أمنيات الموتى
الرهواني محمد
الخطبة الأولى:
الحمد لله اللطيف الكريم، الرؤوف الرحيم، الذي جنبنا سبل الغواية وهدانا للإسلام، فضلاً منه ونعمة والله ذو الفضل العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها النجاة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم لقاه.
الأماني التي تراود الناس في حياتهم كثيرة لا تعد ولا تحصى، وهذه الأماني تتباين وتختلف باختلاف أفكار الناس ومشاربهم وأجناسهم، فلو سألنا كل إنسان عن أمنيته فـي هذه الحياة؟ فإن كـان مـن وسـط فقير، وعاين الفقر وأحس بألمه واكتوى به، تمنى أن يعيش غنيا مُنعَّما كما يتنعم غيره من الناس.
وإن سألنا عن أمنية مريض قد ألزمه المرضُ الفراش، ومنعه حتى من لذة الطعام والمنام، لرأيناه يتمنى أن يُعافى من مرضه، ولو أن يَفتديَ بماله كله.
وإن سألنا بعض الأغنياء عن أمنياتهم، لرأيناهم يتمنون مزيدا من الغنى والثراء، حتى يكونوا أغنى من فلانٍ وفلان.
وهكذا معاشر الصالحين والصالحات، فهي أمانيٌّ وأماني، والأمانيُّ في هذه الدنيا لا تنتهي ولا تنقطعُ عن أهلها، والناس فيها ما بين من لديه القليل فهـو لا يقنع، ومـن لديـه الكثير فهو لا يشبع.
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( لَـوْ كَـانَ لابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ نَخْلٍ، لَتَمَنَّى مِثْلَهُ ثُمَّ مِثْلَهُ، حَتَّـى يَتَمَنَّى أَوْدِيَـةً، وَلَا يَمْلَأُ جَـوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَاب)).
وفي صحيح البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( لو أنَّ لابنِ آدمَ واديًا من ذهبٍ أحبَّ أن يكونَ له واديان، ولن يملأَ فاه إلَّا التُّراب، ويتوبُ اللهُ على من تاب)).
ومع هذه الأماني المتباينة، فإننا نـرى الجميعَ يسعى ويَكدَح طِوال حـياته لتحقيق أمنياته، كل إنسان يحرِصُ على بلوغ أمنيته في حياته ويُضحي بكـل ما لديه مـن أجل تحصيلها، ولكن، هناك فئة من الناس لها أمنيات من نوع خاص.
فمن هي هذه الفئة يا ترى؟ وما هي أمنياتها؟
فتعالوا بنا معاشر المؤمنين والمؤمنات لنطلع على هذه الفئة من الناس وننظر ما أمنايتها؟
إنهم الأموات.
وماذا يتمنى الأموات؟
فعن أمنيات الموتى أحدثكم وأذكّركم، عسى أن يكون ذلك موعظةً وعبرة لمن أراد أن يعتبر.
عن أمنيات الموتى الصالحين منهم والطالحين، أُسمِعكم ما ذكره ربنا - عز وجل - في كتابه وما أخبر به نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - في سنته.
فالأموات قد أصبح الغيب لديهم شهادة، وأيقـنوا وهـم فـي البرزخ أنـهم سيُبعثون ليوم عظيم.
فماذا يتمنون؟ ماذا يتمنى الميت؟
فأما المؤمن الصالح، الذي مات على الإيمان والعمل الصالح..
إذا مات وحُمل على الأعناق، أول أمنيته: نادى أن يُسرعوا به إلى القبر ليَلقى النعيم المقيم، وكيف لا تكونُ تلكَ أمنيتُه وقد بُشر عند خروج الروح: ( يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخـلي فـي عبادي وادخلي جنتي)، أمنيته: نادى أن يُسرعوا به إلى القبر.
ففي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وُضعت الجـنازة فاحتملها الرجـال عـلى أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني)).
وإذا أدخل قبره، ورأى منزلته في الجنة، فإنه لا يتمنى أن يعود إلى الدنيا، بل يتمنى أن تقوم الساعةُ ويعودَ إلى أهله ليُبشرهم بنجاته من النار وفوزه بالجنة، ففي الحديث الصحيح، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قـال: ((إذا رأى المؤمن ما فُسِحَ له في قبره، فيقول: دعوني أبشر أهلي)). وفي رواية: ((فإذا رأى ما في الجنة قال: رَبِّ عَجـِّلْ قـيامَ الساعـةِ، كَـيْما أَرْجِعَ إلى أهلي ومالي، فيُقالُ له: اسْكُن')).
فهذه أمنية المؤمن الصالح بأن يُسرعوا بـه إلى القبر ليَـلقَى النـعيم المقيم، ثم يتمنى أن تقوم الساعة.
أما العُصاة المجرمون، الذين تمر عليهم ساعاتٌ وأيامٌ وهم في هذه الدنيا في لهو وغفلة وبُعد عن طاعة الله.. الذين يُسوِّفون التوبةَ ويأملون في مزيد من العمر ليتمتعوا بزينة الدنيا، وما علموا أن الموت يأتي بغتة، ما علموا أن الموت إذا جاء لا يدع صاحبه يستدرك ما فـات، فيبقى فـي قبره مُرتهناً بعمله، متحسرا على تسويفه وتفريطه، متمنياً على الله الأمانيَّ التـي لا تُغنيه شيئا.
فماذا يتمنى هؤلاء؟
فأول أمنية: يتمنى أحدهم لحظة الموت وعند خروج الروح، يتمنى بعدما عاين الموتَ وسكراتِه، وعلم أنه مُنتَقل من دار الدنيا إلى دار البرزخ، يتمنى الرجوعَ إلى الدنيا ولو لدقائق معدودة ليعمل صالحا ينفعه فـي الدار الآخرة، قال الله - جل وعلا -: ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
وفي آية أخرى: ( رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ).
إنها أمنية كل مفرّط يندم ويتحسر عند الاحتضار، ينـدم ويتحسر ويسـأل الرجعة إلى الدنيا ولو لمدة يسيرة ليُصلح ما أفسد، ويُطيعَ الله - عز وجل - في كل ما عصى.
لقد عاين ذلك الميت مصيره، وعرف ما له وما عليه.
لقد أدرك أنه كان في نعمة ولكنه لم يغتنمها، أدرك أن فرصته في الحياة قد انتهت وأنه قد خسر كل شيء.
فكانت أمنيته: (رب ارجعون).
ولكنها أمنيةٌ مليئةٌ بالحسرة والندامة، أمنيةٌ جاءت متأخرةً بعدما كان الأمل موجوداً في الحياة الدنيا.
فلا يُنظر في أمنيته ولا في طلبه، فأي حسرة وأي ندامة يعيشها عند الاحتضار؟
وإذا مات وحُمل على الأعناق، ما تكون أمنيته؟
ففي الحديث الصحيح، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وُضعت الجنازة فاحتملها الرجال علـى أعناقهم... وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَـالَتْ لِأَهْلِهَا يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُـلُّ شَيْءٍ إِلَّا الإِنسَان، وَلَـوْ سَـمِعَ الإِنسَانُ لَصَعِقَ)).
وإذا أُدخل قبره، ورأى منزلته ومـا أعـد الله له من شـديد العـذاب، فإنـه يتمنى أن لا تقوم الساعة، فيقول: رب لا تُقم الساعة، ربِّ لا تُقم الساعة، لأنه يعلم أن ما بعد القبر هو أشدُّ وأفظع.
فيقول: ربِّ لا تُقم الساعة.
أسأل الله العلي القدير أن تكون أمنيتنا أمنيةَ المؤمن الصالح، وأن لا تكون أمنية العبد الخاسر.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
قال إبراهيم التَّيْمي: مثَّلتُ نفسي في النار، آكل من زقومها، وأشرَب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أُرَدَّ إلى الدنيا فأعملَ صالحا، قال: فقلت: أنتِ في الأمنيةِ فاعملي.
فنحن في دار العمل، والآخرة دار الجزاء، فلنـعمل بطاعـة الله قبـل أن نُصبح في عِداد الموتى، فنتمنى ولا مُجيب لنا.
إن كل يوم نعيشه هو غنيمة، بل كل لـحظة مـن لحظات أعـمارنا هـي غنيمة، فحذار من الغفلة والتهاون والتسويف، فإن غاية ما يتمناه الموتى في قبورهم، الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا وليستدركوا ما فاتهم فيها.
ولكن لا سبيل لهم إلى ذلك البتة، ولا يُنظر في طلبهم ولا تُحقق أمانيهم.
لأنهم قد مُنحت لهم فرصة في هذه الحياة فلم يغتنموها.
فنصيحتي لك أيها المسلم: أن لا تُضيِّع أوقاتَ عُمرك فـي غير طاعـة الله لئلا تتحسر في يوم لا تنفع فيه الحسرة ولا الندامة.
قال ربنـا: ( أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَـا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِين * أَوْ تَقُـولَ لَـوْ أَنَّ اللَّهَ هَـدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِين).
فبادر يا عبد الله، واصرف ما بقي من عمرك في طاعة الله.
فإنك لو علمت ما بقي من أجلك لزهدت فـي طـول أملك، ولرِغبت فـي الزيادة من أعمالك، فاحذر زَللَ أقدامك، وخَفْ طولَ ندمك، واغتنم وجودَك قبل عدمك.
يا عبد الله، اجعل أمنيات-أماني الموتى في قلبك، علـى لسانـك، بين عينيك، إجعلها شعارا لك، فإنـها خيـر مُعين لك على فعلِ الخير والاستكثارِ منه والتسابُقِ إليه.
وتذكر كلما دعتك نفسك إلى معصية، تذكر أمنيات الموتى.
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك