حان الوداع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وبعد:
ودّع المسلمون في العالم سيّد الشهور وواسطة عقدها؛ شهر الصيام والقيام والقرآن والجود والإحسان، ودّعوه مُحمّلًا بالمطالب والرغائب والقُرَب -نسأل الله القبول-، ودّعوه بعد أن رحل بذنوبهم وطهَّرهم منها، فقد تعرَّضوا لعددٍ من مُطهّرات الذنوب، لو اجتمعت لأحدٍ لم يبقَ عليه ذنبٌ؛ فإدراك رمضان يُعَرِّض المسلم لغفران الذنوب، فرغم أنف من خُذِلَ فأدرك رمضان ولم يُغفَر له[1]، فهو سوق رابحة لمحو الذنوب.
(غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه)؛ قالها النبي صلى الله عليه وسلم في صيام رمضان[2]، وفي قيام لياليه[3]، وفي قيام ليلة القدر[4].
فحقّ الباذلين المقبولين فيه أن يشكروا الله على ما أَوْلاهم مِن إدراكه، والتوفيق للعمل الصالح فيه، وحقّ المقصّرين التوبة والندم، وحقّ الاثنين معًا الاستمرار في العمل الصالح؛ فالمسلم لا ينقطع عن العمل الصالح حتى يفارق الدنيا، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: ٩٩]، فلا يقطع العملَ إلا عجزٌ أو موتٌ، «إذا مات الإِنسانُ انقطع عنه عملُهُ»[5].
فالحمد لله الذي لم يُغلق أمامنا أبواب التمتع بعبادته، فشرع لنا -بعد رمضان- ما نتقرب به إليه من جنس عبادات رمضان؛ فالمسلم لا ينقطع عن الصيام، ولا يُحرم منه طوال العام، وأول فرصة وموسم يقابلك بعد رمضان هو صيام ستة أيام من شوال، ولك بذلك أجر صيام سنة كاملة، وإن سألت كيف يكون ذلك؟! فالجواب بأن الحسنة عند الله بعشرة أضعاف، فشهر رمضان بعشرة أشهر، ويبقى شهران على تمام السنة، هما الستة أيام من شوال، عن ستين يومًا؛ أي شهرين! فهذه سنة كاملة والحمد لله. قال صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر)[6].
وصيام الثلاثة أيام من كل شهر محسوبة لك شهراً كاملاً[7]، بالمقياس نفسه: {مَن جَاءَ بِالْـحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160].
وصيام أيام الاثنين والخميس هو صيام في يومين تُعرَض فيهما أعمال العباد على الله[8]، أفلا تُحب أن يُعرَض عملك على الله وأنت صائم؟! أما صيام يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من شهر المحرم فإنه يُكفّر ذنوب السنة التي سبقته![9] صيام يوم واحد يفعل هذا الفعل في الذنوب! نعم.. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: ١٢، الجمعة: 4]، وأعظم منه صيام يوم عرفة، فقد احتسب الرسول صلى الله عليه وسلم على الله أن يكفّر السنة الماضية والباقية[10]؛ سنتان: إحداهما سابقة له والأخرى لاحقة.
والإكثار من الصيام في شهر شعبان فضيل؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ عليه[11]، و(أفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم)[12].
حبيب القلب! كنت تقوم من الليل مصليًا التراويح هزيعًا من ليلك، فاحمد الله أن الاستمتاع بالقيام مشروع طوال العام، بل ينبغي مواصلة العمل والاستمرار في القيام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: (يا عبد الله! لا تكن مثل فلان، كان يقوم من الليل فترك قيام الليل) أخرجه البخاري تحت باب ما يُكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه[13]. وذُكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح، فقال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه، أو قال في أذنه)[14]؛ ويفهم من هذا الحديث أن المقصود قيام الليل؛ (حتى أصبح) أي دخل في الصباح الذي يبدأ بطلوع الفجر. وإن طريقة التخلص من بول الشيطان واستحواذه هي ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب مكان كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطًا طيّب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)[15].
وقل مثل ذلك في استمرار مشروعية تلاوة القرآن والصدقة وغيرها من صالح العمل.
أنستكثر الشكر منا لربنا الذي أنعم علينا بكل ما نراه ونعيشه {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: ٣٥]، {وَإن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم 34، النحل 18].
إن من مظاهر الصدق في الشكر أن تتمسك بما يرضاه الله ويحبّه من العبادة؛ تأسيًا بقدوتنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم الذي أضناه السهر وأعياه الوقوف مُصلِّيًا بين يدي ربه سبحانه وتعالى حتى تفطرت منه القدمان الشريفتان، وتورّمت الرِّجْلان، ومع ذلك كله استمر في قيام الليل، وأجاب المتعجبين من حاله -مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- قائلاً: (أفلا أكون عبداً شَكوراً؟!)[16].
وأنت على علم بأن المواسم والأماكن الفاضلة إنما تختصّ بمزيد الاجتهاد، أما أصل العمل فإنه دائم مستمر، فعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أَحَب العمل إلى الله أدومه وإن قلَّ)[17].
وإني أعيذك بالله أن تكون كمن قال الله فيهم: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة: 266]؛ فإياك أن تحرق بستان عبادتك بإعصار من الانقطاع والكسل.
وهل من اللائق بالعبادة التي خُلقنا من أجلها أن نخرج من واحتها بعد أن دخلناها! منحدرين في تَرْك النوافل واحدة تلو الأخرى، حتى وصلنا إلى التساهل في الفرائض! ناقضين ما أبرمنا، وناكثين ما نسجنا، وهادمين ما بنينا، فقد حذّرنا الله من هذا الصنيع العابث: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل: 92].
إن هذا الانحدار من قمة العبادة إلى حضيض الإهمال أمر مُحدَث لم يعهده السلف، بل إنهم يَمقتون فاعله لما بدأت بوادره في الظهور، فقد ذُكر لبعض الصالحين عُبَّادُ رمضان فقال: «بئس القوم! لا يعرفون الله إلا في رمضان!».
أما علمت أن مَواطن العبادة في الأرض تبكي عليك حينما تفقدك بالموت! ولِعَملك مَعْرَج في السماء ينتظر أعمالك تصعد إليه واحدًا بعد الآخر، فإذا تأخر عروج العمل بالموت بكى عليك أسفًا وندمًا بخلاف الكافر والمنافق الذي لا يبكي على فراقه شيء، قال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان: 29].
أما علمت أن الأعمال الصالحة ترفع صاحبها -برحمة الله- في الجنة درجات عظمى في النعيم أعظم من رفع الأموال والوجاهات لأصحابها بين الناس في الدنيا؟! إن أصحاب الجنة درجات بعضهم فوق بعض، يتراءى الأدنون من فوقهم كما نتراءى الكواكب الدرية الغائرة في الأفق.
لقد أثنى الله سبحانه وتعالى على أهل قيام الليل بقوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْـمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]، ثم عقّب هذا المديح ببشارة عظمى لهم {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]، كما بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم مكانة صلاة الليل في قوله: (أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل)[18].
لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: مَن يدعوني فأستجيب له، مَن يسألني فأعطيه، مَن يستغفرني فأغفر له)[19]؛ فلا تكن حينها من الغافلين.
وقال الله جل وعلا لخليله -عليه الصلاة والسلام-: {يَا أَيُّهَا الْـمُزَّمِّلُ 1 قُمِ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا 2 نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا 3 أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا 4 إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا 5 إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: ١ - ٦]، فكان -عليه الصلاة والسلام- يمتثل أمر ربه -عز وجل-، فكان يقوم في غير رمضان كما كان يقوم في رمضان، قالت عائشة -رضي الله عنها-: (ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة)[20].
وقال الله -سبحانه وتعالى- في وصف عباده: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64]، وقال -جل وعلا-: {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ 17 وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17، 18]، {وَالْـمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 17].
وأول حديث سمعه حَبْر اليهود -الذي منَّ الله عليه بالإسلام- عبدالله بن سلام -رضي الله عنه- من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن وصل المدينة مهاجرًا: (أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)[21].
إن الشيطان عدوّنا الأول! وقد فاته في رمضان شيء عظيم؛ إذ كان مقيداً، وها هو الآن يُعاود الكَرَّة مرة أخرى بعد أن فُكَّ قيده، وأُطْلِق سراحه وحُلَّت أغلاله، ليُدْرك ما فاته، ويجمع الذنوب علينا من جديد..
رحل رمضان وأُطلقت الشياطين، ودخلت حلبة الصراع وساحة الحرب والنـزال من جديد مع بني آدم، أليس من الواجب علينا أن نُضاعف الجهد ونزيد في التحصين ضد الشياطين، وقد أُطلقت، فهي مُقْبلة بشرهٍ واندفاع وحماس!
نسأل الله -تعالى- أن يُوفّقنا جميعًا لصالح القول والعمل، وأن يتقبّل منا، وأن يُثبّتنا على خير حال ترضيه، حتى نلقاه راضيًا عنّا.
[1] كما في مسند الإمام أحمد (7451)، وصححه شعيب الأرناؤوط.
[2] انظر: صحيح البخاري (38)، وصحيح مسلم (175).
[3] انظر: صحيح البخاري (37)، وصحيح مسلم (173).
[4] انظر: صحيح البخاري (1802)، وصحيح مسلم (175).
[5] أخرجه مسلم (1631).
[6] أخرجه مسلم (1164).
[7] أخرجه مسلم (1162).
[8] انظر: مسند الإمام أحمد (21753)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط.
[9] انظر: صحيح مسلم (1162).
[10] انظر: صحيح مسلم (1162).
[11] أخرجه البخاري (1868)، ومسلم (782).
[12] أخرجه مسلم (1163).
[13] انظر: صحيح البخاري (1101).
[14] أخرجه البخاري (3097)، ومسلم (774).
[15] أخرجه البخاري (1091)، ومسلم (776).
[16] أخرجه البخاري (1078)، ومسلم (2819).
[17] أخرجه مسلم (2818).
[18] أخرجه مسلم (1163).
[19] أخرجه مسلم (1094).
[20] أخرجه البخاري (1909)، ومسلم (3376).
[21] أخرجه أحمد في المسند (23784)، وصححه شعيب الأرناؤوط.
منقول