رفض التأويل الكلامي
وليد سميح عبدالعال
التأويل عند المتكلمين بعامة يقتضي اتخاذ العقل أصلًا في التفسير مقدمًا على الشرع فإذا ظهر تعارض بينهما فينبغي تأويل النصوص إلى ما يوافق مقتضى العقل.
ولكن السلف على العكس - كما يذكر شيخ الإسلام - احتكموا إلى الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية مكتفين بها، فطوعوا المفاهيم العقلية لها، لأن العقل في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- هو أمر يقوم بالعاقل سواء سمي عرضًا أو صفة، ليس هو عينًا قائمة بنفسها كما يعتبره الفلاسفة[1]، والعقل كما يرى الدكتور الغمراوي يعجز عن الإحاطة بالحقائق التي أوردها الدين "لأن الدين الصادر عن خالق الخلق وقد تناول جميع الفطرة: ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها بالإجمال فيما اقتضت الحكمة الإلهية إجماله، وبالتفصيل فيما اقتضت تفصيله والعقل الذي يمكن أن يحيط بالفطرة لم يخلقه الله بعد، وإذا عنينا به عقل المجموع، لا عقل الفرد - فإن العلم الإنساني الذي يحيط بكل شيء لم يوجد أبدًا، وما زالت الاكتشافات العلمية تمضي في طريقها لتبرهن على أنه مهما ازداد الإنسان علمًا، فإنه لن يصل إلى نهاية العلم أبدًا))[2].
وقد وقع اختيارنا على النص الأول الوارد عن ابن تيمية الذي حام حول الفكرة وظهر لنا من النص الثاني الحامل لرأي الدكتور الغمراوي، اتفاقهما التام رغم بعد الزمن بينهما.
فالأول من أهل القرن السابع/ الثامن الهجري، والثاني معاصر، ونستطيع أن نستشهد بمواقف متشابهة لبعض مفكري السلف، كابن بن حنبل والدارمي والبخاري وغيرهم فندرك الاتجاه الواحد الذي يربط بينهما جميعًا بالرغم من تغاير ظروف البيئة الثقافية والحضارية وتباين العصور والأزمنة، واختلاف الأدوار العقلية التي مرت بكل منهما وإذا شئنا التفصيل، فإن هناك عبارة ينبغي التوقف عندها لأنها تعبر لنا عن أحد قواعد المنهج. يقول ابن تيمية: "وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله ولا قياسه، ولا وجده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم..))[3].
وها نحن إزاء مواقف متشابهة تتصل بحلقات علماء السلف قديمًا وحديثًا فمنذ اضطروا لمجابهة المتكلمين، رأينا إمامًا في الحديث والفقه، وهو الإمام أحمد بن حنبل، يكتب للرد على الجهمية والمعتزلة المعاصرين له، وسمي كتابه ((الرد على الجهمية والزنادقة))، قال في مقدمته "الحمد لله الذي جعل في كل زمان، فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى" ويشرح موقف السلف من حيث اتخاذ القرآن ميزانًا لفهم الأصول الإسلامية فيستطرد قائلًا فى وصفهم: (ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) ويعني بالمبطلين والجاهلين الذين أطلقوا عقال الفتنة لأنهم تكلموا بالمتشابه من الكلام فخدعوا جهال الناس بما يشبهون عليهم[4].
كذلك اضطر البخاري إمام الحديث أيضًا لاستخدام نفس السلاح في مواجهة علماء الكلام، فأخرج لنا كتابه ((خلق أفعال العباد))؛ لكي يصحح المفاهيم الخاطئة للجهمية والقدرية الذين أولوا القرآن وفسروه طبقًا لأهوائهم فأنبرى لبيان أسباب وقوعهم في الخطأ، لأن (أكثر مغاليط الناس من هذه الأوجه الذين لم يعرفوا المجاز في التحقيق، ولا الفعل من المفعول ولا الوصف من الصفة)[5].
ونكتفي بإيراد هذه الشواهد الدالة على صدوع المفكرين في دائرة السلف لأمر الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الحجرات: 1] ولهذا لم يعارض أحد منهم النصوص بمعقوله، فإن أراد معرفة شيء من الدين نظر فيما قاله الله والرسول -صلى الله عليه وسلم- فمنه يتعلم وبه يتكلم وفيه ينظر ويتفكر، وبه يستدل، وعلى العكس من ذلك المنهج يقف على الطرف الآخر أصحاب المنهج الكلامي الذين اعتمدوا على ما رأوه، ثم نظروا في الكتاب والسنة فإن وجدوا النصوص توافقه أخذوا بها، وإذا وجدوها تخالفه أعرضوا عنها تفويضًا أو حرفوها تأويلًا[6].
[1] ابن تيمية: الفتاوى ج 9 ص 279.
[2] الغمراوي: الإسلام في عصر العلم ص 109.
[3] ابن تيمية: رسالة الفرقان بين الحق والباطل ص 23.
[4] ابن حنبل: الرد على الجهمية ص 52.
[5] البخاري: خلق أفعال العباد.
[6] ابن تيمية: رسالة الفرقان بين الحق والباطل ص 47.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك