07-10-2015, 05:41 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 356,127
|
|
(0145) ومن إمداد الله للمجاهدين ما وقع في فتح المدائن
كأنما يسيرون على وجه الأرض:
إن قصة سعد بن أبي وقاص التي عزم فيها أن يقتحم نهر دجلة بجيشه على خيولهم، لعدم وجود السفن، من أعظم قصص الكرامات التي منح الله بها عباده المجاهدين، وإنها على طولها لجديرة بالنقل في هذا الموضع من هذا البحث، وقد ساقها ابن كثير رحمه الله سياقاً يغري بقراءتها، وها هي بطولها: قال رحمه الله: "لما فتح سعد نهر شير واستقر بها وذلك في صفة لم يجد فيها أحداً ولا شيئاً مما يغنم، بل قد تحولوا بكمالهم إلى المدائن، وركبوا السفن وضموا السفن إليهم، ولم يجد سعد رضي الله عنه شيئاً من السفن وتعذر عليه تحصيل شيء منها بالكلية وقد زادت دجلة زيادة عظيمة وأسود ماؤها ورمت بالزبد من كثرة الماء بها..
وأُخبر سعد بأن كسرى يزدجرد عازم على أخذ الأموال والأمتعة من المدائن إلى حلوان، وإنك إن لم تدركه قبل ثلاث فات عليك وتفارط الأمر. فخطب سعد المسلمين على شاطئ دجله، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليهم معه وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا، فيناوشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شيء تخافون أن تؤتوا منه. وقد رأيت أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا، ألا أني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم..
فقالوا جميعاً: عزم الله لنا ولك على الرشد، فافعل، فعند ذلك ندب سعد الناس إلى العبور، ويقول: من يبدأ فيحمي لنا الفراض - يعني ثغرة المخاضة من الناحية الأخرى - ليجوز الناس إليهم آمنين.. فانتدب عاصم بن عمرو، وذو البأس من الناس قريب من ستمائة فأمر سعد عليهم عاصم بن عمرو، فوقفوا على حافة دجلة.. فقال عاصم: من ينتدب معي لنكون قبل الناس دخولاً في هذا البحر فنحمي الفراض من الجانب الآخر؟ فانتدب له ستون من الشجعان المذكورين، والأعاجم وقوف صفوفاً من الجانب الآخر.. فتقدم رجل من المسلمين وقد أحجم الناس عن الخوض في دجلة فقال: أتخافون من هذه النطفة؟ ثم تلا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران: من الآية145]. ثم أقحم فرسه فيها واقتحم الناس.
وقد افترق الستون فرقتين أصحاب الخيل الذكور، وأصحاب الخيل الإناث، فلما رآهم الفرس يطفون على وجه الماء قالوا: دِيوانا ديوانا. يقولون: مَجانين مجانين.. ثم قالوا: والله ما تقاتلون إنساً بل تقاتلون جناً.. ثم أرسلوا فرساناً منهم في الماء يلتقون أول المسلمين ليمنعوهم من الخروج من الماء، فأمر عاصم ابن عمرو أصحابه. أن يشرعوا لهم الرماح ويتوخوا الأعين، ففعلوا ذلك بالفرس فقلعوا عيون خيولهم، فرجفوا أمام المسلمين لا يملكون كف خيولهم حتى خرجوا من الماء..
واتبعهم عاصم وأصحابه، فساقوا وراءهم حتى طردوهم عن الجانب الأخر ووقفوا على حافة الدجلة من الجانب الآخر، ونزل بقية أصحاب عاصم من الستمائة في دجلة فخاضوها حتى وصلوا إلى أصحابهم من الجانب الآخر.. فقاتلوا مع أصحابهم حتى نفوا الفرس عن ذلك الجانب، وكانوا يسمون الكتيبة الأولى كتيبة الأهوال، وأميرها عاصم بن عمرو، والكتيبة الثانية الكتيبة الخرساء، وأميرها القعقاع بن عمرو..
وهذا كله وسعد والمسلمون ينظرون إلى ما يصنع هؤلاء الفرسان بالفرس وسعد واقف على شاطئ دجله، ثم نزل سعد ببقية الجيش، وذلك حين نظروا إلى الجانب الآخر قد تحصن بمن حصل فيه من الفرسان المسلمين.. وقد أمر سعد المسلمين عند دخول الماء أن يقولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
ثم اقتحم بفرسه دجلة، واقتحم الناس لم يتخلف عنه أحد، فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملأوا ما بين الجانبين، فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة.. وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض، وذلك لما حصل لهم من الطمأنينة والأمن والوثوق بأمر الله ووعده ونصره وتأييده. ولأن أميرهم سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وقد توفي رسول الله صَلى الله عليه وسلم وهو عنه راض، ودعا له.. فقال: (اللهم أجب دعوته وسدد رميته) [تحفة الأحوذي (10/254)].
والمقطوع به أن سعداً دعا لجيشه هذا في هذا اليوم بالسلامة والنصر، وقد رمى بهم في هذا اليم فسددهم الله وسلمهم، فلم يفقد من المسلمين رجل واحد.. غير أن رجلاً واحداً يقال له فرقدة البارقي زل عن فرس له شقراء، فأخذ القعقاع بن عمرو بلجامها، وأخذ بيد الرجل حتى عدله على فرسه، وكان من الشجعان فقال: عجز النساء أن يلدن مثل القعقاع بن عمرو..
ولم يعدم للمسلمين شيئا من أمتعتهم، غير قدح من خشب لرجل يقال له مالك بن عامر، كانت علاقته رثة فأخذه الموج فدعا صاحبه الله عز وجل، وقال: اللهم لا تجعلني من بينهم يذهب متاعي.. فرده الموج إلى الجانب الذي يقصدونه، فأخذه الناس ثم ردوه على صاحبه بعينه، وكان الفرس إذا أعيا وهو في الماء يقيض الله له مثل النشز المرتفع فيقف عليه فيستريح وحتى أن بعض الخيل ليسير وما يصل الماء إلى حزامها.
وكان يوماً عظيما وأمراً هائلاً وخطباً جليلاً وخارقاً باهراً، ومعجزة لرسول الله صَلى الله عليه وسلم، خلقها الله لأصحابه لم ير مثلها في تلك البلاد ولا في بقعة من البقاع سوى قضية العلاء بن الحضرمي المتقدمة بل هذا أجل وأعظم.. فإن هذا الجيش كان أضعاف ذلك.. قالوا: وكان الذي يساير سعد بن أبي وقاص في الماء سلمان الفارسي، فجعل سعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل. والله لينصرن الله وليه وليظهرن الله دينه وليهزمن الله عدوه، إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات.. فقال له سلمان: "إن الإسلام جديد ذللت لهم والله البحور، كما ذلل لهم البر، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجاً كما دخلوا أفواجاً.. فخرجوا منه كما قال سلمان لم يغرق منهم أحد ولم يفقدوا شيئا ولما استقل المسلمون على وجه الأرض خرجت الخيول تنفض أعرافها صاهلة فساقوا وراء الأعاجم حتى دخلوا المدائن فلم يجدوا بها أحداً. [البداية والنهاية (7/64-66)].
ترى هذا الحدث عندما يقع للمسلمين أنفسهم، ألا يزداد يقينهم ويقوى إيمانهم وتثبت به قلوبهم فيزدادون عزاً وقوة ومنعة؟. وعندما يراه أعداء الإسلام الذين يقولون لأول وهلة: مجانِين مجانين، ثم تكون النتائجُ النصرَ المبين للمجاهدين والهزيمة والخذلان والمهانة لأعدائهم.. ألا يكون ذلك داعياً لهم إلى التفكير في أمر هذا الدين ثم الدخول فيه فيزداد المسلمون قوة على قوتهم وعزاً على عزهم؟ بلى.. وهذا ما حصل فقد دخل أهل البلدان المفتوحة في دين الله وأعز الله بهم الإسلام بعد أن أذلهم بالكفر.
والذي يراجع معارك المسلمين مع أعدائهم في كل زمان ومكان يرى تنزيل نصر الله على أوليائه، وإنزال الهزيمة بأعدائه، إذ أن العدو في أغلب المعارك يكون عدده أضعاف أَضعاف عدد المسلمين، وعُدده المادية تفوق عدد المسلمين بكثير، ومع ذلك يكون النصر للمسلمين على الكافرين.
قال القرطبي: "وقد وقف جيش مؤته، وهم ثلاثة آلاف، في مقابلة مائتي ألف.. -إلى أن قال-: قلت: ووقع في تاريخ فتح الأندلس أن طارقاً مولى موسى بن نصير سار في ألف وسبعمائة رجل إلى الأندلس، وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة، فالتقى وملك الأندلس لذريق وكان في سبعين ألف عنان، فزحف إليه طارق وصبر له، فهزم الله الطاغية لذريق وكان الفتح.. [الجامع لأحكام القرآن (7/381)].
ولكن نزول نصر الله على عباده المؤمنين الذي يخرق لهم الأسباب المادية، مشروط باستنفاد المسلمين طاقاتهم، وقيامهم بكل سبب يقدرون عليه، فإذا تقاعسوا عن ذلك فإنهم لا يستحقون نصره وهم نيام.. قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60]. ولو كان الله ينصر المسلمين بالخوارق وحدها وهم قاعدون، لكان أحق الناس بذلك رسول الله صَلى الله عليه وسلم، الذي قضى وقته كله مجاهداُ وتعرض للأذى والجروح والتعب..
فخرق الأسباب المادية عند الله قريب لمن قام بالأسباب المادية المأمور بها، مع الإيمان والعمل الصالح والتوكل على الله.
وتأمل كيف قارن ابن تيمية رحمه الله بين ما وقع للمشركين في الخندق من الهزيمة التي أنزلها الله بهم، وما وقع للتتار في عهده، يظهر لك استمرار نصر الله لأوليائه على أعدائه بأسباب خارقة للعادة، إذا علم صدق المجاهدين في سبيله وقيامهم بما يطيقون من الأسباب.. قال رحمه الله: "وكان عام الخندق برد شديد وريح شديدة منكرة بها صرف الله الأحزاب عن المدينة.. كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الأحزاب:9]. وهكذا هذا العام أكثر الله فيه الثلج والمطر والبرد، على خلاف أكثر العادات حتى كره أكثر الناس ذلك، وكنا نقول لهم: لا تكرهوا ذلك فإن لله فيه حكمة ورحمة.. وكان ذلك من أعظم الأسباب التي صرف الله بها العدو، فإنه كثر عليهم الثلج والمطر والبرد حتى هلك من خيلهم ما شاء الله، وهلك أيضاً منهم من شاء الله، وظهر فيهم وفي بقية خيلهم من الضعف والعجز بسبب البرد والجوع ما رأوا أنهم لا طاقة لهم معه بقتال.. حتى بلغني عن بعض كبار المقدمين في أرض الشام أنه قال: لا بيض الله وجوهنا.. عدونا في الثلج إلى شعره.. ونحن قعود لا نأخذهم، وحتى علموا أنهم كانوا صيداً للمسلمين لو يصطادونهم.. لكن في تأخير الله اصطيادهم حكمة عظيمة.. [مجموع الفتاوى (28/445)].
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|