اعتبارات شرعية يجب مراعاتها عند الاستثمار في الأصول الرقمية
عباس الرمساوي
يسعى المسلم الفَطِن والواعي إلى مراقبة الله سبحانه وتعالى في جميع تصرُّفاته وأعماله، ويطلب رِضاه، ويجتهد في الابتعاد عمَّا حرَّم، رغم صعوبة هذا لا سيَّما في زماننا هذا؛ حيث تكثُر الفِتَن والإغراءات.
ومن أكثر ما يُغْري النفس، المال! حيث كثرت الإغراءات المالية في زماننا، وزادت سهولة الحصول على المال الحرام واكتسابه، بعد انتشار أنواع محدثة من الاستثمارات لم تكن موجودةً سابقًا، أكثرها فيه شبهة إن لم يكن مُحرَّمًا.
ومن تلك الاستثمارات المحدَّثة، الاستثمار في الأصول الرقمية، والتي تشتهر بين الناس باسم "العملات الرقمية" أو "الرموز غير القابلة للاستبدال"، تلك الأصول الافتراضية ذات الاستعمالات والفوائد المتعدِّدة على الاقتصاد والصناعة والتجارة والتعليم، كما لم يكن للمسلمين- مع الأسف- إسهامٌ واضحٌ في اختراعها، ولا في تطويرها؛ بل سارع البعضُ إلى منعها فقط لجهلهم بطريقة استعمالها، أو لجهالتهم باللغة الإنجليزية التي طورت ونشرت بها معظم تلك العملات؛ ممَّا حرم المسلمين من فوائد جمَّة كما فعل مَنْ حرَّم الطابعة في القرون الوسطى.
وقد ذكرتُ في مقال سابق أن البتَّ في زماننا في مشروعية العملات الرقمية هو أمر متعذِّر لأسباب متعددة، ولما كان إطلاقُ حكمٍ واحدٍ على جميع العملات الرقمية أمرًا متعذِّرًا حتى اليوم، يمكن للمستثمر المسلم أن يضع بعض الاعتبارات في الحسبان أثناء الاستثمار في الأصول الرقمية تحريًا للحلال، ومنها:
1- تقوى الله ومراقبته، واستحضار النية الحسنة قبل الدخول في أي مشروع رقمي أو الاستثمار فيه، والحذرَ الحذرَ من مشاريع العملات ذات الشبهة الواضحة؛ كتلك المعنية بالمراهنات أو بالفوائد الربوية، ريثما تضطلع هيئة شرعية معتبرة بالبتِّ في مشروعية كل "عملة" رقمية على حدة، بمشاركة خبراء متخصصين في هذا المجال.
2- عدم الفرح عند الربح، وعدم الجزع عند الخسارة: تكثر في عالم الأصول الرقمية الفرص السانحة للربح الوفير، كما تكثر فيه الخسائر الجمَّة نتيجة تقلُّبات السوق وطبيعة الاستثمار المتقلبة، فاعلم- يا أخي المسلم- أن الرزق مُقدَّر ومكتوب، وَضَعْ هذا في بالك دائمًا، وقد قال تعالى: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27]، وعند فوات فرصة الربح إياك أن تقول: (لو أني فعلتُ كذا لربحتُ كذا..)، فإن الرزق هو من عند الله وحده وما ينزله إلا بقدر ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21].
أما عند الربح- وفُرصُه كثيرةٌ في هذا المجال- فينبغي للمستثمر المسلم أن يُسارِعَ في إخراج زكاة تلك العملات حسبما بيَّن المتخصِّصون في هذا المجال، وبالنسب الشرعية المقدَّرة، فضلًا عن الصَّدَقات للفقراء والمحتاجين.
3- عدم استسهال الحرام: ففي السابق، كان الدخول في الاستثمارات المحرَّمة يتطلَّب قليلًا من الجهد والمتابعة وشيئًا من السعي اليسير، أما اليوم فإن الانزلاق في الاتجار في مشروع مشبوه أو اكتساب المال الحرام إنما يتم بضغطة زرٍّ من أزرار المواقع الإلكترونية المتخصصة في تجارة الأسهم والعملات الرقمية، كما أن ظهور بعض الاستثمارات المشبوهة سهلة المنال؛ مثل: العقود الآجلة "الفيوتشر"، وحملات الضخِّ لرفع سعر عملة ما بطريقة غير قانونية، وغيرها، لا يعني أنها استثمارات مشروعة، مهما كان الوصول إليها سهلًا.
وأمَّا الابتعاد عن تلك الاستثمارات المُحرَّمة والصبر على ذلك، فهو من أعظم جوانب خشية الله بالغيب، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 94].
4- عدم الانشغال عن الصلاة: فمن دخل في عالم الأصول الافتراضية يجب أن يعرف أنها مليئة بالرموز والأشكال والأرقام والتفاصيل الدقيقة التي تشغل الإنسان وتجهده في متابعتها، وربما يأتي وقتُ الصلاة وذهن المستثمر المسلم لا يزال عالقًا في تلك الأشكال وحسابات الربح والخسارة، على حساب الخشوع في الصلاة، فلا تجعل حرصك على اكتساب المال يشغلك عن اكتساب الحسنات والخشوع بين يدي الله.
وختامًا:
إنَّ من أهم العوامل التي تجعل التحرِّي عن الحلال والحرام صعبًا؛ هي حالة الفوضى وتقصير علماء الشريعة في البحث في عالم الأصول الرقمية من جهة، وتقصير متخصصي العملات الرقمية في تعلُّم أحكام الشريعة فيما يتعلق بالمال، وعلى أي حال فأنت كمستثمر مسلم مطالب بالاجتهاد وتحرِّي الحلال ما استطعت، وأن تراعي حقَّ الله في مالك، وأن تجتهد في سبيل ذلك ما استطعت.
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك