الإعجاز العلمي للسنة النبوية
الدعوة إلى الاعتدال وعدم الإسراف
عبدالرزاق نوفل
منذ أن عرَفَ الإنسان ما كان عليه، رأى أسلافه الغابرين باستقراء المخطوطات العتيقة وترجمة ما صُوِّر على الآثار القديمة، وحتى عهد قريب وسنين قليلة خلتْ من هذا القرن، والقولُ السائد والرأي الأكيد أن الإسراف في الأكل والشرب هو سبيل الصحة، وطريق الإنسان إلى القوة؛ فكلُّ مرضٍ في الظن القديم علاجُه هو كثرة الأكل، وكل وقاية من مرض في الاعتقاد السحيقِ هو زيادة الأكل، وأن كل زيادة في وزن الإنسان هي علامةٌ مميزة لصحة الأجساد، وسلامةِ الأبدان.
وجاء سيدنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليخالفَ هذا الرأيَ السائد، ويناقض هذا الاعتقادَ الشامل، فيأمر أتباعَه وأهل دينه بالاعتدال في الأكل والشرب، وعدم الإسراف فيهما، فيأمرهم أمرًا كريمًا واجب الأداء؛ إذ يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((جوعوا تصحوا)). فجَعَل الجوعَ - أي: قلةَ الأكل - سبيل الصحة، وجعل الشر كلَّ الشر في أن يملأ الإنسان بطنه، إذ يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ملأ ابنُ آدم وعاءً شرًّا من بطنه)).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن شر الرِّعاءِ الحُطَمة)). والحطمة هو كثير الأكل.
فلا يَملِك المسلمون إلا أن يتَّبعوه ويستمعوا إليه فيطيعوه، وتنعكس نتائج هذه الطاعة عليهم، فيزدادون قوة على قوة، وتنصلح أبدانهم، وتشتدُّ أجسادُهم، وترتفع معنوياتهم، ويصبح دستور المسلمين في الطعام والشراب مجانيًّا لكل ما يشاع، معارضًا كل ما يتبع، ويظل أهل الإسلام متمسكين بدعوة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاعتدال في الأكل والشرب وعدم الإسراف فيهما.
حتى نجد أن الطب بفرعيه الوقائي والعلاجي، يصل في السنين الأخيرة إلى تقريره لحقيقة هامة في الوقاية، وإلى أصل ثابت في العلاج: عدم الإسراف في الأكل والشرب، وألا يأكل الإنسان إطلاقًا إلا إذا أحس بالجوع، وألا يأكل حتى يشبع، وهذا قول سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيانه في حديثه الشريف: ((نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلْنا لا نشبع)).
ويقرِّر العلمُ الحديث أيضًا أن أي زيادة - مهما كانت طفيفة في أكل الإنسان - عن حاجته الضرورية، تسبِّب إجهادًا لجهازه الهضمي، وإرهاقًا لجهازه العصبي، وأنها كأنما تختصر من عمره؛ لأنها تستهلك بسرعةٍ أجهزتَه، ويكفي الإنسانَ لذلك القليلُ، والقليل جدًّا من الأكل والشرب، وهذا ما سبق به سيدنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حديثه الشريف الذي يقول فيه: ((حسْبُ ابنِ آدم لقيماتٌ يُقِمْنَ صُلبَه، فإن كان لا بدَّ فاعلاً، فثُلُثٌ لطعامِه، وثُلث لشرابه، وثُلث لنفَسِه)).
واتَّسعتْ آفاق الدراسات العلمية، وتقدَّمت الأبحاث الطبية؛ ليصل العلمُ إلى أن معظم أمراض هذا الجيل التي استشرتْ وتفاقمت، إنما نتجتْ بسبب الإسراف، وأن الإسراف وحده هو سببُ ما تعانيه البشريةُ من أمراضٍ عضوية ونفسية وعصبية، وأنها إن كانت قد لزمت الإنسانَ منذ نشأته، فإنها تزايدت في العصور الأخيرة، واشتدَّتْ شرورُها في أجيالنا الحالية، وهمُّ العلماء الدعوةُ إلى محاربة الإسراف في كل شأن الإنسان، وليس في أكله وشربه فقط، حتى في راحته، وأوقات مرحه؛ إذ يقول الطبيب العالمي الدكتور ألكسيس كاريل - الحائز على جائزة نوبل في الطب والجراحة - في كتابه "الإنسان هذا المجهول" ما نصه: "إن إنسان هذا العصر مسرف في كل شيء، حتى إذا استمع إلى نصح الأطباء بالراحة فإنه يسرف فيها، ودعا إلى التوسط في كل أمر، والاعتدال في كل شأن، وتوالتْ بعد ذلك التقارير العلمية، وكلها تُجمِعُ الرأي على ضرورة محاربة الإنسان لما يثور في نفسه من رغبة في الإسراف، أيًّا كان اتجاه الإسراف، وأن الإسراف في أي أمر، هو شرٌّ كل الشر، وهكذا تتوالى الحقائق التي يحرص العلم الحديث على القول بها؛ للدعوة إلى الاعتدال وعدم الإسراف، معتقدًا أن هذا من أهم النجاحات التي حققتْها الأبحاثُ العلمية في عصرنا الحاضر؛ عصرِ النهضة العلمية، ولكن الحقيقة الأكيدة أن سيدنا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قد سبق إلى بيان هذه الحقيقة، ودعا إليها وقرَّرها؛ إذ أمَرَ أهل دينه أمرًا واجب الأداء، بألا يسرفوا، إطلاقًا في كل أمورهم، لا في الأكل، ولا في الشرب، بل ولا حتى في الصدقة، ولا في الملبس، ولا في الزينة، وهكذا دعا - صلى الله عليه وسلم - بالاعتدال وعدم الإسراف في كل أمور الإنسان؛ حيث يقول: ((كُلُوا واشربوا وتصدَّقوا والْبَسُوا، في غير إسرافٍ ولا مَخِيلة)).
وصلَّى الله على سيدنا محمد، الذي سبق بعِلمِه الذي علَّمه اللهُ - جل شأنه - كلَّ ما وصل إليه علم العلماء، وطب الأطباء، وحكمة الحكماء.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك