فائدة أصولية: مدى صحّة الاستدلال بقوله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا )على حجّيّة الإحماع؟
إنّ من بين ما استدلّ به القائلون بإمكان وقوع الإجماع قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا )
وقد ردّ أبو حيان الأندلسي هذا الاستدلال بقوله: "واستدلَّ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ. وَقَدْ... طَوَّلَ أَهْلُ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي تَقْرِيرِ الدَّلَالَةِ مِنْهَا، وَمَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ مُخَالَفَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ فِي الشَّرْطِ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ، فَكَانَ اتِّبَاعُهُمْ وَاجِبًا كَمُوَالَاةِ الرَّسُولِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ الْمُرَتَّبِ عَلَى وَصْفَيْنِ اثْنَيْنِ، لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يترتب عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَالْوَعِيدُ إِنَّمَا تَرَتَّبَ فِي الْآيَةِ عَلَى مَنِ اتَّصَفَ بِمُشَاقَّةِ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْفِعْلُ مَعْطُوفًا عَلَى الْفِعْلِ، وَلَمْ يُعَدْ مَعَهُ اسْمُ شَرْطٍ. فَلَوْ أُعِيدَ اسْمُ الشَّرْطِ وَكَأَنْ، يَكُونَ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، وَمَنْ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ لَكَانَ فِيهِ ظُهُورُ مَا عَلَى مَا ادَّعَوْا، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَسْلِيمِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مُغَايِرًا لِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ. وَقَدْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِمُغَايِرٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ لَازِمٌ لِمُشَاقَّةِ الرَّسُولِ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ وَالتَّوْكِيدِ وَتَفْظِيعِ الْأَمْرِ وَتَشْنِيعِهِ. وَالْآيَةُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ هِيَ وَعِيدُ الْكُفَّارِ، فَلَا دلالة فيها عَلَى جُزْئِيَّاتِ فُرُوعِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ". " البحر المحيط في التفسير " (4/67).
وقال أبو زهرة في " زهرة التفاسير " (4/1858): "إن بعض علماء أصول الفقه قالوا إن هذه الآية دليل على أن الإجماع حجة وينسبون ذلك الاستدلال إلى الشافعي، ولم نجد فيما كتبه الإمام الجليل ما يدل على أنه استشهد بها في بيان حجية الإجماع، ولا نجد روح الآية ومعناها يدل على ذلك لأنها كانت في قوم منافقين كافرين، شاقوا الرسول والمؤمنين. وقد رد الغزالي في كتاب " المستصفى " القول بأنها دليل على حجية الإجماع، وكان كلامه حقا، والله سبحانه وتعالى أعلم".
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك