08-31-2015, 11:12 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 358,535
|
|
مشاهد الحج
مشاهد الحج
الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على مَن بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد؛ فإن الأعمال الصالحة تُكَمِّل الإيمان وتزيده، ولا يمكن أن يتم، ولا أن يرسخ، ولا أن يثبت في النفوس إلا بها؛ إذ بها تُذاق حلاوة الإيمان، وبها ترتفع درجاته في قلب الإنسان، والحج من أكثر هذه الأعمال تأثيرًا في الإيمان، فإن كثيرًا من أعماله تعبديَّة لا تَعلليةٌ، ولا يدرك الشخص حِكَمَها، ولكنها تنبهه على الموت وما بعده، فيزداد إيمانه بذلك ويتأكد، فما كان تَعلُّليًّا من الأعمال قد يفعله الشخص بدافع المصلحة المترتبة عليه، أما ما كان تعَبديًّا محضًا فإنما يفعله الشخص من منطلق التسليم والاستسلام لأمر الله، ولا يخفى ما بين التسليم والإيمان من قوة الصلة، قال الله - تعالى -: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
بداية الحج:
فبداية الحج هي الخروج من الأوطان والبلدان، وسلوك هذه الفجاج العميقة، ثم بعد ذلك يغتسل الشخص كما تُغسلُ الجنازة، ثم يلبس إحرامه كما يدرج في أكفانه، ثم يصلي كما يصلي المقرَّب للقتل، ثم يتهيأ بالتلبية لإجابة بارئه ومولاه، ويتذكر بذلك إجابته إذا دعاه حين الموت، فإن الله - سبحانه وتعالى - يرسل ملك الموت ليقبض الأرواح، فتستجيب الأرواح دون تقدم ولا تأخر، كما قال الله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:61، 62]، فيتذكر الإنسان هنا إجابة هذه النفس لبارئها إذا دعاها، بتلبيتها دعاء الله الذي أمر به خليله في قوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]، ويتجرد الشخص من مهامه كلها، ومن أمور الدنيا كلها، حتى مِن ملابسه؛ ابتغاء مرضاة مولاه - سبحانه وتعالى - وبذلك يتم الإقبال عليه.
وأول ما ينادي بالتلبية يتذكر أن الناس في جواب الله - تعالى - لهم بهذه التلبية ينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: الذين كتب الله لهم الحجَّ المبرور، الذي ليس له جزاء إلا الجنة[1]، وأراد أن يباهيَ بهم ملائكته، واختارهم ليكونوا من وفده الذي يَفِدُ إليه في هذه السنة، وهؤلاء مشرفون بحجهم؛ فهم ضيوف الرحمن المكرمون، وقد حُكِم لهم بقبول حجهم في بداية تلبيتهم، ولذلك إذا لبى أحدهم ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسعديك، حجُّك مبرور؛ زادك حلال، وراحلتك حلال.
القسم الآخر: الذين يَرُدُّ اللهُ عليهم عملَهم ولا يتقبله - أجارني الله وإياكم - فيكون حظهم من حجهم التعبَ والنصب، وإفساد الوقت والساعات الطويلة، وترك الأعمال في فترة زمنية مهمة، إذا نادى أحدهم: "لبيك"، يُناديه منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك؛ زادك حرام، وراحلتك حرام؛ حجك غير مبرور، وسعيك غير مشكور، فيردُّ الله عليه حجَّه ولا يتقبَّله[2]؛ ولذلك روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رجلاً كان عنده، فرأى كثرة الحجيج الملبِّين، فقال: ما أكثرَ الحجاجَ! فقال ابن عمر: بل ما أقل الحجاج، قال ما أكثر الركب([3]). أما الحجاج بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة فقليل؛ لأن الحج معناه القصد ولذلك يقول الشاعر:
وَأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ جُمُوعًا كَثِيرَةً يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا[4]
يحجون معناه: يقصدون، فالحج معناه القصد، ولا يقبل الله - تعالى - قصدًا أَشرك فيه الشخصُ معه غيرَه.
كما ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في "صحيح مسلم" فيما يرويه عن ربه - عز وجل - أنه قال: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عَمِلَ عملاً أشرك فيه معي غيري، تركتُه وشِركَه))[5].
فكثير يُشرك مع الله - تعالى - غيرَه في عمله، برياء، أو سمعةٍ، أو غير ذلك، فلا يتقبل الله حجَّه ويَردُّه، وينسب للإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -:
إِذَا حَجَجْتَ بِمَالٍ أَصْلُهُ سُحُتٌ فَمَا حَجَجْتَ وَلَكِنْ حَجَّتِ العِيرُ[6]
لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ كُلَّ طَيِّبَةٍ مَا كُلُّ مَنْ حَجَّ بَيْتَ اللَّهِ مَبْرُورُ[7]
فقلة هم المبرورون الذين يُتقبل منهم حجهم، ويؤثِّر في إيمانهم ويزيده.
طريق الأنبياء:
وإذا تجاوز نقطة البداية، تذكَّر الشخص في مسيره إلى البيت الحرام أنه يسلك طريق الأنبياء، فما من نبيٍّ بعد إبراهيم - عليه السلام - إلاَّ حجَّ هذا البيت[8]، وهذه النقطة نبَّه عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريق ذهابه إلى الحَجِّ مرتين، كما في حديث ابن عباس في "صحيح مسلم": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مرَّ بفجِّ الروحاء سأل: ((أيُّ وادٍ هذا؟))، قالوا: وادي الأزرق، فقال: ((كأني أنظر إلى موسى واضعًا إصبعيه في أذنيه، له جُؤَار إلى الله - تعالى – بالتلبية، مارًّا بهذا الوادي"، ثم مر بثنية، فقال: ((أي ثنية هذه؟))، فقالوا: هَرْشَى أو لِفْت[9]، فقال: ((كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراءَ، خطامُ ناقته ليفُ خُلْبَةٍ، وعليه جبة من صوف، مَارًّا بهذا الوادي ملبيًا))[10]، فبيَّن هنا إلى أن سالك طريق الحج، عليه أن يَذكُر أنه حلقة من سلسلة طويلة، فيها رسل الله وخيرته من خلقه وأصفياؤه، فهم جميعًا لبوا نداء الله، وحجوا هذا البيت، وأنت تسلك آثارهم، وتريد عند الله ما يريدون، فلذلك عليك أن تلتزم بهديهم وسنتهم؛ لأنك تريد مرافقتهم في مرضاة الله - تعالى - وفيما رغبوا فيه، فأنتم أتيتم إجابةً لنداء الله، فكما جاء الأنبياء تأتي أنت، تسلك طريقهم، وتترسَّم خطاهم، وتبتغي عند الله ما كانوا يبتغون.
فإذا رأيت كثرة القاصدين الوافدين معك من كل مكان، كان هذا أيضًا داعيًا لتقوية الإيمان؛ لأن هؤلاء لا يمكن أن يجمعهم في صعيد واحد إلاَّ مُلْكُ ديان السموات والأرض، ولذلك يقولون في تلبيتهم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لكَ لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، فيحمدون الله - عز وجل - على أن حملهم، ويسر لهم وسهل، وبلغهم.
ثم يقرُّون أيضًا بهذه النعمة التي أنعم الله بها عليهم من الإيمان، ومما يسر مما دون ذلك، ثم يقرون لله بهذا الملك الذي يجمع أهل مشارق الأرض ومغاربها، وجنوبها وشمالها، لا تمر في طريق إلاَّ رأيت عجبًا، تجد عن يمينك حجاج أمريكا، وعن يسارك حجاج اليابان، وبين يديك حجاج فرنسا، ومن خلفك حجاج أستراليا، وهكذا...
فيجتمع أهل هذه المشارق والمغارب في هذا الصعيد يلبُّون هذه الدعوة، التي لو كانت من أحد من ملوك الأرض، لما استطاع أن يجمع هذا الجمع، ولا قريبًا منه، ولا أقل من ذلك.
ثم إذا رأيتهم جميعًا يلبون بتلبية واحدة، ويقومون بشعائر موحدة، ويقصدون بيتًا واحدًا، ومشاعر موحدة، أيقنت ببقاء هذا الدِّين وخلوِدِه، وصلاحيته للتطبيق المستمر في كل زمان ومكان، وأنه الدين الحق، وأنه مهما تعالت الصيحات المناوئة له فإنها من صولات الباطل، وإن للباطل صولةً فيضمحل، وإن الحق يعلو ولا يُعلى عليه؛ لذلك تعلم أن الناس لا بد أن يعودوا إلى هذا المنهج، الذي وصلوا به إلى ما وصلوا إليه، مهما ابتعدوا عنه، ومهما تفرقوا واختلفوا، فلا بد أن يعودوا إلى هذا المنهج الصحيح، ولذلك فإن تلبيتهم ومجيئهم، يبذلون أموالهم وأوقاتهم، ويتعرضون للكثير من الأوبئة والأمراض وغيرها، ويَصِلون إلى هذه الأماكن المقدسة، وما زالت تجمعهم نفس الشعائر، في نفس المشاعر، بنفس الزي، بنفس الكلمات التي يرددونها، تذكرهم بأنهم أمة واحدة: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52].
فيه آيات بينات:
ثم إذا وصلت إلى مكة، وقطعت التلبية، ودخلت المسجد الحرام - تذكرتَ الآيات البينات التي فيه، فهن من العجب العجاب، فمنها هذا البيت الحرام العتيق، الذي هو أول بيت وضع للناس، من هنا انطلقت حضارة العالم كله.
فإذا نظرت إلى البيت العتيق، قلتَ: من هنا بدأت الإنسانية، الإنسانية كلها، فأول بيتٍ وُضع للناس هو هذا البيت.
فتنظر إلى انتشار الناس في مشارق الأرض ومغاربها، وما سُخر لهم من الأرزاق، وما نُشر في مناكب الأرض من الخيرات، وبدايتهم من هذه الغرفة الواحدة، التي هي بداية الحضارة في الأرض كلها: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96].
ترى أنه مبارك كما وصفه الله بذلك، ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلم الحجر الأسود[11]، وقد روي أنه قال: ((إنه يبعث وله لسانٌ وعينان، يشهد لمن استلمه بحق))[12]، وقال فيه ابن عباس: "الحجر الأسود يمين الرحمن في الأرض، فمَن قبَّله فكأنما قبَّل يمين الرحمن"[13].
حرمًا آمنًا:
وكذلك من العجائب فيه، أن هذا البيت العتيق عتيقٌ في الدنيا والآخرة، عتيق في الآخرة، فهو مشرفٌ عند الله - تعالى - معظَّم، وعتيق في الدنيا فلا تصل إليه سلطات السلاطين، فهو دائمًا بمنأى عن هذه الأمور؛ لأن الله - تعالى - جعله للناس كافة، كما قال - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
ولذلك تقول امرأةٌ في الجاهلية لولدها:
أَبُنَيَّ لاَ تَظْلِمْ بِمَكَّةَ لاَ الصَّغِيرَ وَلاَ الكَبِيرْ
أَبُنَيَّ قَدْ جَرَّبْتُهَا فَوَجَدْتُ ظَالِمَهَا يَبُورْ
اللَّهُ آمَنَهَا وَمَا بُنِيتْ بِسَاحَتِهَا القُصُورْ
وَلَقَدْ غَزَاهَا تُبَّعٌ فَكَسَا بَنِيَّتَهَا الحَرِيرْ[14]
فتجد أن هذا التعظيم الذي هو في قلوب الناس لهذه الكعبة المشرفة - ليس بسبب أن دولة من الدول أرادت تعظيم هذا المكان، أو أرادت أن تجعله موقعًا سياحيًّا تدعو الناس إليه؛ بل هو تعظيمٌ من عند الله - تعالى - فطر الناس عليه، وهو تعظيم قديم غير جديد، فهو منذ خُلِقت السموات والأرض؛ ولذلك حين حُفر في داخل الكعبة المشرفة لبنائها، وُجد حجرٌ فيها مكتوب عليه: "أنا الله ذو بكة، خلقتها أو حرمتها يوم خلقت السموات والأرض"[15].
وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في خطبة بعد يوم الفتح: ((إن مكة حرَّمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يَحلُّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقولوا: إن الله قد أذِنَ لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، ثم عادتْ حُرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ليبلغ الشاهد الغائب))[16]، وعندما دخلها بالسلاح ألصق ذقنه بصدره؛ حياءً من الله - سبحانه وتعالى - أن يدخل مكة بالسلاح[17]، وهو يدخلها لإبطال الباطل، وإحقاق الحق، ومع هذا فهو لهذا الاحترام يلصق ذقنه بصدره؛ حياءً من الله - سبحانه وتعالى - لدخوله بلده الحرام بالسلاح.
العبادة لله وحده:
وأيضًا تشاهد أن هذا البيت من عتقه في الدنيا، أن الله - عز وجل - لم يأذن للبشر -إذنًا كونيًّا - بعبادة هذا البيت، فالبشر عندما تنتكس فطرتهم يعبدون كل شيء، يعبدون الأحجار، والأشجار، وغير ذلك، وكل معظَّم لديهم يغالون في تعظيمه حتى يعبدونه من دون الله، وإذا لم يجدوا حجرًا جمع أحدهم ترابًا، ثم احتلب عليه شاةً، فإذا يبس عبَدَه من دون الله، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كما وصف عن نفسه في الجاهلية، يتخذ صنمًا من التمر، فإذا جاع أكله وعمل صنمًا آخر، وهكذا؛ لكنهم مع هذا كله، حال اللهُ بينهم وبين أن يعبدوا البيت العتيق؛ لأن الله شرفه وعظمه، فلم يكن لِيُعبدَ من دون الله، ومع هذا فإنهم جعلوا عليه الأصنام، فحين هاجر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة، كان على البيت ثلاثمائة وستون صنمًا.
وكذلك تجد هذا الحجر، الذي هو آيةٌ من آيات الله، أُنزل من الجنة، وما زال من عهد آدمَ إلى وقتنا هذا موجودًا، تمرُّ عليه قرون الدنيا المتطاولة وهو باقٍ في مكانه، وقد أخرجه القرامطة إلى الأحساء، ومكث عندهم عشرين سنة، وعندما نقلوه من مكة نقلوه على خمسين بعيرًا؛ يحملونه في الصباح على بعير، فإذا جاء وقت الزوال مات البعير، فيحملونه على آخر وهكذا، فمات تحته خمسون بعيرًا من مكة إلى الأحساء، فلما انتزعه منهم الخليفة العباسي، أعاده من الأحساء إلى مكة على بعير واحدٍ هزيل، فحمله حتى أوصله إلى مكانه.
يتبع
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|