|
09-28-2015, 09:51 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 377,285
|
|
مختصر البداية والنهاية لابن كثير (سنة 101)
مختصر البداية والنهاية لابن كثير (سنة 100)
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=356828
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ هَرَبُ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ مِنَ السِّجْنِ حِينَ بَلَغَهُ مَرَضُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , فَوَاعَدَ غِلْمَانِهِ يَلْقَوْنَهُ بِالْخَيْلِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ , ثُمَّ نَزَلَ مِنْ مَحْبَسِهِ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ الْفُرَاتِ الْعَامِرِيَّةُ ، وَجَمَاعَةٌ .
فَلَمَّا جَاءَهُ غِلْمَانُهُ ، رَكِبَ رَوَاحِلَهُ وَسَارَ , وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ : إِنِّي وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مِنْ سِجْنِكَ إِلَّا حِينَ بَلَغَنِي مَرَضُكَ , وَلَوْ رَجَوْتُ حَيَاتَكَ مَا خَرَجْتُ , وَلَكِنِّي خَشِيتُ مِنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ , فَإِنَّهُ يَتَوَعَّدُنِي بِالْقَتْلِ .
وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَقُولُ : لَئِنْ وُلِّيتُ ، لَأَقْطَعَنَّ مِنْ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ طَائِفَةً . وَذَلِكَ أَنَّ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ لَمَّا وُلِّيَ الْعِرَاقَ ، عَاقَبَ أَصْهَارَهُ آلَ أَبِي عَقِيلٍ , وَهُمْ بَيْتُ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ , وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مُزَوَّجًا بِبِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَخِي الْحَجَّاجِ , وَلَهُ مِنْهَا ابْنُهُ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ الْفَاسِقُ الْمَقْتُولُ , كَمَا سَيَأْتِي .
وَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ هَرَبَ مِنَ السِّجْنِ قَالَ : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ يُرِيدُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ سُوءًا فَاكْفِهِمْ شَرَّهُ , وَارْدُدْ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ .
ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْمَرَضُ يَتَزَايَدُ بِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَتَّى مَاتَ وَهُوَ بِخُنَاصِرَةَ ، مِنْ دَيْرِ سَمْعَانَ ، بَيْنَ حَمَاةَ وَحَلَبَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ . لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ سَنَة إِحْدَى وَمِائَةٍ , عَنْ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَشْهُرٍ .
وَقِيلَ : إِنَّهُ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ بِأَشْهُرٍ . فَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ فِيمَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ : سَنَتَيْنِ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ .
وَكَانَ حَكَمًا مُقْسِطًا وَإِمَامًا عَادِلًا وَرِعًا دَيِّنًا , لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ , رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأُمَوِيِّ الْإِمَامِ الْمَشْهُورِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ
هُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ
أَبُو حَفْصٍ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
وَأُمُّهُ : أُمُّ عَاصِمٍ ، لَيْلَى بِنْتُ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
وَيُقَالُ لَهُ : أَشَجُّ بَنِي مَرْوَانَ .
وَكَانَ يُقَالُ : الْأَشَجُّ وَالنَّاقِصُ ، أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ .
فَهَذَا هُوَ الْأَشَجُّ , وَسَيَأْتِي ذِكْرُ النَّاقِصِ .
كَانَ عُمَرُ تَابِعِيًّا جَلِيلًا
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَا أَرَى قَوْلَ أَحَدٍ مِنَ التَّابِعِينَ حُجَّةً إِلَّا قَوْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ الْحِزَامِيُّ : كَانَ أَبُوهُ قَدْ جَعَلَهُ عِنْدَ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ يُؤَدِّبُهُ , فَلَمَّا حَجَّ أَبُوهُ ، اجْتَازَ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ عَنْهُ
فَقَالَ صَالِحُ بْن كَيْسَانَ : مَا خَبَرْتُ أَحَدًا اللَّهُ أَعْظَمُ فِي صَدْرِهِ مِنْ هَذَا الْغُلَامِ .
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَأَخَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ يَوْمًا
فَقَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ : مَا شَغَلَكَ ؟
فَقَالَ : كَانَتْ مُرَجِّلَتِي تُسَكِّنُ شَعْرِي .
فَقَالَ لَهُ : أَقَدَّمْتَ ذَلِكَ عَلَى الصَّلَاةِ ؟ , وَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ , وَهُوَ عَلَى مِصْرَ ، يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ
فَبَعَثَ أَبُوهُ رَسُولًا , فَلَمْ يُكَلِّمْهُ حَتَّى حَلَقَ رَأْسَهُ .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَخْتَلِفُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَسْمَعُ مِنْهُ
فَبَلَغَ عُبَيْدَ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ يَنْتَقِصُ عَلِيًّا
فَلَمَّا أَتَاهُ عُمَرُ أَعْرَضَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْهُ , وَقَامَ يُصَلِّي
فَجَلَسَ عُمَرُ يَنْتَظِرُهُ
فَلَمَّا سَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَى عُمَرَ مُغْضَبًا , وَقَالَ لَهُ : مَتَى بَلَغَكَ أَنَّ اللَّهَ سَخِطَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ بَعْدَ أَنْ رَضِيَ عَنْهُمْ ؟
قَالَ : فَفَهِمَهَا عُمَرُ , وَقَالَ : مَعْذِرَةً إِلَى اللَّهِ ثُمَّ إِلَيْكَ , وَاللَّهِ لَا أَعُودُ .
قَالَ : فَمَا سُمِعَ بَعْدَ ذَلِكَ يَذْكُرُ عَلِيًّا إِلَّا بِخَيْرٍ .
وَقَالَ دَاوُد بْن أَبِي هِنْدٍ : دَخَلَ عَلَيْنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ هَذَا الْبَابِ ، يَعْنِي بَابًا مِنْ أَبْوَابِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : بَعَثَ إِلَيْنَا الْفَاسِقُ بِابْنِهِ هَذَا يَتَعَلَّمُ الْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ , وَيَزْعُمُ أَنَّهُ لَنْ يَمُوتَ حَتَّى يَكُونَ خَلِيفَةً وَيَسِيرُ بِسِيرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ .
قَالَ دَاوُدُ : فَوَاللَّهِ مَا مَاتَ حَتَّى رَأَيْنَا ذَلِكَ فِيهِ .
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ : إِنَّ أَوَّلَ مَا اسْتُبْيِنَ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِرْصُهُ عَلَى الْعِلْمِ ، وَرَغْبَتُهُ فِي الْأَدَبِ ، أَنَّ أَبَاهُ وَلِيَ مِصْرَ وَهُوَ حَدِيثُ السِّنِّ , يُشَكُّ فِي بُلُوغِهِ , فَأَرَادَ إِخْرَاجَهُ مَعَهُ
فَقَالَ : يَا أَبَهْ , أَوَغَيْرُ ذَلِكَ لَعَلَّهُ يَكُونُ أَنْفَعَ لِي وَلَكَ ؟ , تُرَحِّلُنِي إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَأَقْعُدُ إِلَى فُقَهَاءِ أَهْلِهَا وَأَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِمْ .
فَوَجَّهَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ , فَقَعَدَ مَعَ مَشَايِخِ قُرَيْشٍ , وَتَجَنَّبَ شَبَابَهُمْ , وَمَا زَالَ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى اشْتَهَرَ ذِكْرُهُ
فَلَمَّا مَاتَ أَبُوهُ ، أَخَذَهُ عَمُّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَخَلَطَهُ بِوَلَدِهِ , وَقَدَّمَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ , وَزَوَّجَهُ بِابْنَتِهِ فَاطِمَةَ , وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا الشَّاعِرُ :
بِنْتُ الْخَلِيفَةِ ، وَالْخَلِيفَةُ جَدُّهَا . . . أُخْتُ الْخَلَائِفِ ، وَالْخَلِيفَةُ زَوْجُهَا
قَالَ : وَلَا نَعْرِفُ امْرَأَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا سِوَاهَا .
وَلَمَّا وَلِيَ الْوَلِيدُ بن عبد الملك ، عَامَلَهُ بِمَا كَانَ أَبُوهُ يُعَامِلُهُ بِهِ , وَوَلَّاهُ الْمَدِينَةَ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفَ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ , وَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَسَنَةَ تِسْعِينَ
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْوَلِيدُ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ , ثُمَّ حَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ ، وَثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ .
وَبَنَى فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ هَذِهِ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَسَّعَهُ عَنْ أَمْرِ الْوَلِيدِ لَهُ بِذَلِكَ , فَدَخَلَ فِيهِ قَبْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَدْ كَانَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ مُعَاشَرَةً , وَأَعْدَلِهِمْ سِيرَةً , كَانَ إِذَا وَقَعَ لَهُ أَمْرٌ مُشْكِلٌ جَمَعَ فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ , وَقَدْ عَيَّنَ عَشَرَةً مِنْهُمْ , وَكَانَ لَا يَقْطَعُ أَمْرًا بِدُونِهِمْ أَوْ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ , وَهُمْ :
عُرْوَةُ بن الزبير
وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بن مسعود
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي خَثْمَةَ
وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ
وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ بن أبي بكر الصديق
وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ
وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ .
وَكَانَ لَا يَخْرُجُ عَنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , وَقَدْ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لَا يَأْتِي أَحَدًا مِنَ الْخُلَفَاءِ , وَكَانَ يَأْتِي إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ .
وَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ أَشْبَهَ صَلَاةَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْفَتَى يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ كَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ .
قَالُوا : وَكَانَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ، وَيُخَفِّفُ الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ , وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ : أَنَّهُ كَانَ يُسَبِّحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَشْرًا عَشْرًا .
وَعَنْ أَبِي النَّضْرِ الْمَدِينِيِّ قَالَ : لَقِيتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ خَارِجًا مِنْ عِنْدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , فَقُلْتُ لَهُ : مِنْ عِنْدِ عُمَرَ خَرَجْتَ ؟ ,
قَالَ : نَعَمْ .
قُلْتُ : تُعَلِّمُونَهُ ؟
قَالَ : نَعَمْ .
فَقُلْتُ : هُوَ وَاللَّهِ أَعْلَمُكُمْ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : أَتَيْنَاهُ نُعَلِّمُهُ ، فَمَا بَرِحْنَا حَتَّى تَعَلَّمْنَا مِنْهُ .
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ : كَانَتِ الْعُلَمَاءُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَلَامِذَةً .
وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَ مَيْمُونٌ : كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُعَلِّمَ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ : لَمَّا عُزِلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ الْمَدِينَةِ يَعْنِي فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ ، وَخَرَجَ مِنْهَا ، الْتَفَتَ إِلَيْهَا وَبَكَى , وَقَالَ لِمَوْلَاهُ : يَا مُزَاحِمُ , نَخْشَى أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ نَفَتِ الْمَدِينَةُ . يَعْنِي أَنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ , وَتَنْصَعُ طِيبَهَا .
قُلْتُ : خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَنَزَلَ بِمَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهُ : السُّوَيْدَاءُ حِينًا , ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ عَلَى بَنِي عَمِّهِ .
وعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ : خَرَجْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ أَعْلَمَ مِنِّي , فَلَمَّا قَدِمْتُ الشَّامَ نَسِيتُ .
وَقَالَ الزُّهْرِيِّ : سَهِرْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَحَدَّثْتُهُ
فَقَالَ : كُلُّ مَا حَدَّثْتَ فَقَدْ سَمِعْتُهُ , وَلَكِنْ حَفِظْتَ وَنَسِيتُ .
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ زُفَرَ : أَقْبَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَمَعَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى مُعَسْكَرِ سُلَيْمَانَ ، وَفِيهِ تِلْكَ الْخُيُولُ وَالْجِمَالُ وَالْبِغَالُ وَالْأَثْقَالُ وَالرِّجَالُ
فَقَالَ سُلَيْمَانُ : مَا تَقُولُ يَا عُمَرُ فِي هَذَا ؟
فَقَالَ : أَرَى دُنْيَا يَأْكُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَأَنْتَ الْمَسْئُولُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ .
فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنَ الْمُعَسْكَرِ إِذَا غُرَابٌ قَدْ أَخَذَ لُقْمَةً فِي فِيهِ مِنْ فُسْطَاطِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ طَائِرٌ بِهَا وَنَعَبَ نَعْبَةً
فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : مَا تَقُولُ فِي هَذَا يَا عُمَرُ ؟
فَقَالَ : لَا أَدْرِي .
فَقَالَ : مَا ظَنُّكَ أَنَّهُ يَقُولُ ؟
قَالَ : كَأَنَّهُ يَقُولُ : مَنْ أَيْنَ جَاءَتْ ؟ , وَأَيْنَ يُذْهَبُ بِهَا ؟ ,
فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : مَا أَعْجَبَكَ !!
فَقَالَ عُمَرُ : أَعْجَبُ مِنِّي مَنْ عَرَفَ اللَّهَ فَعَصَاهُ , وَمَنْ عَرَفَ الشَّيْطَانَ فَأَطَاعَهُ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ مَالِكٌ أَنَّ سُلَيْمَانَ وَعُمَرَ تَقَاوَلَا مَرَّةً , فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ فِي جُمْلَةِ الْكَلَامِ : كَذَبْتَ .
فَقَالَ : تَقُولُ لِي : كَذَبْتَ ؟ , وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ مُنْذُ عَرَفْتُ أَنَّ الْكَذِبَ يَضُرُّ أَهْلَهُ . ثُمَّ هَجَرَهُ عُمَرُ وَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ إِلَى مِصْرَ
فَلَمْ يُمَكِّنْهُ سُلَيْمَانُ ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ فَصَالَحَهُ , وَقَالَ لَهُ : مَا عَرَضَ لِي أَمْرٌ يَهُمُّنِي إِلَّا خَطَرْتَ عَلَى بَالِي .
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ الْوَفَاةُ , أَوْصَى بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , فَانْتَظَمَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ .
وَتَقَدَّمَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا رَجَعَ مِنْ جِنَازَةِ سُلَيْمَانَ أُتِيَ بِمَرَاكِبِ الْخِلَافَةِ لِيَرْكَبَهَا , فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ , وَكَانَتْ مِنَ الْخُيُولِ الْجِيَادِ الْمُثَمَّنَةِ , فَبَاعَهَا وَجَعَلَ أَثْمَانَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ .
فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْجِنَازَةِ , وَقَدْ بَايَعَهُ النَّاسُ , وَاسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ بِاسْمِهِ , انْقَلَبَ وَهُوَ مُغْتَمٌّ مَهْمُومٌ
فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ : مَا لَكَ هَكَذَا مُغْتَمًّا مَهْمُومًا , وَلَيْسَ هَذَا بِوَقْتِ هَذَا ؟
فَقَالَ : وَيْحَكَ ! وَمَا لِي لَا أَغْتَمُّ , وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا وَهُوَ يُطَالِبُنِي بِحَقِّهِ أَنْ أُؤَدِّيَهُ إِلَيْهِ , كَتَبَ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَكْتُبْ , طَلَبَهُ مِنِّي أَوْ لَمْ يَطْلُبْ .
قَالُوا : ثُمَّ إِنَّهُ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ فَاطِمَةَ بَيْنَ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرَاغَ لَهُ إِلَيْهَا , وَبَيْنَ أَنْ تَلْحَقَ بِأَهْلِهَا
فَبَكَتْ ، وَبَكَى جَوَارِيهَا لِبُكَائِهَا , فَسُمِعَتْ ضَجَّةٌ فِي دَارِهِ , ثُمَّ اخْتَارَتْ مُقَامَهَا مَعَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ , رَحِمَهَا اللَّهُ .
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ : لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ صَعِدَ الْمِنْبَرَ , وَكَانَ أَوَّلَ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا حَمِدَ اللَّهَ , وَأَثْنَى عَلَيْهِ , ثُمَّ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ , مَنْ صَحِبَنَا فَلْيَصْحَبْنَا بِخَمْسٍ , وَإِلَّا فَلْيُفَارِقْنَا , يَرْفَعُ إِلَيْنَا حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ رَفْعَهَا , وَيُعِينُنَا عَلَى الْخَيْرِ بِجُهْدِهِ , وَيَدُلُّنَا مِنَ الْخَيْرِ عَلَى مَا لَا نَهْتَدِي إِلَيْهِ , وَلَا يَغْتَابَنَّ عِنْدَنَا الرَّعِيَّةَ , وَلَا يَعْرِضَنَّ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ .
فَانْقَشَعَ عَنْهُ الشُّعَرَاءُ وَالْخُطَبَاءُ , وَثَبَتَ مَعَهُ الْفُقَهَاءُ وَالزُّهَّادُ , وَقَالُوا : مَا يَسَعُنَا أَنْ نُفَارِقَ هَذَا الرَّجُلَ حَتَّى يُخَالِفَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ .
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ : لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعَثَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ ، وَرَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , فَقَالَ لَهُمْ : قَدْ تَرَوْنَ مَا ابْتُلِيتُ بِهِ وَمَا قَدْ نَزَلَ بِي , فَمَا عِنْدَكُمْ ؟
فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ : اجْعَلِ الشَّيْخَ أَبًا , وَالشَّابَّ أَخًا , وَالصَّغِيرَ وَلَدًا , فَبِرَّ أَبَاكَ , وَصِلْ أَخَاكَ , وَتَعَطَّفْ عَلَى وَلَدِكَ .
وَقَالَ رَجَاءٌ : ارْضَ لِلنَّاسِ مَا تَرْضَى لِنَفْسِكَ , وَمَا كَرِهْتَ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ فَلَا تَأْتِهِ إِلَيْهِمْ , وَاعْلَمْ أَنَّكَ أَوَّلُ خَلِيفَةٍ تَمُوتُ .
وَقَالَ سَالِمٌ : اجْعَلِ الْأَمْرَ يَوْمًا وَاحِدًا صُمْ فِيهِ عَنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا , وَاجْعَلْ آخِرَ فِطْرِكَ فِيهِ الْمَوْتَ , فَكَأَنْ قَدْ .
فَقَالَ عُمَرُ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : خَطَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَوْمًا النَّاسَ فَقَالَ , وَقَدْ خَنَقَتْهُ الْعَبْرَةُ : أَيُّهَا النَّاسُ , أَصْلِحُوا آخِرَتَكُمْ تَصْلُحْ لَكُمْ دُنْيَاكُمْ , وَأَصْلِحُوا سَرَائِرَكُمْ تَصْلُحْ لَكُمْ عَلَانِيَتُكُمْ , وَاللَّهِ إِنَّ عَبْدًا لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ أَبٌ إِلَّا قَدْ مَاتَ , إِنَّهُ لَمُعْرَقٌ لَهُ فِي الْمَوْتِ .
وَقَالَ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ : كَمْ مِنْ عَامِرٍ مُؤَنَّقٍ عَمَّا قَلِيلٍ يَخْرُبُ , وَكَمْ مِنْ مُقِيمٍ مُغْتَبِطٍ عَمَّا قَلِيلٍ يَظْعَنُ , فَأَحْسِنُوا - رَحِمَكُمُ اللَّهُ - مِنَ الدُّنْيَا الرِّحْلَةَ بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ النَّقْلَةِ , بَيْنَمَا ابْنُ آدَمَ فِي الدُّنْيَا يُنَافِسُ فِيهَا قَرِيرَ الْعَيْنِ قَانِعًا , إِذْ دَعَاهُ اللَّهُ بِقَدَرِهِ وَرَمَاهُ بِيَوْمِ حَتْفِهِ , فَسَلَبَهُ آثَارَهُ وَدُنْيَاهُ , وَصَيَّرَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ مَصَانِعَهُ وَمَغْنَاهُ , إِنَّ الدُّنْيَا لَا تَسُرُّ بِقَدْرِ مَا تَضُرُّ , تَسُرُّ قَلِيلًا , وَتُحْزِنُ طَوِيلًا .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مُهَاجِرٍ قَالَ : لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَامَ فِي النَّاسِ , فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ , ثُمَّ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ , إِنَّهُ لَا كِتَابَ بَعْدَ الْقُرْآنِ , وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ , عَلَيْهِ السَّلَامُ , وَإِنِّي لَسْتُ بِقَاضٍ ، وَلَكِنِّي مُنْفِذٌ , وَإِنِّي لَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ ، وَلَكِنِّي مُتَّبِعٌ , إِنَّ الرَّجُلَ الْهَارِبَ مِنَ الْإِمَامِ الظَّالِمِ لَيْسَ بِظَالِمٍ , أَلَا إِنَّ الْإِمَامَ الظَّالِمَ هُوَ الْعَاصِي , أَلَا لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ , وَإِنِّي لَسْتُ بِخَيْرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ ، وَلَكِنِّي أَثْقَلُكُمْ حِمْلًا , أَلَا هَلْ أَسْمَعْتُ ؟ .
رَدُّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْمَظَالِمِ
وَقَدْ رَدَّ عُمَرُ جَمِيعَ الْمَظَالِمِ , حَتَّى إِنَّهُ رَدَّ فَصَّ خَاتَمٍ كَانَ فِي يَدِهِ , قَالَ : أَعْطَانِيهِ الْوَلِيدُ مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ . وَخَرَجَ مِنْ جَمِيعِ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَأْكَلِ وَالْمَتَاعِ , حَتَّى إِنَّهُ تَرَكَ التَّمَتُّعَ بِزَوْجَتِهِ الْحَسْنَاءِ , فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ , يُقَالُ : كَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ .
وَيُقَالُ : إِنَّهُ رَدَّ جَهَازَهَا وَمَا كَانَ مِنْ أَمْوَالِهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ كَانَ دَخْلُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ , فَتَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ دَخْلٌ سِوَى أَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ , وَكَانَ حَاصِلُهُ فِي خِلَافَتِهِ : ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ .
وَقَدْ جَمَعَ يَوْمًا رُءُوسَ النَّاسِ فَخَطَبَهُمْ , فَقَالَ : إِنَّ فَدَكَ ( أرض كثيرة النخل ) كَانَتْ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُهَا حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ , ثُمَّ وَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ , وَعُمَرُ كَذَلِكَ .
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : وَمَا أَدْرِي مَا قَالَ فِي عُثْمَانَ .
قَالَ : ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ أَقْطَعَهَا ، فَحَصَلَ لِي مِنْهَا نَصِيبٌ , وَوَهَبَنِي الْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ نَصِيبَهُمَا , وَلَمْ يَكُنْ مِنْ مَالِي شَيْءٌ أَرَدَّ عَلَيَّ مِنْهَا , وَقَدْ رَدَدْتُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ : فَيَئِسَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمَظَالِمِ ( يئسوا أن يأكلوا أموال الضعفاء ، ولذلك ربما عمل بعضهم على قتله والتخلص منه , والله أعلم )
ثُمَّ أَخَذَ عُمَرُ أَمْوَالَ جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَرَدَّهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ , وَسَمَّاهَا : أَمْوَالُ الْمَظَالِمِ
فَاسْتَشْفَعُوا إِلَيْهِ بِالنَّاسِ , وَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِ بِعَمَّتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ مَرْوَانَ
فَلَمْ يَنْجَعْ فِيهِ ، وَلَمْ يَرُدُّهُ عَنِ الْحَقِّ شَيْءٌ , وَقَالَ لَهُمْ : وَاللَّهِ لَتَدَعُنِّي , وَإِلَّا ذَهَبْتُ إِلَى مَكَّةَ فَنَزَلْتُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ لِأَحَقِّ النَّاسِ بِهِ .
وَقَالَ : وَاللَّهِ لَوْ أَقَمْتُ فِيكُمْ خَمْسِينَ عَامًا مَا أَقَمْتُ فِيكُمْ مَا أُرِيدُ مِنَ الْعَدْلِ , وَإِنِّي لَأُرِيدُ الْأَمْرَ ، فَمَا أُنْفِذُهُ إِلَّا مَعَ طَمَعٍ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تَسْكُنَ قُلُوبُهُمْ . ( يريد أنه لا يستلخص كل المظالم ، بل يأخذ ما قدر على أخذه ، ويترك الباقي خوفا من الفتنة )
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ : الْخُلَفَاءُ : أَبُو بَكْرٍ ، وَالْعُمَرَانِ .
وَقَالَ الثَّوْرِيَّ : الْخُلَفَاءُ خَمْسَةٌ , أَبُو بَكْرٍ , وَعُمَرُ , وَعُثْمَانُ , وَعَلِيٌّ , وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَغَيْرِ وَاحِدٍ .
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ , وَأَحَدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ , وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ .
وَذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ فِي الْأَئِمَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ , الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : " لَا يَزَالُ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى يَكُونَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ ".
وَقَدِ اجْتَهَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ مَعَ قِصَرِهَا حَتَّى رَدَّ الْمَظَالِمَ , وَصَرَفَ إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ , وَكَانَ مُنَادِيهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ يُنَادِي : أَيْنَ الْغَارِمُونَ ؟ , أَيْنَ النَّاكِحُونَ ؟ , أَيْنَ الْمَسَاكِينُ ؟ , أَيْنَ الْيَتَامَى ؟ , حَتَّى أَغْنَى كُلًّا مِنْ هَؤُلَاءِ .
وَقَالَتْ زَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ : دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي مُصَلَّاهُ وَاضِعًا خَدَّهُ عَلَى يَدِهِ , وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى خَدَّيْهِ
فَقُلْتُ : مَا لَكَ ؟
فَقَالَ : وَيْحَكِ يَا فَاطِمَةُ , إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا وُلِّيتُ , فَتَفَكَّرْتُ فِي الْفَقِيرِ الْجَائِعِ , وَالْمَرِيضِ الضَّائِعِ , وَالْعَارِي الْمَجْهُودِ , وَالْيَتِيمِ الْمَكْسُورِ , وَالْأَرْمَلَةِ الْوَحِيدَةِ , وَالْمَظْلُومِ الْمَقْهُورِ , وَالْغَرِيبِ , وَالْأَسِيرِ , وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ , وَذِي الْعِيَالِ الْكَثِيرِ وَالْمَالِ الْقَلِيلِ , وَأَشْبَاهِهِمْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَأَطْرَافِ الْبِلَادِ , فَعَلِمْتُ أَنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ سَيَسْأَلُنِي عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَأَنَّ خَصْمِي دُونَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَخَشِيتُ أَنْ لَا يَثْبُتَ لِي حُجَّةٌ عِنْدَ خُصُومَتِهِ , فَرَحِمْتُ نَفْسِي فَبَكَيْتُ .
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ : وَلَّانِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عِمَالَةً , ثُمَّ قَالَ لِي : إِذَا جَاءَكَ كِتَابٌ مِنِّي عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ ، فَاضْرِبْ بِهِ الْأَرْضَ .
وَكَتَبَ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ : إِذَا دَعَتْكَ قُدْرَتُكَ عَلَى النَّاسِ إِلَى ظُلْمِهِمْ , فَاذْكُرْ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْكَ , وَنَفَادَ مَا تَأْتِي إِلَيْهِمْ , وَبَقَاءَ مَا يَأْتُونَ إِلَيْكَ . ( تعذيبك لهم سينتهي ، لكن عذاب الله عليك في الآخرة دائم لا ينقطع )
وَذَكَرَ الصُّولِيُّ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ : عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ , فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي لَا يُقْبَلُ غَيْرُهَا , وَلَا يُرْحَمُ إِلَّا أَهْلُهَا , وَلَا يُثَابُ إِلَّا عَلَيْهَا , وَإِنَّ الْوَاعِظِينَ بِهَا كَثِيرٌ , وَالْعَامِلِينَ بِهَا قَلِيلٌ .
وَقَالَ أَيْضًا : مَنْ عَلِمَ أَنَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ ، أَقَلَّ مِنْهُ إِلَّا فِيمَا يَنْفَعُهُ , وَمَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ ، اجْتَزَأَ مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ .
وَقَالَ أَيْضًا : مَنْ لَمْ يَعُدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ كَثُرَتْ خَطَايَاهُ , وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، كَانَ مَا يُفْسِدُهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ .
وَخَرَجَ ابْنٌ لَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ , فَشَجَّهُ صَبِيٌّ مِنْهُمْ
فَاحْتَمَلُوا الصَّبِيَّ الَّذِي شَجَّ ابْنَهُ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى عُمَرَ
فَسَمِعَ عُمَرُ الْجَلَبَةَ , فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ , فَإِذَا مُرَيْئَةٌ ( تصغير امرأة ) تَقُولُ : إِنَّهُ ابْنِي , وَإِنَّهُ يَتِيمٌ .
فَقَالَ لَهَا عُمَرُ : أَلَهُ عَطَاءٌ فِي الدِّيوَانِ ؟
قَالَتْ : لَا
قَالَ : فَاكْتُبُوهُ فِي الذُّرِّيَّةِ .
فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ : فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ إِنْ لَمْ يَشُجَّ ابْنَكَ ثَانِيَةً . ( سكوتك عنه سيجعله يضرب ابنك ثانية )
فَقَالَ : وَيْحَكِ , إِنَّكُمْ أَفْزَعْتُمُوهُ .
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ : يَقُولُونَ : مَالِكٌ زَاهِدٌ . أَيُّ زُهْدٍ عِنْدِي ! إِنَّمَا الزَّاهِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، أَتَتْهُ الدُّنْيَا فَاغِرَةً فَاهَا فَتَرَكَهَا .
حَتَّى قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ : كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَزْهَدَ مِنْ أُوَيْسٍ الْقَرْنِيِّ , لِأَنَّ عُمَرَ مَلَكَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا وَزَهِدَ فِيهَا , وَلَا نَدْرِي حَالَ أُوَيْسٍ لَوْ مَلَكَ مَا مَلَكَهُ عُمَرُ كَيْفَ يَكُونُ ؟ , لَيْسَ مَنْ جَرَّبَ كَمَنْ لَمْ يُجَرِّبْ .
قَالُوا : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى قَمِيصٍ وَاحِدٍ ، فَكَانَ إِذَا غَسَلُوهُ جَلَسَ فِي الْمَنْزِلِ حَتَّى يَجف .
وَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ يَوْمًا ، فَسَأَلَهَا أَنْ تُقْرِضَهُ دِرْهَمًا أَوْ فُلُوسًا يَشْتَرِي لَهُ بِهَا عِنَبًا , فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهَا شَيْئًا
فَقَالَتْ لَهُ : أَنْتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَيْسَ فِي خِزَانَتِكَ مَا تَشْتَرِي بِهِ عِنَبًا ؟!
فَقَالَ : هَذَا أَيْسَرُ مِنْ مُعَالَجَةِ الْأَغْلَالِ وَالْأَنْكَالِ غَدًا فِي نَارِ جَهَنَّمَ .
وَأَهْدَى لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ تُفَّاحًا
فَاشْتَمَّهُ ثُمَّ رَدَّهُ مَعَ الرَّسُولِ , وَقَالَ لَهُ : قُلْ لَهُ : قَدْ بَلَغَتْ مَحَلَّهَا .
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ , وَهَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ .
فَقَالَ : إِنَّ الْهَدِيَّةَ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً , فَأَمَّا نَحْنُ فَهِيَ لَنَا رِشْوَةٌ .
قَالُوا : وَكَانَ يُوَسِّعُ عَلَى عُمَّالِهِ فِي النَّفَقَةِ , يُعْطِي الرَّجُلَ مِنْهُمْ فِي الشَّهْرِ مِائَةَ دِينَارٍ , وَمِائَتَيْ دِينَارٍ , وَكَانَ يَتَأَوَّلُ أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا فِي كِفَايَةٍ تَفَرَّغُوا لِأَشْغَالِ الْمُسْلِمِينَ ( ولم يسرقوا أموال المسلمين )
فَقَالُوا لَهُ : لَوْ أَنْفَقْتَ عَلَى عِيَالِكَ كَمَا تُنْفِقُ عَلَى عُمَّالِكَ ؟
فَقَالَ : لَا أَمْنَعُهُمْ حَقًّا لَهُمْ , وَلَا أُعْطِيهِمْ حَقَّ غَيْرِهِمْ .
وَكَانَ أَهْلُهُ قَدْ بَقُوا فِي جَهْدٍ عَظِيمٍ ، فَاعْتَذَرَ بِأَنَّ مَعَهُمْ سَلَفًا كَثِيرًا مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ ( كان مع زوجته فاطمة مما كان يعطيه لها أبوها عبد الملك ، وأخواها الوليد وسليمان )
وَقَالَ يَوْمًا لِرَجُلٍ مِنْ وَلَدِ عَلِيٍّ ررر : إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ تَقِفَ بِبَابِي وَلَا يُؤْذَنُ لَكَ .
وَقَالَ لِآخَرَ مِنْهُمْ : إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ وَأَرْغَبُ بِكَ أَنْ أُدَنِّسَكَ بِالدُّنْيَا لِمَا أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِهِ .
وَقَالَ أَيْضًا : كُنَّا نَحْنُ وَبَنُو عَمِّنَا بَنُو هَاشِمٍ , مَرَّةً لَنَا وَمَرَّةً عَلَيْنَا , نَلْجَأُ إِلَيْهِمْ وَيَلْجَئُونَ إِلَيْنَا , حَتَّى طَلَعَتْ شَمْسُ الرِّسَالَةِ , فَأَكْسَدَتْ كُلَّ نَافِقٍ , وَأَخْرَسَتْ كُلَّ مُنَافِقٍ , وَأَسْكَتَتْ كُلَّ نَاطِقٍ .
وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ , فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ كَانَتِ الْخِلَافَةُ لَهُمْ زَيْنٌ , وَأَنْتَ زَيْنُ الْخِلَافَةِ , وَإِنَّمَا مَثَلُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
وَإِذَا الدُّرُّ زَانَ حُسْنَ وُجُوهٍ . . . كَانَ لِلدُّرِّ حُسْنُ وَجْهِكَ زَيْنَا
قَالَ : فَأَعْرَضَ عَنْهُ عُمَرُ .
وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ : سَمَرْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ذَاتَ لَيْلَةٍ ، فَعَشِيَ السِّرَاجُ ( خبا نوره ) فَقُلْتُ : أَلَا أُنَبِّهُ هَذَا الْغُلَامَ يُصْلِحُهُ ؟
فَقَالَ : لَا , دَعْهُ يَنَامُ .
فَقُلْتُ : أَفَلَا أَقُومُ أُصْلِحُهُ ؟
فَقَالَ : لَا , لَيْسَ مِنْ مُرُوءَةِ الرَّجُلِ اسْتِخْدَامُ ضَيْفِهِ . ثُمَّ قَامَ بِنَفْسِهِ فَأَصْلَحَهُ وَصَبَّ فِيهِ زَيْتًا , ثُمَّ جَاءَ .
وَبَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ تُوُفِّيَ , فَجَاءَ إِلَى أَهْلِهِ لِيُعَزِّيَهُمْ فِيهِ , فَصَرَخُوا فِي وَجْهِهِ بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِ
فَقَالَ : مَهْ , إِنَّ صَاحِبَكُمْ لَمْ يَكُنْ يَرْزُقُكُمْ , وَإِنَّ الَّذِي يَرْزُقُكُمْ حَيٌّ لَا يَمُوتُ , وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَمْ يَسُدَّ شَيْئًا مِنْ حُفَرِكُمْ , وَإِنَّمَا سَدَّ حُفْرَةَ نَفْسِهِ , وَإِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْكُمْ حُفْرَةً لَا بُدَّ وَاللَّهِ أَنْ يَسُدَّهَا , إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا خَلَقَ الدُّنْيَا حَكَمَ عَلَيْهَا بِالْخَرَابِ وَعَلَى أَهْلِهَا بِالْفَنَاءِ , وَمَا امْتَلَأَتْ دَارٌ حَبْرَةً ( سرور ) إِلَّا امْتَلَأَتْ عَبْرَةً ( بكاء ) وَلَا اجْتَمَعُوا إِلَّا تَفَرَّقُوا , حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا , فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ عَلَى نَفْسِهِ , فَإِنَّ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُكُمْ , كُلُّكُمْ يَصِيرُ إِلَيْهِ غَدًا .
وَقَالَتِ امْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ : مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ صَلَاةً وَصِيَامًا مِنْهُ , وَلَا أَحَدًا أَشَدَّ فَرَقًا مِنْ رَبِّهِ مِنْهُ , كَانَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ ، ثُمَّ يَجْلِسُ يَبْكِي حَتَّى تَغْلِبَهُ عَيْنُهُ , ثُمَّ يَنْتَبِهُ ، فَلَا يَزَالُ يَبْكِي حَتَّى تَغْلِبَهُ عَيْنُهُ .
قَالَتْ : فَأَطْرَحُ عَلَيْهِ اللِّحَافَ رَحْمَةً لَهُ , وَأَنَا أَقُولُ : يَا لَيْتَ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْخِلَافَةِ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ , فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا سُرُورًا مُنْذُ دَخَلْنَا فِيهَا .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ : مَا رَأَيْتُ رَجُلَيْنِ كَأَنَّ النَّارَ لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لَهُمَا مِثْلَ الْحَسَنِ , وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
ذِكر حديث : إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةٍ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينِهَا
ذَكرنَا فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينِهَا " .
فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ : أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ : إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الْأُولَى .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ جَدَّدَ اللَّهُ بِهِ أَمْرَ الدِّينِ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الْأُولَى , وَإِنْ كَانَ هُوَ أَوْلَى مَنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ وَأَحَقَّ , لِإِمَامَتِهِ , وَعُمُومِ وِلَايَتِهِ , وَاجْتِهَادِهِ وَقِيَامِهِ فِي تَنْفِيذِ الْحَقِّ , فَقَدْ كَانَتْ سِيرَتُهُ شَبِيهَةً بِسِيرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَتَشَبَّهُ بِهِ .
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعْطِي مَنِ انْقَطَعَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مِنْ بَلَدِهِ وَغَيْرِهَا , لِلْفِقْهِ وَنَشْرِ الْعِلْمِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ , فِي كُلِّ عَامٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِائَةَ دِينَارٍ
وَكَانَ يَكْتُبُ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَأْخُذُوا النَّاسَ بِالسُّنَّةِ , وَيَقُولَ : إِنْ لَمْ تُصْلِحْهُمُ السُّنَّةُ فَلَا أَصْلَحَهُمُ اللَّهُ .
وَكَتَبَ إِلَى سَائِرِ الْبِلَادِ أَنْ لَا يَرْكَبَ ذِمِّيٌّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ عَلَى سَرْجٍ , وَلَا يَلْبَسُ قَبَاءً وَلَا طَيْلَسَانًا وَلَا السَّرَاوِيلَ ، وَلَا يَمْشِيَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِزُنَّارٍ مِنْ جِلْدٍ , وَهُوَ مَقْرُونُ النَّاصِيَةِ , وَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ فِي مَنْزِلِهِ سِلَاحٌ أُخِذَ مِنْهُ
وَكَتَبَ أَيْضًا : أَنْ لَا يُسْتَعْمَلَ عَلَى الْأَعْمَالِ إِلَّا أَهْلُ الْقُرْآنِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ خَيْرٌ ، فَغَيْرُهُمْ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ خَيْرٌ .
وَكَانَ يَكْتُبُ إِلَى عُمَّالِهِ : اجْتَنِبُوا الْأَشْغَالَ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَوَاتِ , فَإِنَّ مَنْ أَضَاعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ أَشَدُّ تَضْيِيعًا .
وَقَدْ كَانَ يَكْتُبُ الْمَوْعِظَةَ إِلَى الْعَامِلِ مِنْ عُمَّالِهِ فَيَنْخَلِعُ بِهَا قَلْبُهُ , وَرُبَّمَا عَزَلَ بَعْضُهُمْ نَفْسَهُ عَنِ الْعِمَالَةِ مِنْ شِدَّةِ مَا تَقَعُ مَوْعِظَتُهُ مِنْهُ , وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْعِظَةَ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قَلْبِ الْوَاعِظِ ، دَخَلَتْ قَلْبَ الْمَوْعُوظِ .
وَقَدْ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثِقَةٌ .
وَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ جَمَاعَةٌ , وَكَانَ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ أَجَلَّهُمْ , فَمَاتَ فِي حَيَاتِهِ فِي زَمَنِ خِلَافَتِهِ , حَتَّى يُقَالَ : إِنَّهُ كَانَ خَيْرًا مِنْ أَبِيهِ . فَلَمَّا مَاتَ ، لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ حُزْنٌ , وَقَالَ : أَمْرٌ رَضِيَهُ اللَّهُ فَلَا أَكْرَهُهُ .
وَقَالَ : مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا عَوَّضَنِي اللَّهُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ .
وَكَانَ يَأْكُلُ الْغَلِيظَ مِنَ الطَّعَامِ أَيْضًا , وَلَا يُبَالِي بِشَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ , وَلَا يُتْبِعُهُ نَفْسَهُ وَلَا يَوَدُّهُ
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : جَزَاكَ اللَّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا . فَقَالَ : بَلْ جَزَى اللَّهُ الْإِسْلَامَ عَنِّي خَيْرًا .
وَكَانَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ أَصْلِحْ مَنْ كَانَ فِي صَلَاحِهِ صَلَاحٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَأَهْلِكْ مَنْ كَانَ فِي هَلَاكِهِ صَلَاحُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ : لَوْ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى يُحْكِمَ أَمْرَ نَفْسِهِ ، لَذَهَبَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ , وَلَقَلَّ الْوَاعِظُونَ وَالسَّاعُونَ لِلَّهِ بِالنَّصِيحَةِ .
وَقَالَ : الدُّنْيَا عَدُوَّةُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ , أَمَّا الْأَوْلِيَاءُ فَغَمَّتْهُمْ , وَأَمَّا الْأَعْدَاءُ فَغَرَّتْهُمْ .
وَقَالَ : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ عُصِمَ مِنَ الْمِرَاءِ وَالْغَضَبِ وَالطَّمَعِ .
وَقَالَ : لَقَدْ بُورِكَ لِعَبْدٍ فِي حَاجَةٍ أَكْثَرَ فِيهَا مِنَ الدُّعَاءِ , أُعْطِيَ أَوْ مُنِعَ .
وَقَالَ : قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ .
وَقِصَّتُهُ مَعَ أَبِي حَازِمٍ مُطَوَّلَةٌ حِينَ رَآهُ خَلِيفَةً وَقَدْ شَحَبَ وَجْهُهُ مِنَ التَّقَشُّفِ , وَتَغَيَّرَ حَالُهُ ، فَقَالَ لَهُ : أَلَمْ يَكُنْ ثَوْبُكَ نَقِيًّا ؟ , وَوَجْهُكَ وَضِيًّا ؟ , وَطَعَامُكَ شَهِيًّا ؟ , وَمَرْكَبُكَ وَطِيًّا ؟ ,
فَقَالَ لَهُ : أَلَمْ تُخْبِرْنِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ عَقَبَةً كَئُودًا لَا يَجُوزُهَا إِلَّا كُلُّ ضَامِرٍ مَهْزُولٍ» ؟ , ثُمَّ بَكَى حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ
وَقَالَ كُثَيِّرِ عَزَّةَ : وَفَدْتُ أَنَا وَالْأَحْوَصُ وَنُصَيْبٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ وَلِيَ الْخِلَافَةَ , وَنَحْنُ نَمُتُّ إِلَيْهِ بِصُحْبَتِنَا إِيَّاهُ وَمُعَاشَرَتِنَا لَهُ لَمَّا كَانَ بِالْمَدِينَةِ , فَكُلٌّ مِنَّا يَظُنُّ أَنَّهُ سَيُشْرِكُهُ فِي الْخِلَافَةِ , فَنَحْنُ نَسِيرُ وَنَخْتَالُ فِي رِحَالِنَا , فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى خُنَاصِرَةَ ، وَلَاحَتْ لَنَا أَعْلَامُهَا , تَلَقَّانَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ : مَا أَقْدَمُكُمْ ؟ , أَوَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ صَاحِبَكُمْ لَا يُحِبُّ الشِّعْرَ ؟ ,
قَالَ : فَوَجَمْنَا لِذَلِكَ
فَأَنْزَلَنَا مَسْلَمَةُ عِنْدَهُ , وَأَجْرَى عَلَيْنَا النَّفَقَاتِ , وَعَلَفَ دَوَابَّنَا , وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ , لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لَنَا عَلَى عُمَرَ , فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْجُمَعِ دَنَوْتُ مِنْهُ لِأَسْمَعَ خُطْبَتَهُ , فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ , فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : لِكُلِّ سَفَرٍ زَادٌ لَا مَحَالَةَ , فَتُزَوَّدُوا لِسَفَرِكُمْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ بِالتَّقْوَى , وَكُونُوا كَمَنْ عَايَنَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ عَذَابِهِ وَثَوَابِهِ ، فَتَرْغَبُوا وَتَرْهَبُوا , وَلَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الْأَمَدُ ، فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ ، وَتَنْقَادُوا لِعَدُوِّكُمْ , فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بُسِطَ أَمَلُ مَنْ لَا يَدْرِي ، لَعَلَّهُ لَا يُمْسِي بَعْدَ إِصْبَاحِهِ , وَلَا يُصْبِحُ بَعْدَ إِمْسَائِهِ , وَرُبَّمَا كَانَتْ لَهُ بَيْنَ ذَلِكَ خَطَرَاتُ الْمَنَايَا , وَإِنَّمَا يَطَمْئِنُّ مَنْ وَثِقَ بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَأَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ , فَأَمَّا مَنْ لَا يُدَاوِي مِنَ الدُّنْيَا كَلْمًا ( جرحا ) إِلَّا أَصَابَهُ جَارِحٌ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى , فَكَيْفَ يَطْمَئِنُّ ؟ , أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ آمُرَكُمْ بِمَا أَنْهَى عَنْهُ نَفْسِي , فَتَخْسَرُ صَفْقَتِي , وَتَبْدُو مَسْكَنَتِي فِي يَوْمٍ لَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا الْحَقُّ وَالصِّدْقُ , ثُمَّ بَكَّى حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَاضٍ نَحْبَهُ , وَارْتَجَّ الْمَسْجِدُ وَمَا حَوْلَهُ بِالْبُكَاءِ وَالْعَوِيلِ .
قَالَ : فَانْصَرَفْتُ إِلَى صَاحِبَيَّ , فَقُلْتُ : خُذَا شَرْجًا مِنَ الشِّعْرِ غَيْرَ مَا كُنَّا نَقُولُ لِعُمَرَ وَآبَائِهِ , فَإِنَّهُ رَجُلٌ آخِرِيٌّ , لَيْسَ بِرَجُلِ دُنْيَا .
قَالَ : ثُمَّ اسْتَأْذَنَ لَنَا مَسْلَمَةُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ , فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ ، سَلَّمْتُ عَلَيْهِ , ثُمَّ قُلْتُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , طَالَ الثَّوَاءُ , وَقَلَّتِ الْفَائِدَةُ , وَتَحَدَّثَ بِجَفَائِكَ إِيَّانَا وُفُودُ الْعَرَبِ .
فَقَالَ : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } التوبة : 60- وَقَرَأَ الْآيَةَ - فَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ أَعْطَيْتُكُمْ , وَإِلَّا فَلَا حَقَّ لَكُمْ فِيهَا .
فَقُلْتُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , إِنِّي مِسْكِينٌ وَعَابِرُ سَبِيلٍ ، وَمُنْقَطَعٌ بِهِ .
فَقَالَ : أَلَسْتُمْ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ ؟ , يَعْنِي مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ
فَقُلْنَا : بَلَى .
فَقَالَ : إِنَّهُ لَا ثَوَاءَ عَلَى مَنْ هُوَ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ .
فَقُلْتُ : ائْذَنْ لِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِنْشَادِ .
قَالَ : نَعَمْ , وَلَا تَقُلْ إِلَّا حَقًّا .
فَأَنْشَدْتُهُ قَصِيدَةً فِيهِ :
وَلَيْتَ فَلَمْ تَشْتِمْ عَلِيًّا وَلَمْ تُخِفْ . . . بَرِيًّا وَلَمْ تَقْبَلْ إِشَارَةَ مُجْرِمِ
وَصَدَّقْتَ بِالْفِعْلِ الْمَقَالَ مَعَ الَّذِي . . . أَتَيْتَ فَأَمْسَى رَاضِيًا كُلُّ مُسْلِمِ
أَلَا إِنَّمَا يَكْفِي الْفَتَى بَعْدَ زَيْغِهِ . . . مِنَ الْأَوَدِ الْبَادِي ثِقَافُ الْمُقَوِّمِ
وَقَدْ لَبِسَتْ تَسْعَى إِلَيْكَ ثِيَابُهَا . . . تَرَاءَى لَكَ الدُّنْيَا بِكَفٍّ وَمِعْصَمِ
وَتُومِضُ أَحْيَانًا بِعَيْنٍ مَرِيضَةٍ . . . وَتَبْسِمُ عَنْ مِثْلِ الْجُمَانِ الْمُنَظَّمِ
فَأَعْرَضْتَ عَنْهَا مُشْمَئِزًّا كَأَنَّمَا . . . سَقَتْكَ مَدُوفًا مِنْ سِمَامٍ وَعَلْقَمِ
وَقَدْ كُنْتَ مِنْ أَجْبَالِهَا فِي مُمَنَّعٍ . . . وَمِنْ بَحْرِهَا فِي مُزْبِدِ الْمَوْجِ مُفْعَمِ
وَمَا زِلْتَ تَوَّاقًا إِلَى كُلِّ غَايَةٍ . . . بَلَغْتَ بِهَا أَعْلَى الْبِنَاءِ الْمُقَدَّمِ
فَلَمَّا أَتَاكَ الْمَلِكُ عَفْوًا وَلَمْ تَكُنْ . . . لِطَالِبِ دُنْيَا بَعْدَهُ فِي تَكَلُّمِ
تَرَكْتَ الَّذِي يَفْنَى وَإِنْ كَانَ مُونِقًا . . . وَآثَرْتَ مَا يَبْقَى بِرَأْيِ مُصَمِّمِ
وَأَضْرَرْتَ بِالْفَانِي وَشَمَّرْتَ لِلَّذِي . . . أَمَامَكَ فِي يَوْمٍ مِنَ الشَّرِّ مُظْلِمِ
وَمَا لَكَ إِذْ كُنْتَ الْخَلِيفَةَ مَانِعٌ . . . سِوَى اللَّهِ مِنْ مَالِ رَغِيبٍ وَلَا دَمِ
سَمَا لَكَ هَمٌّ فِي الْفُؤَادِ مُؤَرِّقٌ . . . بَلَغْتَ بِهِ أَعْلَى الْمَعَالِي بِسُلَّمِ
فَمَا بَيْنَ شَرْقِ الْأَرْضِ وَالْغَرْبِ كُلِّهَا . . . مُنَادٍ يُنَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِ
يَقُولُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ظَلَمْتَنِي . . . بِأَخْذِكَ دِينَارِي وَلَا أَخْذِ دِرْهَمِي
وَلَا بَسْطِ كَفٍّ لِامْرِئٍ غَيْرِ مُجْرِمٍ . . . وَلَا السَّفْكِ مِنْهُ ظَالِمًا مِلْءَ مِحْجَمِ
وَلَوْ يَسْتَطِيعُ الْمُسْلِمُونَ لَقَسَّمُوا . . . لَكَ الشَّطْرَ مِنْ أَعْمَارِهِمْ غَيْرَ نُدَّمِ
فَعِشْتَ بِهَا مَا حَجَّ لِلَّهِ رَاكِبٌ . . . مُلَبٍّ مَطِيفٌ بِالْمَقَامِ وَزَمْزَمَ
فَأَرْبِحْ بِهَا مِنْ صَفْقَةٍ لِمُبَايِعٍ . . . وَأَعْظِمْ بِهَا أَعْظِمْ بِهَا ثُمَّ أَعْظِمِ
قَالَ : فَأَقْبَلَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَالَ : إِنَّكَ تُسْأَلُ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ الْأَحْوَصُ فَأَنْشَدَهُ قَصِيدَةً أُخْرَى
فَقَالَ : إِنَّكَ تُسْأَلُ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ نُصَيْبٌ
فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ , وَأَمَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا , وَأَغْزَى نُصَيْبًا إِلَى مَرَجِ دَابِقٍ .
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ , عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ : لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَفَدَ إِلَيْهِ الشُّعَرَاءُ ، فَمَكَثُوا بِبَابِهِ أَيَّامًا لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ وَلَا يلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ
فَسَاءَهُمْ ذَلِكَ وَهَمُّوا بِالرُّجُوعِ إِلَى بِلَادِهِمْ
فَمَرَّ بِهِمْ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ ، فَقَالَ لَهُ جَرِيرٌ :
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُرْخِي عِمَامَتَهُ . . . هَذَا زَمَانُكَ فَاسْتَأْذِنْ لَنَا عُمَرَا
فَدَخَلَ وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْئًا
فَمَرَّ بِهِمْ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ
فَقَالَ لَهُ جَرِيرٌ مُنْشِدًا :
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ . . . هَذَا زَمَانُكَ إِنِّي قَدْ مَضَى زَمَنِي
أَبْلِغْ خَلِيفَتَنَا إِنْ كُنْتَ لَاقِيَهُ . . . أَنِّي لَدَى الْبَابِ كَالْمَصْفُودِ فِي قَرَنِ
لَا تَنْسَ حَاجَتَنَا لَاقَيْتَ مَغْفِرَةً . . . قَدْ طَالَ مُكْثِيَ عَنْ أَهْلِي وَعَنْ وَطَنِي
فَدَخَلَ عَدِيٌّ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , الشُّعَرَاءُ بِبَابِكَ , وَسِهَامُهُمْ مَسْمُومَةٌ , وَأَقْوَالُهُمْ نَافِذَةٌ .
فَقَالَ : وَيْحَكَ يَا عَدِيُّ ! مَالِي وَلِلشُّعَرَاءِ .
فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَسْمَعُ الشِّعْرَ وَيَجْزِي عَلَيْهِ , وَقَدْ أَنْشَدَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ مَدْحَةً , فَأَعْطَاهُ حُلَّةً .
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَتَرْوِي مِنْهَا شَيْئًا ؟ , قَالَ : نَعَمْ , فَأَنْشَدَهُ :
رَأَيْتُكَ يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا . . . نَشَرْتَ كِتَابًا جَاءَ بِالْحَقِّ مُعْلَمَا
شَرَعْتَ لَنَا دِينَ الْهُدَى بَعْدَ جَوْرِنَا . . . عَنِ الْحَقِّ لَمَّا أَصْبَحَ الْحَقُّ مُظْلِمَا
وَنَوَّرْتَ بِالْبُرْهَانِ أَمْرًا مُدَلَّسًا . . . وَأَطْفَأْتَ بِالْقُرْآنِ نَارًا تَضَرَّمَا
فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي النَّبِيَّ مُحَمَّدًا . . . وَكُلُّ امْرِئٍ يُجْزَى بِمَا كَانَ قَدَّمَا
أَقَمْتَ سَبِيلَ الْحَقِّ بَعْدَ اعْوِجَاجِهِ . . . وَكَانَ قَدِيمًا رُكْنُهُ قَدْ تَهَدَّمَا
تَعَالَى عُلُوًّا فَوْقَ عَرْشِ إِلَهُنَا . . . وَكَانَ مَكَانُ اللَّهِ أَعْلَى وَأَعْظَمَا
فَقَالَ عُمَرُ : وَيْحَكَ يَا عَدِيُّ ! مَنْ بِالْبَابِ مِنْهُمْ ؟
فَقَالَ : عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ ، فَقَالَ : أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ :
ثُمَّ نَبَّهْتُهَا فَهَبَّتْ كِعَابًا . . . طَفْلَةٌ مَا تَبِينُ رَجْعَ الْكَلَامِ
فَلَوْ كَانَ عَدُوُّ اللَّهِ إِذْ فَجَرَ كَتَمَ وَسَتَرَ عَلَى نَفْسِهِ ! لَا يَدْخُلُ عَلَيَّ وَاللَّهِ أَبَدًا .
فَمَنْ بِالْبَابِ سِوَاهُ ؟
قَالَ : هَمَّامُ بْنُ غَالِبٍ - يَعْنِي الْفَرَزْدَقَ -
فَقَالَ عُمَرُ : أَوَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ :
هُمَا دَلَّتَانِي مِنْ ثَمَانِينَ قَامَةً . . . كَمَا انْقَضَّ بَازٍ أَقْتَمُ الرِّيشِ كَاسِرُهْ
لَا يَطَأُ وَاللَّهِ بِسَاطِي وَهُوَ كَاذِبٌ .
فَمَنْ سِوَاهُ بِالْبَابِ ؟
قَالَ : الْأَخْطَلُ ( نصراني ) .
قَالَ : أَوَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ :
وَلَسْتُ بِصَائِمٍ رَمَضَانَ طَوْعًا . . . وَلَسْتُ بِآكِلٍ لَحْمَ الْأَضَاحِي
وَلَسْتُ بِزَاجِرٍ عَنْسًا بُكُورًا . . . إِلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ لِلنَّجَاحِ
وَلَسْتُ بِزَائِرٍ بَيْتًا بَعِيدًا . . . بِمَكَّةَ أَبْتَغِي فِيهِ صَلَاحِي
وَلَسْتُ بِقَائِمٍ كَالْعَيْرِ أَدْعُو . . . قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ
وَلَكِنِّي سَأَشْرَبُهَا شَمُولًا . . . وَأَسْجُدُ عِنْدَ مُنْبَلَجِ الصَّبَاحِ
وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُ عَلَيَّ وَهُوَ كَافِرٌ أَبَدًا .
فَهَلْ بِالْبَابِ سِوَى مَنْ ذَكَرْتَ ؟
قَالَ : نَعَمْ , الْأَحْوَصُ
قَالَ : أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ :
اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ سَيِّدِهَا . . . يَفِرُّ مِنِّي بِهَا وَأَتْبَعُهُ
فَمَا هُوَ دُونَ مَنْ ذَكَرْتَ , فَمَنْ هَاهُنَا غَيْرُهُ ؟ ,
قَالَ : جَرِيرٌ
قَالَ : أَمَا إِنَّهُ الَّذِي يَقُولُ :
طَرَقَتْكَ صَائِدَةُ الْقُلُوبِ وَلَيْسَ ذَا . . . حِينَ الزِّيَارَةِ فَارْجِعِي بِسَلَامِ
فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ , فَأْذَنْ لِجَرِيرٍ .
فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ وَهُوَ يَقُولُ :
إِنَّ الَّذِي بَعَثَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا . . . جَعَلَ الْخِلَافَةَ لِلْإِمَامِ الْعَادِلِ
وَسِعَ الْخَلَائِقَ عَدْلُهُ وَوَفَاؤُهُ . . . حَتَّى ارْعَوى وَأَقَامَ مَيْلَ الْمَائِلِ
إِنِّي لَأَرْجُوَ مِنْكَ خَيْرًا عَاجِلًا . . . وَالنَّفْسُ مُولَعَةٌ بِحُبِّ الْعَاجِلِ
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : وَيْحَكَ يَا جَرِيرُ ! اتَّقِ اللَّهَ فِيمَا تَقُولُ .
ثُمَّ إِنَّ جَرِيرًا اسْتَأْذَنَ عُمَرَ فِي الْإِنْشَادِ
فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ ، وَلَمْ يَنْهَهُ
فَأَنْشَدَهُ قَصِيدَةً طَوِيلَةً يَمْدَحُهُ بِهَا
فَقَالَ لَهُ : وَيْحَكَ يَا جَرِيرُ ! لَا أَرَى لَكَ فِيهَا هَاهُنَا حَقًّا .
فَقَالَ : إِنِّي مِسْكِينٌ ، وَابْنُ سَبِيلٍ .
فَقَالَ : إِنَّا وُلِّينَا هَذَا الْأَمْرَ وَنَحْنُ لَا نَمْلِكُ إِلَّا ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ , أَخَذَتْ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ مِائَةً , وَابْنُهَا مِائَةً , وَقَدْ بَقِيَتْ مِائَةٌ . فَأَمَرَ لَهُ بِهَا
ثُمَّ خَرَجَ عَلَى الشُّعَرَاءِ , فَقَالُوا : مَا وَرَاءَكَ يَا جَرِيرُ ؟
فَقَالَ : مَا يَسُوءُكُمْ , خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ , وَهُوَ يُعْطِي الْفُقَرَاءَ , وَيَمْنَعُ الشُّعَرَاءَ , وَإِنِّي عَنْهُ لَرَاضٍ . ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ :
رَأَيْتُ رُقَى الشَّيْطَانِ لَا تَسْتَفِزُّهُ . . . وَقَدْ كَانَ شَيْطَانِي مِنَ الْجِنِّ رَاقِيَا
وَفَضَائِلُ عُمَرَ وَمَآثِرُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا , وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ , وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
سَبَبُ وَفَاةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ
كَانَ سَبَبُهَا السُّلَّ
وَقِيلَ : سَبَبُهَا أَنَّ مَوْلًى لَهُ سَمَّهُ فِي طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ , وَأُعْطِيَ عَلَى ذَلِكَ أَلْفَ دِينَارٍ . فَحَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَرَضٌ
فَأُخْبِرَ عُمَرُ أَنَّهُ مَسْمُومٌ
فَقَالَ : لَقَدْ عَلِمْتُ يَوْمَ سُقِيتُ السُّمَّ . ثُمَّ اسْتَدْعَى مَوْلَاهُ الَّذِي سَقَاهُ , فَقَالَ لَهُ : وَيْحَكَ , مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ ؟
فَقَالَ : أَلْفُ دِينَارٍ أُعْطِيتُهَا .
فَقَالَ : هَاتِهَا .
فَأَحْضَرَهَا
فَوَضَعَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ , ثُمَّ قَالَ لَهُ : اذْهَبْ حَيْثُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ فَتَهْلَكَ .
فَقِيلَ لَهُ : هَؤُلَاءِ بَنُوكَ ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ ، أَلَا تُوصِي لَهُمْ بِشَيْءٍ , فَإِنَّهُمْ فُقَرَاءُ ؟
فَقَالَ : { إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } وَاللَّهِ لَا أُعْطِيهِمْ حَقَّ أَحَدٍ , وَهُمْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ : إِمَّا صَالِحٌ فَاللَّهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ , وَإِمَّا غَيْرُ صَالِحٍ ، فَمَا كُنْتُ لِأُعِينَهُ عَلَى فِسْقِهِ .
وَفِي رِوَايَةٍ قال : أَفَأَدَعُ لَهُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ , فَأَكُونَ شَرِيكَهُ فِيمَا يَعْمَلُ بَعْدَ الْمَوْتِ ؟
ثُمَّ اسْتَدْعَى بِأَوْلَادِهِ ، فَوَدَّعَهُمْ وَعَزَّاهُمْ بِهَذَا , وَأَوْصَاهُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ , ثُمَّ قَالَ : انْصَرِفُوا عَصَمَكُمُ اللَّهُ , وَأَحْسَنَ الْخِلَافَةَ عَلَيْكُمْ .
قَالَ : فَلَقَدْ رَأَيْنَا بَعْضَ أَوْلَادِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَحْمِلُ عَلَى ثَمَانِينَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَكَانَ بَعْضُ أَوْلَادِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مَعَ كَثْرَةِ مَا تَرَكَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ ، يَتَعَاطَى وَيَسْأَلُ مِنْ أَوْلَادِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، لِأَنَّ عُمَرَ وَكَلَ وَلَدَهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَسُلَيْمَانُ وَغَيْرُهُ إِنَّمَا يَكِلُونَ أَوْلَادَهُمْ إِلَى مَا يَدَعُونَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ الْفَانِيَةِ , فَيَضِيعُونَ ، وَتَذْهَبُ أَمْوَالُهُمْ فِي شَهَوَاتِ أَوْلَادِهِمْ .
وَلَمَّا احْتُضِرَ عُمَرُ قَالَ : أَجْلِسُونِي .
فَأَجْلَسُوهُ
فَقَالَ : إِلَهِي , أَنَا الَّذِي أَمَرْتَنِي فَقَصَّرْتُ , وَنَهَيْتَنِي فَعَصَيْتُ ثَلَاثًا , وَلَكِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ . ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَأَحَدَّ النَّظَرَ
فَقَالُوا : إِنَّكَ لَتَنْظُرُ نَظَرًا شَدِيدًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ .
فَقَالَ : إِنِّي لَأَرَى حَضَرَةً مَا هُمْ بِإِنْسٍ وَلَا جَانٍّ .
ثُمَّ قُبِضَ مِنْ سَاعَتِهِ .
وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُ عَمِّهِ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَسْمَرَ دَقِيقَ الْوَجْهِ حَسَنَهُ , نَحِيفَ الْجِسْمِ حَسَنَ اللِّحْيَةِ , غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ , بِجَبْهَتِهِ أَثَرُ شَجَّةٍ , وَكَانَ قَدْ شَابَ وَخَضَّبَ , رَحِمَهُ اللَّهُ , وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ رُئِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ , وَتَأَسَّفَ عَلَيْهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ , لَا سِيَّمَا الْعُلَمَاءُ وَالزُّهَّادُ وَالْعُبَّادُ .
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|
|
|