النظرة الكلية للإنسان
في التربية الجمالية في الإسلام
أ. صالح بن أحمد الشامي
نتحدث عن بعض القواعد العامة، التي يحسن أن تكون واضحة في الأذهان، قبل البدء بالحديث التفصيلي عن المعطيات الجمالية للمنهج الإسلامي.
النظرة الكلية للإنسان:
الإنسان في النظرة الإسلامية كل لا يتجزأ، وسبق الحديث عن ذلك تفصيلاً[1]. والنظرة التربوية الإسلامية تسير مع هذا الخط الإسلامي العام، وسنلاحظ من خلال بحثنا كيف تميزت هذه التربية بهذا الأسلوب من التعامل الكلي، الأمر الذي حلمت به التربيات الأخرى، ولكنها لعوامل كثيرة لم تستطع الوصول إليه.
والتربيات الحديثة نظرت إلى الإنسان، إما أنه مادة، وإما أنه مادة وروح، وكل منهما منفصل عن الآخر..
ويشرح لنا الدكتور "ج. ب. راين"[2] الأسباب التي أدت إلى النظرة الأولى ويقول: إن الإنسان مكون من عنصرين أحدهما مادي والآخر لا مادي وهو العقل والروح. وإن السلطان للروح، وما الجسد إلا سكنى لها وأداة.
ويستمر هذا المعتقد المتوارث مع الفرد حتى آخر فترة المراهقة، أما بعد ذلك، فلن يبقى للأسف إلا مع من تخلفوا عن التأمل أو إتمام التعليم العالي..
ثم يتحدث عن مراحل الدراسة، وكيف أنها ترسخ جانب المادة.. إلى أن يقول: وعلى هذا نصل إلى أن الإنسان مادةٌ صِرف، وأن العقل ما هو إلا تجلٍ لمخ حين ينشط.
ثم ينهي الطالب دراسة العلوم الطبيعية وقد تبخر الكثير من معتقداته الأولى عن الإنسان، وطبيعته المزدوجة وأصله السماوي"[3].
ويتحدث "الكسيس كاريل" عن النظرة الثانية فيقول:
"الحقيقة أن الجسم والروح هما وجهان لشيء واحد" ثم ينحو باللائمة على "ديكارت" الذي قال بثنائية الإنسان ويقول: إنه "اعتبر المادة والعقل شيئين غير متجانسين، كما هو الحال في كل شيئين مختلفين. وقد كان لهذا التقسيم أثره البعيد في تاريخ معرفتنا بالإنسان، لأنه أوجد مشكلة مزيفة لعلاقات الروح والجسم.
فحقيقة الأمر أنه ليست هناك مثل هذه العلاقات، فلا الروح ولا الجسم يمكن أن يفحصا كلٌّ على حدة"[4].
ويقول أيضاً: "لقد ازدادت التفرقة بين الكم والنوع اتساعاً عندما أنشأ ديكارت مذهب ثنائية الجسم والروح. وعندئذ أصبحت ظواهر العقل غير مفهومة أو قابلة للإيضاح، إذ عزلت المادة عن الروح نهائياً... ولقد أدت هذه الغلطة بالحضارة إلى سلوك طريق أدى إلى فوز العلم وانحلال الإنسان"[5].
ويؤازر أصحاب النظرة الأولى في اتجاههم أصحاب المذاهب المادية، الذين نظروا إلى الإنسان بعين كارل ماركس أو دارون..
وعلى هذين الأصلين نشأت نظريات التربية الحديثة، فهي إما نظريات لا تعترف بالروح أصلاً، أو أنها تعترف بها كرواسب عقيدية تتذكرها في أيام "الأحد" أو عندما يكون هناك "جنازة" على حد تعبير الدكتور "راين".
وفي هذه الحالة تكون التربية موزعة بين جهتين، فتكون التربية الدينية مهمة الكنيسة، وتكون التربية المادية مهمة المجتمع.. ومن المعلوم أن كلاً من الكنيسة والمجتمع يشغل من هذه التربية بمقدار حجمه. ويكون الإنسان بين قوتين..
ومن هنا جاءت قضية التربية الدينية!!
إن الإسلام في تربيته التي تدعو إلى تنفيذ منهجه، يتعامل مع الإنسان ككل، نعم قد يظهر جانب ما على السطح، بعض الأحيان، ولكن الجوانب الأخرى - في هذه الحالة - لا تختفي نهائياً.
وقد يكون ذلك الظهور من باب التوازن أو التناسق..
ونحب أن نقف على مثالين؛ لإيضاح ما قلناه، أحدهما من باب العبادات - في مفهومها الخاص - والثاني من باب المعاملات.
المثال الأول: الصلاة.
الصلاة عبادة، ومع ذلك فهي ليست عملاً روحياً صرفاً، كما يتبادر للذهن للوهلة الأولى. إنها عبادة يؤديها الإنسان بكامل كيانه. كل جانب منه يؤدي دوره في تناسق تام مع الجوانب الأخرى.
يصلي الجسم: وصلاته تلك الحركات الموزونة المنضبطة.
ويصلي العقل: فيعيش مفكراً بتلك الآيات أو التسبيحات التي تؤدى خلال ومع حركات الجسم.
وتصلي الروح: بمشاعرها وخشوعها، بأشواقها وتطلعاتها..
كل ذلك يجري في وقت واحد وتناسق تام، إنها صلاة يؤديها الإنسان بكليته.
ولكن أداء هذه الصلاة من الإنسان بكليته، لا ينسيه أنه جزء من مجتمع. هذا الشعور الاجتماعي يلبي واقعاً عندما تكون الصلاة جماعية ويلبي تصوراً عندما يصلي منفرداً. إنه يقرأ في صلاته ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ هكذا بصيغة الجمع فهو وإن كان منفرداً ولكنه واحد من ذلك الحشد الذي يعلن عبوديته لله تعالى..
إنها تربية الجسم.
وتربية العقل.
وتربية الروح.
إنها التربية الفردية.
وإنها التربية الجماعية.
والصلاة بعد ذلك ليست عملاً منفصلاً عن حياة الناس ودنيا الناس.. إنها ذات آثار وثيقة الارتباط بتصرفات الإنسان..
قال تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾[6] وهذا الوصف للصلاة يعني أنها في الحالة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر فليست صلاة.
كما أنها وسيلة يلجأ إليها في وقت الأزمات قال تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾[7].
وهي نظافة من الأدران المادية والمعنوية، أما الأدران المادية فإن الوضوء والطهارة تذهبها.. وأما المعنوية فقد بين ذهابها الحديث الشريف:
"أرايتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا"[8].
وهكذا وجدنا أنفسنا مع الصلاة نتعامل بكليتنا..
وليس هذا شأن الصلاة وحدها بل هو المنهج العام أو الخط العام في هذا المنهج الذي يتعامل مع "الإنسان"[9].
المثال الثاني: الغصب.
وهو الاستيلاء على حق الغير عدواناً.
والغصب عمل مادي بحت. ولكن الإسلام لا يجعل آثاره كذلك:
فلو كان الشيء المغصوب "ماء" ثم توضأ به الغاصب، فإن هذا الوضوء باطل وكذلك الصلاة التي بنيت عليه، ذلك لأنه من شرط الماء أن يكون حلالاً.
ولو كان الشيء المغصوب جورباً ثم مسح عليه في الوضوء لكان المسح باطلاً ويترتب عليه بطلان الوضوء ثم الصلاة.
والصلاة في الأرض المغصوبة باطلة[10]..
أرأيت كيف أن هذا التشريع يتعامل في أوامره مع الإنسان بكليته فلا يفصل جانب المعاملة عن جانب العبادة.. لأن الإنسان ليس جسماً وروحاً.. كل منهما منفصل عن الآخر.
إنه تشريع للإنسان.
وإنها تربية للإنسان.
تلك هي نظرة الإسلام.
[1] سبق الحديث عن ذلك في الجزء الثاني من هذه الدراسة ميادين الجمال في الباب الثاني الذي يتحدث عن الإنسان.
[2] هو أستاذ علم النفس بجامعة ديول بالولايات المتحدة. وقد شرح ذلك في كتابه العقل وسطوته.
[3] نقلاً عن كتاب ركائز الإيمان للأستاذ محمد الغزالي تحت عنوان: نهج أرشد في دراسة الإنسان.
[4] الإنسان ذلك المجهول. تأليف الكسيس كاريل ص 140.
[5] المصدر السابق ص 316 - 317.
[6] سورة العنكبوت. الآية [45].
[7] سورة البقرة. الآية [45].
[8] الحديث متفق عليه.
[9] انظر مثلاً في شأن الصوم إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" رواه البخاري. فالصوم ليس عبادة بالمفهوم الضيق ولكنه تربية على الاستقامة في شؤون الحياة.
[10] هذا مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك