07-28-2015, 11:12 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 356,127
|
|
(0164) المبحث الثالث: شقاء العالم وفقده السلام.
وفيه أربعة فروع:
الفرع الأول: حرمان العالم من تبليغ الدعوة إليه.
الفرع الثاني: زهد العالم في هذا الدين لذل أهله.
الفرع الثالث: فقد العالم القيادة الهادية العادلة.
الفرع الرابع: شقاء العالم بسوء تدبيره.
الفرع الأول-حرمان العالم من تبليغ الرسالة إليه
إن الذي يحول بين العالم الذي أنزل الله له هذا الكتاب وبعث إليه هذا الرسول، ورضي له هذا الدين، يعد عدواً لله ولدينه وكتابه ورسوله صَلى الله عليه وسلم. بل إنه عدو للعالم كله، لأنه يحرمه بذلك من أغلى ما منحه الله سبحانه وتعالى إياه وهو الهدي الرباني الذي به سعادته في الدنيا والآخرة.
لكن الأمر يكون سهلاً عندما يقف من يصد الناس عن دين الله، فيجد قوة تسند هذا الدين وتدعو إليه وتجاهد في سبيله، حتى يسمع أهل الأرض أن هناك ديناً تدعو إليه أمة من البشر وتبذل في سبيل إبلاغه والدفاع عنه كل ما تملك، من مال وجاه ومنصب ونفس.
إن الناس سيتجهون إلى صوت الداعي، يسمعون ما يدعو إليه، وينظرون إلى هذا الدين وهو يطبق في الأرض، فيسمعون بآذانهم بآذانهم ويرونها بأعينهم ، ويرونها مطبقة فعلاً في أعمال الذين يدعون إليه فيهدي الله من شاء من عباده..
فينضمون إلى أهل هذا الدين عاملين مجاهدين، فيكثر أنصاره وينتشر في الأرض، وهذا ما كان عليه الإسلام في عهد رسول الله صَلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.
أما أن يتصدى أعداء الإسلام لمضايقة من آمن بهذا الدين، ويشوهون معانيه وينشرون أدياناً محرفة، ومذاهب ملحدة، تخالف هذا الدين وتضاده ويدعون الناس إلى اعتقادها، ثم يقعد المسلمون الذين كلفهم الله حمل أمانة الإسلام والعمل به والدعوة إليه والجهاد لإعلائه، فلا يكونون قدوة حسنة، ولا يبلغون رسالة الله، ولا يحمون ديته وأهله من العدو، فإنهم بقعودهم عن الجهاد في سبيل الله والحالة هذه يكونون أشد إجراماً وأعظم ظلماً للعالم، إذ يحرمونه من دين الله الذي يشقى بفقده في الدنيا والآخرة، وقد تعين عليهم أن يبلغوه إياه.. لأنه لا توجد أمة في الأرض تستطيع أن تبلغ هذا الدين الذي لا يوجدن حق سواه، للعالم غير الأمة الإسلامية..
والله سبحانه وتعالى قد قال لرسوله صَلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة:67]. أي وإن لم تبلغ ما أنزل إليك من ربك، فإنك لم تقم بوظيفة الرسالة التي اصطفاك الله وخصك بها.
وأمره سبحانه أن يبين لأمته أن سبيله هي الدعوة إلى الله على بصيرة هو وأتباعه، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
وكان صَلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على فهم الناس تبليغه عن ربه يكرر عليهم مثل قوله: (ألا هل بلغت) ثلاثاً، وهم يجيبونه: ألا نعم، لا سيما إذا كان في جمع عظيم، قد يخفى على بعض الحاضرين شيء من كلامه..كما في حديث عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صَلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (ألا أي شهر تعلمونه أعظم حرمة)؟ قالوا: ألا شهرنا هذا، قال: (ألا أي بلد تعلمونه أعظم حرمة)؟ قالوا: ألا بلدنا هذا، قال: (ألا أي يوم تعلمونه أعظم حرمة)؟ قالوا: ألا يومنا هذا، قال: (فإن الله تبارك وتعالى قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم، إلا بحقها، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت) ثلاثاً...كل ذلك يجيبونه: ألا نعم قال: (ويحكم – أو ويلكم- لا ترجِعُنَّ بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض). [البخاري رقم 6785، فتح الباري (12/85)].
وكان إذا بلغ أصحابه صَلى الله عليه وسلم، أمر حاضرهم أن يبلغ غائبهم..كما في حديث أبي بكر في خطبته رضِي الله عنهيوم النحر- هو قريب من حديث ابن عمر السابق - وفيه: (ليبلغ الشاهد الغائب...) الحديث. [البخاري رقم67، فتح الباري (1/157) وراجع صحيح مسلم (2/988)].
وأمره أمته أن يبلغوا عنه ما جاءهم به قل أو كثر عند أحدهم، كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "أن النبي صَلى الله عليه وسلم قال: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) [البخاري رقم3461، فتح الباري (6/496)]. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله نقلاً عن المعافي النهرواني: "وقال في الحديث: (ولو آية)، أي واحدة ليسارع كل سامع إلى تبليغ ما وقع له من الآي ولو قل، ليتصل بذلك نقل جميع ماجاء به". [الفتح (6/498)].
وإذا كانت أمة محمد صَلى الله عليه وسلم يشهدون مع نبيهم، على الأمم السابقة، أن أنبياءهم بلغوهم، فهل تعذر هذه بالقعود عن تبليغ الناس هذا الدين؟ لا سيما وقد أمرها الله ورسوله بهذا التبليغ؟. عن أبي سعيد الخدري رضِي الله عنه قال: "قال رسول الله صَلى الله عليه وسلم: (يجاء بنوح يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب فتسأل أمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير، فيقول: من شهودك؟ فيقول: محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون).
ثم قرأ رسول الله صَلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً..} [البخاري رقم7349، فتح الباري (13/316) والآية من سورة البقرة:143].
هذه الأمة التي اختارها الله لحمل هذا الدين وتبليغه، إذا لم تقم بالجهاد في سبيل الله لا يتم تبليغها الناس، لأن التبليغ لهذا الدين ليس بالخطب والمواعظ وحدها، وإنما بها وبإزالة السدود التي يضعها الطواغيت ضد الدعوة إلى الإسلام، إما بإسلامهم وإما بدفعهم الجزية مع الصغار وترك الناس أحراراً يعتقدون ما يريدون دون استعباد ولا ظلم..
وذلك لا يكون إلا بالجهاد في سبيل الله، لأن الطواغيت لا يتركون الدعوة إلى الله تسير في طريقها، يسمعها من يشاء ويهتدي بها من شاء ويتركها من شاء، بل يصدون دعاة الإسلام ويصدون الناس عن سماع دعوتهم..
فلا بد أن تظهر الدعوة للناس في أمة مهابة الجانب، عندها قوة تحمي نفسها وتحمي من استجاب لها، وتؤدب من اعتدى عليها أو صدها.. وإلا فإن العالم سيحرم من تبليغ هذه الدعوة والتمتع بهذا الدين بدون الجهاد في سبيل الله.
ولا يغرنك ما يوجد في بعض دول الكفر الغربية، كأوربا وأمريكا من فتح الباب للدعاة إلى أي دين يعظون ويرشدون دون أن تتعرض لهم الدولة بمكروه في هذا الزمن..
فإن سبب سكوتها وعدم معارضتها ثقتها بهيمنة الكفر وأنظمته وقوانينه، وقلة الدعاة وضعف تأثيرهم في الناس، لأن المحيط الذي يدعون فيه قد كثرت فيه وسائل الصد عن سبيل الله، من الشهوات والمغريات والسعي وراء المادة وعدم الاكتراث بشؤون الدين، إلا من النزر اليسير الذي يعد كالشعرة البيضاء في الثور الأسود أو العكس، إضافة إلى استمرار اعتدائهم علينا وعلى أوطاننا وقت ما يشاؤون بالسلاح الفتاك، وما جرى في أفغانستان والعراق وغيرها يثبت هذا المعنى، وأشد من ذلك كله غرسهم اليهود المعتدين في قلب الأمة الإسلامية "فلسطين".
ثم إن الدعوة تصدر من أفراد لا دولة لهم، ولا يتصدون لزعماء تلك البلاد بالدعوة إلي الإسلام، كما كان ذلك أسلوب رسول الله صَلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان.. هذه هي الدعوة الصحيحة والتبليغ الشرعي الذي حُرِمَه العالم بسبب قعود المسلمين عن الجهاد في سبيل الله.
ويحسن هنا نقل هذه الصيحة من العالم الجليل شيخنا العلامة، أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، يذكر بها المسلمين إنقاذَ آبائهم في الماضي العالَمَ بالدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، ويدعوهم إلى الاقتداء لإنقاذ العالم اليوم، بتلك الدعوة وذلك الجهاد، وإلا فإنه سيبقى العالم في الشقاء والتعاسة لحرمانه من هذه الدعوة وذلك الجهاد.
قال رحمه الله: "وقد وقف العالم في القرن السادس المسيحي على مفترق الطرق إما أن يتقدم العرب، ويعرضوا نفوسهم وأموالهم وأولادهم وكل ما يعز عليهم للخطر، ويزهدوا في مطامع الدنيا، ويضحوا في سبيل المصلحة الاجتماعية بأنانيتهم، فيسعد العالم وتستقيم البشرية، وتقوم سوق الجنة، وتروج بضاعة الإيمان، وإما أن يؤثروا شهواتهم ومطامعهم وحظوظهم الفردية، على سعادة البشرية وصلاح العالم، فيبقى العالم في حمأة الضلال والشقاء إلى ما شاء الله..
وقد أراد الله بالإنسانية خيراً، وتشجيع العرب، بما نفخ فيهم محمد صَلى الله عليه وسلم من روح الإيمان والإيثار وحبب إليهم الدار الآخرة وثوابها.. فقدموا أنفسهم فداء للإنسانية كلها، وزهدوا في مطامع الدنيا طمعاً في ثواب الله وسعادة النوع الإنساني، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وضحوا بكل ما يحرص عليه الناس من مطامع وشهوات وآمال وأحلام، وأخلصوا لله العمل والجهاد.. فآتاهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين.
وقد استدار الزمان كهيئته يوم بعث الرسول، ووقف العالم على مفترق الطرق مرة ثانية، إما أن يتقدم العرب - وهم أمة الرسول وعشيرته - إلى الميدان ويغامروا بنفوسهم وإمكانياتهم ومطامحهم ويخاطروا فيما هم فيه من رخاء وثراء ودنيا واسعة وفرص متاحة للعيش وأسباب ميسورة، فينهض العالم من إساره وتتبدل الأرض غير الأرض، وإما أن يستمروا فيما هم فيه من طمع وطموح وتنافس في الوظائف والمرتبات، وتفكر في كثرة الدخل والإيراد وزيادة غلة الأملاك وربح التجارات، والحصول على أسباب الترف والتنعم، فيبقى العالم في هذا المستنقع الذي يتردى فيه منذ قرون.
إن العالم لا يسعد، وخيرة الشباب في العواصم العربية عاكفون على شهواتهم، تدور حياتهم حول المادة والمعدة، لا يفكرون في غيرهما ولا يترفعون عن الجهاد في سبيلهما.. ولقد كان شباب بعض الأمم الجاهلية الذين ضحوا بمستقبلهم في سبيل المبادئ التي اعتنقوها أكبر منهم نفساً وأوسع منهم فكراً.. بل كان الشاعر الجاهلي امرؤ القيس أعلى منهم همة، إذ قال:
ولو أنما أسعى لأدنى معيشة ،،،،،،،،،،،،،،،،،كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،وقد يدرك المجدَ المؤثلَ أمثالي
إن العالم لا يمكن أن يصل إلى السعادة، إلا على قنطرة من جهاد ومتاعب يقدمها الشباب المسلم.. إن الأرض لفي حاجة إلى سماد، وسماد أرض البشرية الذي تصلح به وتنبت زرع الإسلام الكريم، هي الشهوات والمطامع الفردية التي يضحي بها الشباب العربي في سبيل علو الإسلام وبسط الأمن والسلام، وانتقال الناس من الطريق المؤدية إلى جهنم إلى الطريق المؤدية إلى الجنة، إنه لثمن قليل جداً لسلعة غالية جداً. [ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص303-305].
ولعل الأستاذ الندوي كان قد تأمل عندما كتب هذه الجمل قول الله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال:7-8].
فإن المسلمين ضحوا بغير ذات الشوكة، عير أبي سفيان وغيرها من مطامع الدنيا، وضحوا بأنفسهم وأموالهم كما أراد الله لإحقاق الحق وإبطال الباطل. والمسلمون اليوم مدعوون للتضحية بغير ذات الشوكة من متع الحياة التي أخلدوا بها إلى الأرض، وتركوا الجهاد في سبيل الله فحرموا البشرية تبليغ هذا الدين.
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|