، وعلى رأسها القرآن الكريم والسنة المشرفة، ولكننا قد "نغفل" عنه، غفر الله لنا، وألهمنا تجديد علمنا، وتنشيط عملنا بذلك، والخلاص من جهلنا وتجاهلنا.
وأُنَبِّه قبل الانطلاق في البحث إلى وجود فرق بين المعنى اللغوي الذي قد يربط الغفلة مع السهو، وبين المعنى القرآني حيث الغفلة ليست سهوًا، وهي في معظم المواطن: إهمال الأحسن، والخطو أو الانزلاق إراديًّا نحو الأسوأ، وأجمع ما قاله علماء اللغة في صاحبها: "أغْفَلَ الشيءَ: ترَكَه على ذُكرٍ"، ولأننا لا نأبه لها تُنَبِّهُنا الكثير من الآيات إلى كونها تتعادل مع غيرها في الإضرار بالإنسان الغافل، انظر موقعها عند أولئك الذين استحقوا "الصرف عن آيات الله"، كيف جمعوا الرزايا على الروح والنفس! قال تعالى: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 146][1]، فهم: تكبروا في الأرض بغير الحق، وأعرضوا عن الرشد إلى الغيِّ، وقبل كل ذلك كذبوا بآيات الله تعالى وكانوا عنها غافلين، والمدهش أنه سبحانه جعل الغفلة آخر الآية؛ لنتنبه إلى غرابة وأهمية جمعها مع التكذيب كمصدر لتلك الأمراض، بل الكوارث الفكرية والسلوكية، فالمتكبر قد يراجع نفسه، والضالُّ قد يعدل عن الغي إلى الرشد، والمكذب لكل آية قد يستغفر ويتوب، لولا الغفلة! لذلك أول خطوة في أي إصلاح للنفس هو طرد الغفلة.
بعض أسباب فهمنا الخاطئ للغفلة:
• الإيحاء بأن الغافل مرفوع عنه، لا يؤاخذ، وهذا لم يرد في أي نصٍّ - حسب علمي -، وما ورد: الخطأ والنسيان وما استكره المرء عليه، قال صلى الله عليه وسلم: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه))[2]؛ لأنه في الحالات الثلاث المذكورة إرادة الإنسان تكون معطلة، أو أنه في حالة جهل حقيقي، وحكمه أنَّ عليه تصحيح ما أتى به ناسيًا أو جاهلاً أو مكرَهًا، بعمل الصالحات وتجنب الآثام والمناهي، حال زوال السبب المعيق، وهو ينصاع لذلك مقبلاً راضيًا.
• القياس على الغفلة الفيزيولوجية: المتعلقة بوظائف الأعضاء، من سُبات مَرَضي أو نوم غير مرضي، وأضف إلى أنه قياس فاسد، فإنني لم أجد "الغفلة" ومشتقاتها في أسماء النوم الطبيعي وما يسبقه وما يليه[3]؛ ولا في الحالات المَرَضية المشابهة له، فأساتذتنا الذين وضعوا أسس الطب باللغة العربية - جزاهم الله خيرًا - لم يوردوا الغفلة فيما كتبوا ولا فيما ترجموا وعرَّبوا (هنالك سبات، وتحت سبات، وغشي، وإغماء، و... إلخ).
• مقولات متوارثة ترسخ ذلك الفهم الخاطئ للغفلة، وأشهرها قولهم: أن "الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا"، والتي تبرّرُ في ضمائر عامة الناس "الغفلة"، وأقول: أخي، لا تصدقهم، انتبه قبل أن تموت، فالغفلة دمار كما سنرى، ولينتبه كل منا لتسلل الغفلة تحت أي ذريعة، فمن لا يُفِق إلا بعد الموت لا ينجيه الاحتجاج بذلك القول وأهله، بل قد يكبه في جهنم.
فما بالك بالغفلة الجماعية، حينما تنتشر عدوى الغفلة ويركن كل السكان أو معظمهم للمفاهيم الخاطئة السابقة، ويغيب الوازع الاجتماعي الأخلاقي، فلا يقاومها ولا يستنكرها أحد؟!
قال تعالى: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 1]، ومهما كانت المبررات، فهي لا تعذر أصحابها كما نحسب خطأ، فالقرى الغافلة مصيرها الهلاك، وفي هذه الآية الكريمة تصحيح هام؛ إذ قد تبدو الغفلة صفة منفعلة سلبية، وما ذلك إلا لأنها مخاتلة، بينما التنبيه القرآني يخبرنا أنها سمة فاعلة، حين قرنها بتصرُّف قبيح، هو "الإعراض" عن ذكر الله وشرعته وطاعته:
فالإعراض: هو إجراء فاعل إرادي عن وعي تام، وكأنه حركة معنوية (وقد أُفْرده ببحث؛ لأنه كذلك مما يستهان به خطأً، وهو من صفات الغافلين، ومرتبط بالكبر).
أما الغفلة: فهي أن ينشغل قلب وعقل الإنسان البالغ الراشد - وهو بكامل وعيه - بشيء أو معتقد أو مبدأ، فينصرف بسببها كليًّا عن أشياء أخرى أو سلوكيات وأفعال هي الأولى والأصلح في 90% من الحالات أو أكثر، فالغفلة في الغالب الأعم مذمومة، ونادرًا جدًّا ما تحمد[4]، وقد تكون الغفلة حجة تُستغل لتبرير شيء عظيم ومصيري، ضرب الله تعالى عليها مثلاً: التحذير من اتخاذها حجة للانصراف - كفرًا وضلالاً - عن حقيقة الفطرة التي فطر عليها البشر أجمعين من عبادة الله تعالى وحده، مبيِّنًا أنه لا يفيدهم ادعاء الغفلة شيئًا؛ لأن الله تعالى أخذ عليهم عهدًا: وثيقة مسجلة، وشهادة مثبتة في الشيفرة الوراثية لكل منا، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172]، وقياسًا على تقسيم الأعراض والأمراض الجسمية لدرجات، فإن للغفلة - باعتبارها من أمراض النفس والروح - درجات ومراحل منها الخفيفة ومنها الشديدة، ومنها المحدودة ومنها المنتشرة، ومنها ما هو قبل الوحي والعلم، ومنها ما هو بعده، ، وإن الإصرار على ذاك الفهم الخاطئ رغم شواهد تصحيحه في القرآن الكريم والسيرة المشرفة هو من "التغافل عن حقيقة الغفلة"، ومثال قرآني عن درجة متقدمة من الغفلة (مثل سرطان متقدم!) يوضح المعنى الذي ذكرته:
استحباب الحياة الدنيا ليس خطأ ولا ذنبًا نُعاقَب عليه، ولكن عندما نغفل بسببه عن الآخرة، فانظر المحصِّلة:
قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [النحل: 107 - 109]، ولنا عودة لهذه الآية.
صفات الغفلة: التسلل والتراكم:
مبدأ الغفلة وسيطرتها: تبدأ الغفلة في القلب عند بعض الناس، وتنسل عند آخرين من خلال التبعيض في تطبيق الأحكام، وهو مطمئن من أن قلبه في مأمن للفصل المذكور بين المادي والمعنوي، وهي ربما تبدأ بالإكثار من الرخص الشرعية، ثم الفتاوى المشروطة، ثم الإبقاء على الفتوى بسقوط الشروط، كل ذلك وأحدنا يظن أن قلبه صاحٍ لم يغفل، ولا يكتشف ذلك إلا والغفلة التراكمية صارت رانًا، حمانا الله وإياكم.
وبعض أشكال هذا التسلل - وهي كثيرة على أرض الواقع -:
• الغفلة عن رقابة الله تعالى، ففي لحظات غياب عن أنه تعالى معي ويراقبني، تفلت الحماقة، ثم من كثرتها - لحظات الغياب - نصبح مكشوفين لغزو" الغفلة"، وكأني بها صارت لأكثرنا مجرد لحظات حضور، مقابل ساعات وأيام الغياب عن أنه سبحانه معنا في كل لحظة!
وفي هذا الزمن الصعب مسكين الإنسان، فرُوحه الظمآنة كيف تشبعها لحظات فقط من معية الله تعالى؟! بينما هو في أمسِّ الحاجة للاستزادة من الصلة بربه الرحمن، يدفع بها الغفلة وما هو أطغى؛ لينجو.
• الغفلة عن ذكر الله جلَّ شأنه: رحم الله جدتي، منذ وعيتُ وفي أذني دعاء لها تكرره: "يا رب، لا تجعلنا نغفل عن ذكرك"، ومن بدايات تلك الغفلة تحوُّل العبادات إلى روتين، لا سيما الصلوات، ثم إنها تفضي للتآلف مع الفساد، واليوم مع الأسف اعتاد كثير من الناس رائحة الفساد، وألفت عيونهم وأسماعهم المنكر والقبيح، وهذا مما يزيد الغفلة تمكنًا وانتشارًا، ويُبرز الحاجة إلى الوازع الاجتماعي الأخلاقي.
المبالغة في أي شيء حلال من حيث المبدأ، والأمثلة كثيرة:
منها الانغماس في العمل على حساب الزوجة - أو الزوج - والأولاد، والمقابل له من انغماس في جني المال لإرضاء الزوجة والأولاد، ولو اقترب من الحِمى يوشك أن يقع فيه، ومنها الانغماس في النشاطات الترويحية طلبًا للمتعة، حتى لو بدت حلالاً، ومنها الإنفاق ترفًا وسرفًا فيما يسمى النزعة الاستهلاكية.
وعمومًا: فإن المبالغة التي تجعلك تنغمس في أي شيء لدرجة أن تغفل عما سواه من غذاء الروح وصحة النفس، تسد عليك منافذ الأكسجين من الاتجاهات الأخرى، فيصيب الخلل المستقبلات من فؤاد وسمع وبصر (الآية التي افتتحنا بها)؛ لتتسع غفلتك وتتكرر وتتراكم، فلا تدرك ضررًا يتسلل إليك من هنا أو هناك، وقد ضعفتْ مناعتك الأخلاقية.
وذلك المثال عن النشاطات الترويحية من أشيع مفرداته اللهو على الفضاء الإلكتروني من نت وتلفزيون - ولعلنا نترك الحديث عن مساوئه الكثيرة لمقال آخر - فإن أقل ضرر له - وهو أنه يحرم المرء من الخروج إلى الفضاء الحقيقي حيث السماء والشمس والخضرة والماء - ما لبث أن تطور مع الغفلة إلى حالة مرضية عند الأطفال (نفسية وسلوكية)، سموها: اضطراب العوز لحياة الطبيعة: ( Nature deficit disorder ) (مثلما نشخص لديهم عوز الحديد وعوز فيتامين د والكلس... وإلخ)[5]، ناهيك عن اختلاط ذلك اللهو بالمحرمات، حتى لو أخذت شكل اللَّمَم، فهي مع نمو نبات الغفلة السام ستتضخم ويعتادها المرء؛ كآلية التسمم البطيء (باستنشاق أول أكسيد الكربون مثلاً)، أو كسرطان الدرجة الثالثة الذي تأخر كشفه، وتلك الغفلة بعد أن تتمكن خُلْـسَةً في بؤرة صغيرة من النفس ما تلبث أن تتسع، مثل الضريبة التراكمية التي يجد المرء نفسه عاجزًا عن سدادها بعد حين، وذروتها (المنكوسة للقاع) الاطمئنان للحياة الدنيا التي تجعلك غافلاً عن آيات الله تعالى؛ تلاوة وتدبرًا وتطبيقًا عمليًّا، وعن لقائه، وهذه كلها مكتسبات للغافلين، تجر أصحابها بثقلها للنار، أجارنا الله، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يونس: 7، 8].
يتبع
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك