النفقة في الحج
الشيخ صالح بن عبدالرحمن الأطرم
الحمد لله الذي لا يَقبَل من الأعمال إلا ما كان طيبًا، إن الله تعالى طيِّب لا يقبل إلا طيبًا، وأشهد أن لا إله إلا الله، أمرنا بالحلال، وحذَّرنا من الحرام، وتوعَّد صاحبَه بالنار وسعيرها، ومحْقِ البركة منه ومن ماله وعياله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: ((كلُّ جسد نبت من سُحتٍ، فالنار أولى به))، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين نزهوا أنفسَهم عن الحرام، وبطونهم عن الحرام، وبارَك في أهليهم وأولادهم ونمَّى أموالهم، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم المفلحون.
أما بعد:
فأيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن حياةَ الإنسان في هذه الدنيا مبنيَّة على مُقوِّمات لأوَدِها، ومقوِّمات للأجسام النامية وحركاتها، وحيث كان الهدف من إيجاد الإنسان في هذه الدنيا لأسمى الغايات، وهو سلوك أشرف الطرقات؛ ليعيش عبدًا لربه وحده، ذليلاً له مُنقَادًا مستسلمًا، أمر بأن يُصحِّح ما يُغذِّي به جسمَه، وينشئ به عظمَه، ويحيا به بدنه؛ ليَنبُت نباتًا حسنًا، فتَحسُن عبادته لله تعالى، وتَصلُح أعماله؛ فينال بذلك المقصود، وهو الثواب على هذه الأعمال، غير أن مقوِّمات الحياة فيها حلال وحرام، وطيب وخبيث، فالإنسان مطلوب منه أن يُطيِّب مطعمَه ومشربه وملبسه، وأن يُحلِّل مأكلَه، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168]، فما حرم؛ فلنجاسته أو لضرره على البدن، وكلا الأمرين لا يرتضيهما الإسلام لبدن المسلم الطاهر الذي يَضُم رُوحَه الطيبة.
علَّق الحافظُ ابن كثير - رحمه الله - على هذه الآية، قائلاً: "لما بيَّن تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه المستقل بالخَلْق، شرع يُبيِّن أنه الرزاق لجميع خلْقه، فذكر في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالاً من الله طيبًا، أي: مُستطابًا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول"، فمَن استباح المحرَّم أو حرَّم الحلال، كان فيه شبه كبير بالجاهلية من الاستخفاف بأمر الله تعالى؛ اتباعًا للشيطان؛ لذا قال تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168].
وقال الحافظ ابن كثير: "ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان، وهي: طرائقه ومسالكه، فيما أضلَّ أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها، مما كان زينة لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض بن حمار - رضي الله عنه - الذي في صحيح مسلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((يقول الله تعالى: إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال)) وفيه: ((وإني خلقتُ عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم))، فطِيبُ المأكل وحِلُّه، والمشرب والملبس، يترتَّب عليه قَبُول الأعمال والدعوات، وتمام العبادات، وهذا ما يَنشُده المؤمن بربه تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ففي الحديث: أن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مُستجابَ الدعوة، فقال: ((يا سعد، أطِب مطعمَك، تكن مستجابَ الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن الرجل ليَقذِف اللقمةَ الحرام في جوفه ما يُقبَل منه أربعين يومًا، وأيما عبد نبَت لحمه من السحت والربا، فالنار أولى به))، وكفاك أنِ اختلف العلماء في صحة حج آكل الحرام وصلاته، هل يَسقُط عنه الفرض أم لا؟ والكل متَّفِقون أنه آثم، وأن ذلك مُنقِص من ثوابه؛ فلقد جاء في الحديث: ((إذا خرج الحاج بنفقة طيبة، ووضَع رجلَه في الغرز - أي: ركَب على دابته - وقال: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسعديك؛ زادُك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور، غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضَع رجلَه في الغرز، فنادى: لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك، ولا سعديك؛ زادُك حرامٌ، ونفقتُك حرام، وحجك مأزور، غير مبرور))[1].
عباد الله، إن الواجب على المسلم أن يَحرِص على أسباب قَبُول الدعاء، وليَحذر من الموانع؛ فقد ورد في الحديث الشريف أن من أسباب قَبُول الدعاء: (الشعث والغَبَرة)، ومد اليدين إلى السماء والإلحاح للرب حال سفرِ الإنسان؛ لأن السفر سبب لقَبُول الدعاء واستجابته، لكن الحذر كل الحذر من موانع قَبُوله والإثابة عليه؛ كالدعاء بالإثم من قطيعة رَحِم وغيرها، أو استعمال المُحرَّمات ملبسًا ومأكلاً؛ ففي الحديث: ((إن الله طيِّب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمَر به المرسلين، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يُطيل السفرَ، أشعث أغبر، يَمُد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب له؟!)).
فكن حارسًا على بطنك، وحافظًا لفرجك، وممسكًا للسانك، وغاضًّا لبصرك، ومصمًّا لأذنيك عما نُهيت عنه، تكن ممن ضُمِنت لهم الجنة؛ ففي الحديث: ((من حفِظ البطن وما وعى، والرأس وما حوى، فله الجنة))، وفي الآخر: ((مَن يضمنْ لي ما بين لَحْيَيْهِ وما بين رجليه، أضمنْ له الجنة))، وقد وردت آثار في فضل نفقة الحج، فاحرِصْ أخي الحاج على طيب نفقتك وحِلها، تربحْ من حجك، ويَطِبْ عملُك عند ربك؛ فعن بُريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبع مائة ضعْف))، وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لها في عمرتها: ((إن لك من الأجر قَدْر نَصَبِك ونفقتك))؛ أخرجه الدارقطني، وعنها أيضًا قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا خرج الحاج من بيته، كان في حِرز الله، فإن مات قبل أن يقضي نُسكَه، وقع أجرُه على الله، وإن بقي حتى يقضي نُسكَه، غفر الله ما تقدَّم وما تأخَّر من ذنبه، وإنفاق الدرهم الواحد في ذلك يَعدِل أربعين ألف درهم فيما سواه))، قال أبو عبدالله الباجي الزاهد - رحمه الله -: خمس خِصال بها تمام العمل: الإيمان بمعرفة الله - عز وجل - ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السُّنة، وأكل الحلال، فإن فقدتَ واحدة لم يرتفع العمل؛ وذلك إذا عرفت الله - عز وجل - ولم تعرف الحق، لم تنتفع، وإذا عرَفت الحقَّ ولم تعرف الله، لم تنتفع، وإن عرفت الله وعرفت الحق وأخلصت العمل ولم يكن على السنة، لم تنتفع، وإن تمَّت الأربع ولم يكن الأكل حلالاً، لم تنتفع.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وطهِّروا أنفسَكم من الحرام، واتقوا يومًا تُرجعون فيه إلى الله ثم توفَّى كلُّ نفسٍ ما كسبتْ وهم لا يظلمون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 168، 169].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] الترغيب والترهيب؛ للحافظ المنذري، برقم (1649).
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك