ما تحت الثرى

[منتدى فرسان الحق]

ما تحت الثرى

محمد صابر

خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وميزه على سائر المخلوقات بالعقل، فكان معجزة الله الكبرى في هذا الكون، وأمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نطلق لعقولنا العِنان كي نتأمل ونتدبر ظواهر الكون المختلفة: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [يونس: 101]، فجميع ما في الكون يشهد على وجود الله سبحانه وتعالى وعلى قدرته وعلى عظمته: ﴿ إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [الجاثية: 3، 4].

﴿ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ﴾ [غافر: 81].

﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ [فصلت: 53].

﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 20، 21].

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190].

ولقد تمكن الإنسان عن طريق العقل من كشف الستار عن العديد من آيات الله سبحانه وتعالى، وما زلنا حتى الآن نسمع الجديد من إنجازات العالم الحديث التي تؤكد لنا بما لا يدع أي مجال للشك قدرةَ الله سبحانه وتعالى الخارقة في خَلقه وفي تسيير أمور هذا الكون الذي يحتوينا بين جنباته.

وفي أيامنا هذه ينسى الناس أن يتأملوا في آيات الله سبحانه وتعالى؛ لانشغالهم بمطالب العيش اليومية، ولا ينتبهون من غفلتهم إلا إذا أصابتهم مصيبة أو حلت بهم نائبة، ففي هذه الفترات السوداء دون ما غيرها يجلس الإنسان مع نفسه ويُنْعِم النظر فيما حوله من آيات الله، يتأملها ويتدبرها، ويعترف بقدرة خالقها ومبدعها سبحانه وتعالى.

ولذا فإن على العلماء وقد وُهِبُوا القدرة على تفهُّم بعض ظواهر الكون أن يبسطوا للناس إعجاز الله سبحانه وتعالى في خلقه وفي تسيير أمور هذا الكون، وإني أدعو كل عالم لِأَنْ يشرح للناس الظواهر الطبيعية التي تَمَكَّن العلم من تفسيرها في مجال تخصصه بطريقة يتسنى بها لأكبر عدد منهم أن يستوعبها ويتفهم أبعادها، وعندما يتحقق ذلك سيجد الناس بين أيديهم مجموعة كبيرة من الكتابات العلمية المبسطة التي تُذَكِّرهم بقدرة الله تعالى وإعجازه في خَلقه، والتي يستطيعون أن يرجعوا إليها بين الفَيْنة والفينة، فكل منا - ولا شك - يحتاج لتثبيت قلبه على الإيمان وسط تيارات الحياة الجارفة: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8].

وفي هذا المقال فإني أدعوك معي يا صديقي القارئ كي نتأمَّل معًا إعجاز الله سبحانه وتعالى فيما خلَق تحت الثرى.

تتركب الكرة الأرضية من عدة نطاقات متحدة المركز، أكثفها هو مادة اللب الداخلي، وأخفها هو الغلاف الجوي المحيط بها وهذه النطاقات ليس بعضها مستقلاًّ عن بعض، ولكنها تتدرَّج وتتداخل عند حدودها؛ ففي مركز الكرة الأرضية يوجد لب الأرض، ويعلوه الغلاف الصخري، ثم الغلاف المائي، ثم الغلاف الجوي، والغلاف الصخري هو عبارة عن القشرة الصُّلبة التي تُكَوِّن القارات وقيعان البحار والمحيطات، ويبلغ متوسط سُمْك هذه القشرة 3200 كيلو متر، إذا ما قورنت بقُطر الأرض البالغ 13070كيلو مترًا، ويتكوَّن الغلاف الصخري من أنواع مختلفة من الصخور النارية والرسوبية والمتحولة، ولكننا قلَّما نجد صخور الغلاف الصخري في حالة جديدة، ولكنها عادة ما تكون متآكلة ومتفتتة عند السطح ومختلطة بموادَّ عضوية مختلفة، وهذه الغلالة الرقيقة التي تغطي سطح الغلاف الصخري تسمى التربة، وهي تمتد إلى أسفل قليلاً مكونة ما يسمى بتحت التربة، وهو أقل تفتُّتًا، ويحتوي على كميات أقل من المواد العضوية، وتكون التربة وتحت التربة ما يسمى بالوشاح الصخري الذي يغطي الأساس الصخري للكرة الأرضية.

وفي السطور القليلة القادمة سوف نلقي بعض الضوء على بعض الغلالة الرقيقة التي تغطي بقاعًا كثيرة من سطح الكرة الأرضية؛ لنتعرف على ما أودعها الله سبحانه وتعالى من إعجاز.

التربة هي العنصر الأساسي في الإنتاج الزراعي؛ فهي المهد الذي يستقبل البذرة الصالحة، ويوفر لها متطلبات حياتها، ويهيئ لها ظروف نموها حتى تغل المحصول الوفير، وقد يبدو لأول وهلة أن التربة الزراعية عبارة عن خليط من المواد المعدنية والعضوية يسبح في محلول مائي تتخلله بعض الغازات، بَيْدَ أن هذه الصورة لا تمثل الواقع؛ فالأرض هي البيئة التي يعيش فيها العديد من الكائنات الحية، ويجري بداخلها ملايين التفاعلات التي تعتبر مسؤولة عن إتمام دورة الحياة في الطبيعة، وكل بقعة من التربة الزراعية تعِجُّ بأنواع شتى من الأحياء، تتدرج ما بين أشكال الحياة الراقية وأشكال الحياة الدنيئة، فنجد جذور النباتات وبعض الحيوانات الراقية تعيش جنبًا إلى جنب مع الكائنات الحية الدقيقة بصورها المتنوعة من بكتريا وفطريات وطحالب وبروتوزوا وغيره، وتمثل هذه الأحياء في مجموعها ما لا يقل عن عُشْر وزن التربة الزراعية، فلا عجب بعد ذلك إذا ما سميت بالتربة الحية، وهذا المجتمع من الكائنات الحية يحتاج للماء حتى يستطيع أن يؤدي دوره في الحياة؛ مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30]، والمتدبر لآيات القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه وتعالى قد وصف الأرض بالحية في أكثر من موقع، وأكد لنا أنها تحيا بسقوط الماء عليها. ﴿ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ﴾[البقرة: 164]، ﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾[الروم: 24]، ﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴾ [يس: 33].

وتظهر بداخل التربة أشكال مختلفة من العلاقات بين سكانها من الكائنات الحية، وهذه العلاقات تتغيَّر باستمرار مع تغير الظروف المحيطة بالتربة، وحسب طبيعة ونوعية الكائنات الحية التي تقطنها، وهذا هو ما يسمى بالتوازن الحيوي؛ فجميع الكائنات الحية تعيش في التربة متقاربة مع بعضها البعض في نفس المكان، فتارة نجد أن علاقات هذه الكائنات الحية بعضها بالبعض الآخر تعادلية؛ بمعنى: أن كل كائنين يعيش كل منهما مع الآخر بدون أن يؤثر فيه بأي أثر نافع أو ضار، أو تعاونية وفيها يفيد كائن حي غيره، عن طريق إعداد غذائه، أو تحليل المواد السامة التي قد تكون موجودة في التربة، وتحد من نموه، أو تكافلية وفيها يتعاون كائنان، ويستجيب كل منهما لنمو الآخر ويفيده في نموه، وتارة أخرى نجدها تنافسية، وفيها تتنافس الكائنات الحية على الغذاء أو المكان أو الهواء، أو تضادية وفيها يفرز كائن حي بعض المركبات التي تغيِّر من الوسط المحيط بالتربة بما يلائم نموه، وفي نفس الوقت يحد من نمو غيره من الكائنات الحية، أو تطفلية وفيها يكون الهجوم مباشرًا، كما في حالة تغذي بعض الكائنات الحية على غيرها من الكائنات الحية الأخرى.

هذه صورة عامة لمختلف الاحتمالات التي يمكن أن توجد وتحدد وتنظم علاقات الكائنات الحية تحت الثرى، وتدلُّنا الشواهد العملية العديدة على حدوث وتداخل كل هذه العلاقات بعضها مع بعض بصورة متشابكة محصلتها أمام دورة الحياة في الطبيعة، ويمكنُ أن تقسم هذه العلاقات إلى قسمين رئيسيين، علاقات تعاونية، وعلاقات تضادية؛ فالعلاقات التعاونية تشمل صور التعادل والتعاون والتكافل، بينما تشمل العلاقات المتضادة صور التنافس والتضاد والتطفل.

وفي أحيان كثيرة تعيش الكائنات الحية مع بعضها في سلام بداخل التربة دون أن يكون هناك أي أثر ضار أو نافع صادر من كائن حي تجاه كائن حي آخر، ما دام كل كائن حي يقوم بدوره في الحياة، وتتوفر له مطالبه كاملة في الوسط الذي ينمو به، وفي ذات الوقت لا تتداخل هذه المطالب مع احتياجات غيره من الكائنات الحية.


وهناك العديد من صور التعاون بين ميكروبات التربة؛ فبعضها هوائي بمعنى أنه لا يمكنه النمو في غياب الأوكسجين، بينما البعض الآخر لاهوائي يعتبر الأوكسجين من العناصر السامة التي تقتله وتمنَعُ نموَّه، وبوجود هذين النوعين من الكائنات الحية في التربة تظهر بينهما إحدى صور التعاون؛ حيث إن نمو الميكروب الأول سوف يستهلك الأوكسجين من الوسط المحيط به، مما يفسح المجال أمام الميكروب الثاني ليمارس دوره في الحياة، وهنا نجد أن الاستفادة تكون من طرف واحد فقط؛ حيث يستفيد الميكروب اللاهوائي من هذه العلاقة، في حين أن الميكروب الهوائي لا يستفيد منها.

وتتعاون الكائنات الحية في معيشتها كذلك عن طريق قيام بعضها بتحضير وإعداد غذاء البعض الآخر، فهناك من الميكروبات ما يقوم بتحليل المواد العضوية صعبة التحليل إلى مركبات أبسط يمكن لميكروبات غيرها أن تستعملها في غذائها، وكذلك هناك من الميكروبات ما يقوم بتحليل المُرَكَّبات السامة التي قد تكون موجودة في التربة وتعُوق نموَّ غيرها.

وتعتبر إفرازات النباتات الراقية للعديد من المركبات الغذائية المختلفة في المنطقة المحيطة بجذورها (الريزوسفير) إحدى صور التعاون بين الكائنات الحية التي تجعل إعداد الميكروبات في هذه البقعة يفُوقُ مثيلاتها في البقاع الأخرى من التربة البعدية عن جذور النباتات.

وفي أحيان كثيرة قد يزيد التعاون بين الكائنات الحية ليصل إلى درجة التكافل، وفيه يحدث تبادل منفعة بين كائنين؛ حيث يفيد كل منهما الآخر في نموه، وقد تصل هذه العلاقة أحيانًا إلى حد عدم قدرة أي من الكائنين على النمو ومواصلة الحياة في غياب الكائن الآخر، ومن أمثلة هذه العلاقة ما يوجد بين بعض أنواع الطحالب الخضراء التي تقوم بعملية التمثيل الضوئي وبين بكتريا (الأزوثوباكتر) التي تثبت أزوت الهواء الجوي؛ حيث يُمِدُّ الطحلب أزوثو باكتر بالمواد الكربوهيدراتية اللازمة له نظير أن يمده الأزوثوباكتر بالمواد الأزوتية.

وتظهر علاقات التكافل بوضوح بين النباتات البقولية وبكتريا (الريزوبيوم) المثبتة لأزوت الهواء الجوي، وهنا نجد أن الميكروب يغزو جذور النبات البقولي، ويُكَوِّن عليه عقدًا تقوم بتثبيت أزوت الهواء الجوي الذي يمد النبات نظير إمداد النبات له بما يحتاجه من المواد الكربوهدراتية، وفي هذه الحالة فإن تثبيت أزوت الهواء الجوي يرتبط بهذه العلاقة التكافلية للكائنين، ولا يمكن أن يتم في غياب أيهما.

وتعمل بعض الفطريات من نوع الميكروهوزيا كجذور لبعض النباتات؛ حيث يتخلل الفطر الجذر الرئيسي للنبات ويساعده في امتصاص غذائه من التربة، وبجانب هذه الصور هناك أيضًا علاقات مشاركة يقوم فيها كائنان بهدم وتكسير بعض المركبات الموجودة في التربة، والتي لا يمكن لأي منهما أن يحللها بمفرده.

ومن الناحية الأخرى فبجانب هذه الصور المختلفة للتعاون بين كائنات التربة توجد أيضًا - وفي نفس الوقت - صورُ التضاد، وفيها يستطيع كائن حي أن يُوقِفَ نشاط غيره من الكائنات الحية، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة؛ فالكائنات الحية قد تتنافس على المكان أو الغذاء أو الأوكسجين، وعادة ما يتغلب كائن على آخر في هذا الصراع ويسود نوعه بالتربة، وقد يحدث هذا التنافس بين كائنات من نوع واحد، أو بين كائنات من أنواع متقاربة أو متباعدة، وفي مثل هذه الحالات يقوم أحد الكائنين المتنافسين بتغيير أحوال التربة بحيث لا تتلاءم مع نمو الميكروب المنافس له، وفي ذات الوقت تتيسر له ظروف المعيشة في الوسط الجديد، ويسلك في سبيل تحقيق ذلك سبلاً شتى؛ مثل: تغيير حموضة الوسط أو حالة التهوية به.

وتتغذى بعض الكائنات الحية في التربة على بعضها الآخر؛ فمثلاً نجد أن الغذاء المفضل للبروتوزوا هو البكتريا، وأن الحشرات تتغذى بشراهة على الفطريات، وبعض أنواع الفطريات تقتل ديدان الفيماتودا الثعبانية، وكذلك نجد من الفيروسات ما يحلل البكتريا والنبات والحيوان.

ويعتبر إفراز السموم وبعض نواتج عمليات التمثيل الغذائي السامة من أكثر الطرق فاعلية في علاقات التضاد بين الكائنات الحية؛ حيث يقوم أحدُ الكائنات الحية بإفراز سموم تقتل وتوقف نمو غيره من الأحياء، وفي بعض الأحيان نجد أن الميكروب يفرز سمومًا تحد من نموه الذاتي وتعتبر المضادات الحيوية من أهمِّ السموم التي تفرزها الميكروبات لمحاربة أعدائها في الطبيعة؛ كي تتمكن من الحياة ومن إتمام دورها في الكون.

إن النظرة المتعمقة لهذه الصورة بوجهيها التعاوني والتضادي تقودنا إلى أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الأحياء، وكلف كلاًّ منها بدور معين، عليها أن تؤديه كي تسير عجلة الحياة، وفي نفس الوقت عزز كل كائن حي بقوى عديدة، تُمَكِّنه من أداء الدور المكلف به، وكما سبق أن أوضحنا، فإن محصلة جميع هذه العلاقات التي تحت الثرى هي دفع دورة الحياة لتجري في مجراها الذي حدده لها الله سبحانه وتعالى دونما نقصٍ أو زيادةٍ، وصدق الله العظيم حين يقول في سورة القمر: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49].

ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك