في ختام رمضان
الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر
الحمد لله الذي وفَّق برحمته من شاء من عباده، فعرَفوا قدر مواسم الخيرات، فعمَروها بجليل القُرَب، وعظيم الطاعات، أحمَده سبحانه خصَّ ليلة القدر بجليل القدر؛ إذ شرَّفها بإنزال القرآن ذي الذكر، وأخبر أنها ليلة مباركة خير من ألف شهر، وكيف لا وهي ليلة يُفرَق فيها كل حكيم من الأمر، وتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ألا له الخلق والأمر.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ الذي حثَّ على التماس ليلة القدر، وبشَّر مَن قامها إيمانًا واحتسابًا بمغفرة ما تقدَّم له من وزرٍ، صلى الله وسلم على وآله وأصحابه أُولِي الهِمم العالية في نَيْل البر والمنافسة العظيمة فيما فيه عظيم الأجر.
أمَّا بعدُ:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى وارْجوه واذكروه، واشكروا له واعبدوه، واعلموا أن الله تعالى جعل الليل والنهار خِلفة لمن أراد أن يذكَّر أو أراد شكورًا، فهما خزائن للأعمال، ومراحل تُقطَع لبلوغ الآجال، يبليان كل جديد، ويُقربان كل بعيد، فبالأمس دخل شهر الصيام، واليوم لم يَبق منه إلا اليسير من الليالي والأيام، فاغتنموا ما بَقِي منه في الاجتهاد بطاعة المولى العظيم، وانتظروا منه على إحسان العمل جزيل التكريم، أحسِنوا فيما بقِي من الصيام، وأحْيُوا لياليه بالقيام، واختموه بالتوبة والاستغفار، وسؤال الله العتقَ من النار.
أيها المسلمون، كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يخص هذه العشر المباركة بمزيد من الاجتهاد في طاعة ربه، يلتمس مغفرة ذنبه ورضا به، فكان صلى الله عليه وسلم إذا دخلت هذه العشر، جد في العبادة، واعتزل نساءه؛ معتكفًا في المسجد، متفرغًا لما يُقربه إلى الله - من صلاة وصدقة وقرآن، وذكر ودعاء وثناء - فكان يُحيي ليله، ويُوقِظ لذلك أهله، لأجل أن يتقربوا إلى الله فيها بالصالحات، ويشهدوا ما أودعها الله من الخيرات، ويفوزوا بما فيها من بركات، وقد قال ربكم سبحانه: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
فاجتهدوا عباد الله في هذه العشر المباركات بأنواع الطاعات؛ من أداء الصلوات المفروضة، والقيام في الليل مع الأئمة، وجُودُوا ببذل الزكوات والصدقات، تُكفَّر خطاياكم، وتُغفر لكم السيئات، واحفظوا صيامكم، واتْلُوا كتاب ربكم، واستَبِقُوا الخيرات، واصبروا على ذلكم بأنفسكم، ورغِّبُوا فيه أهليكم ومَن لكم عليه ولاية، تكونوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم مقتدين، وبكل خير مُدخرين في هذه الأيام والليالي وبه حَريِّين، وربكم سبحانه حييٌّ كريم، يحب المحسنين؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 30].
أيها المسلمون، إن أعظم ما ينبغي لكم طلبُه هذه الأيام، هو تحرِّي ليلة القدر بإحيائها بالقيام، وسؤال العفو من ذي الجلال والإكرام، وهي على الصحيح ليست معلومة أي ليلة من العشر، ولا يمكن الفوز بها إلا بإحيائها كلها، فإن من حكمة إخفائها أن تظهر الرغبة في طلبها، وأن يكثُر العمل الصالح من طُلاَّبها، فهي محتملة أن تكون في ليالي الوتر من الشهر بالنسبة لما مضى منه، وفي ليالي الشفع بالنسبة لما بقِي، وما ورد في السنة من تحديدها في ليلة معينة، فالمراد في تلك السنة، فالتمسوا - رحمني الله وإياكم - ليلة القدر في سائر ليالي العشر، واحتسبوا عند الله فيها عظيم الأجر، فإن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المزمل: 20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الهدي والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك