دراسة الألفاظ القرآنية في تفاسير الصحابةالواردة
في « جامع البيان »للإمام الطبري
عـائـشـة الـهلالـي
أستاذة التعليم العالي
مساعدة شعبة الدراسات الإسلامية
بالرباط
أبرز ما انطبعت به إسهامات الصحابة اللغوية في التفسير: العناية بالألفاظ، وهذا مما سييسر مهمتهم عند توضيح التراكيب، وهذا عمل جاد ومهم، إذا نظرنا إلى حق الأسبقية وقانون الأولويات، وقد وضح الزركشي أسبقية علم المفردات على كل علوم اللغة، فقال: وأول ما يجب البداءة به منها تحقيق الألفاظ المفردة، فتحصيل معاني المفردات من ألفاظ القرآن من أوائل المعادن في بناء ما يريد أن يبنيه [1].
وقد علل الزركشي قوله تعليلًا ممتازًا، فقال: "إن المركب لا يعلم إلا بعد العلم بمفرداته؛ لأن الجزء سابق على الكل في الوجود من الذهني والخارجي [2].
وقد تنوَّعت مجهودات الصحابة في هذا الميدان، فاهتموا بتعريف المفردات التي استعملت في القرآن الكريم، حسب مجهود العرب، أو المفردات التي أكسبها الإسلام معنى جديدًا.
كما تتبعوا المفردات التي وردت بمعنى واحد في القرآن الكريم، وبيَّنوا أصل اشتقاق الكلمة والكلمات التي وافقت لغات أخرى غير لغة العرب.
1 - المفردات التي جاءت على معهود العرب:
أنزل الله القرآن على استعمالات العرب وألفاظها الخاصة، ولذلك اعتنى الصحابة ببيان هذه الألفاظ، وخصوصًا عبدالله بن عباس الذي بلغ بيانه لهذه الألفاظ مبلغًا كبيرًا، حتى إن السيوطي جمع هذه الأقوال مرتبة على سور القرآن [3]، وكأنها معجم لهذه الألفاظ القرآنية، وجامع البيان للإمام الطبري، كذلك قد وردت فيه أقوال كثيرة لابن عباس لتحديد هذه الألفاظ، جلها من طريق علي بن أبي طلحة، وهي طريق جيدة، وهي الطريق التي اعتمدها البخاري في جامعه[4].
أخرج الإمام الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ﴿ فَلَا تَأْسَ ﴾ [المائدة: 26]؛ يقول: فلا تحزن"[5].
ومعنى هذه اللفظة هو المعنى الذي ألفه العرب؛ يقول الإمام الطبري موضحًا هذه اللفظة: "يقال منه: "أسي فلان على كذا، يأسى أسًى"، وقد أسيت من كذا؛ أي: حزنت، ومنه قول امرئ القيس:
وقوفاً بها صحبيعليَّ مطيَّهم ♦♦♦ يقولون لا تهلك أسًى وتَجَمَّلِ
يعني لا تهلك حزنًا"[6].
وأخرج الإمام الطبري من طريق ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: "﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 60]؛ يعني ما اكتسبتم من الإثم" [7].
وهذا المعنى الذي بيَّنه ابن عباس يوافق فَهْمَ العرب للكلمة؛ قال الإمام الطبري: (وأما "الاجتراح" عند العرب، فهو عمل الرجل بيده أو رجله أو فمه، وهي الجوارح عندهم، جوارح البدن فيما ذكر عنهم، ثم يقال لكل مكتسب عملًا: "جارح"، لاستعمال العرب ذلك في هذه "الجوارح"، ثم كثُر ذلك في الكلام، حتى قيل لكل مكتسب كسبًا بأي أعضاء جسمه: اكتسب "مجترح") [8].
وأخرج الإمام الطبري من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: "﴿ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ﴾ [يوسف: 72]؛ يقول: كفيل"[9].
وهذا المعنى الذي تحمله "زعيم" في هذه الآية، هو المعروف عند العرب في كلامها.
قال الإمام الطبري: "وأصل الزعيم في كلام العرب: القائم بأمر القوم، وكذلك الكفيل والحميل، ولذلك قيل رئيس القوم زعيمهم ومدبرهم [10].
والعرب في معهود كلامها؛ إما أن تستعمل الألفاظ في الحقيقة أو المجاز، وقد فطن كبار الصحابة لهذه الميزة المعروفة، فلم يكتفوا ببيان الألفاظ التي جاءت على حقيقتها، بل بينوا الألفاظ التي تَجَوَّزَ القرآن الكريم في استعمالها، ومن ذلك ما رواه الإمام الطبري، قال: ثني عبدالحميد بن بيان القَنَّاد قال: ثنا إسحاق، عن سفيان، عن عاصم، عن بكر بن عبدالله، عن ابن عباس قال: الإفضاء المباشرة، ولكنَّ الله كريم يكني عما يشاء"[11].
ومن ذلك ما أخرجه الإمام الطبري عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة قوله: ﴿ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ﴾ [الإسراء: 107]؛ يقول: للوجوه"[12].
فقد بيَّن ابن عباس أن كلمة "الأذقان" في هذه الآية المقصود منها الوجوه، ولا يقصد منها المعنى المعروف في لغة العرب؛ لأن "الأذقان في كلام العرب جمع ذقن وهو مجمع اللحيين"[13].
لقد اتَّخذ الصحابة مواد كثيرة للوصول إلى معاني الألفاظ القرآنية، وتوضيحها للناس، فاعتمدوا القرآن نفسه، والقراءات القرآنية وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، واستعمالات العرب.
فابن عباس اعتمد على القرآن لبيان اللفظة القرآنية "رحمة"، و"زَلَقًا"؛ قال الإمام الطبري: "ثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال ثني حجاج عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني عن ابن عباس ﴿ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ ﴾ [الإسراء: 28]، قال: رزق: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ ﴾ [الزخرف: 32]" [14].
وقال الإمام الطبري: "ثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: ﴿ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ﴾ [الكهف: 40]؛ قال:مثل الجُرُز"[15].
كما كان للقراءة التي تُقرأ بها اللفظة القرآنية أثرًا في معناها، فقد أثر ابن عباس تفسيرين لقوله تعالى: ﴿ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ ﴾ [إبراهيم: 50].
روى الإمام الطبري قال: "ثنا القاسم، قال ثنا الحسين، قال: ثني حجاج عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: قطران: نحاس، قال ابن جريج قال ابن عباس: (مِن قَطِرَانٍ): نحاس"[16].
وأخرج الإمام الطبري عن ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة: "قوله: (مِن قَطِرَانٍ) قال: هو النحاس المذاب" [17].
فاختلاف معنى "قَطِرٍ آنٍ" راجع إلى كيفية أدائها، فإن قُرِئت موصولة كان معناها النحاس وإن قرئت مفصولة، فآنٍ ستكون صفة للنحاس، كما اعتمد الصحابة على أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم لبيان الألفاظ القرآنية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب - أُثر عنه تفسير بعض الألفاظ القرآنية الغريبة، من ذلك ما رواه عنه الإمام الطبري قال: ثني المثنى قال: ثناإسحاققال: ثنامحمد بن حرب،قال: ثناابن لهيعة،عندراج،عنأبي الهيثم،عنأبي سعيد الخدري،عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:كل حرف يذكر فيه القنوت من القرآن، فهو طاعة لله[18].
إضافة إلى هذه المصادر، حرص الصحابة على استقاء المعلومات اللغوية من أهلها، لمعرفة مدلولها عند العرب.
قال الإمام الطبري: "ثنا ابن بشار قال: ثنا أبو أحمد محمد بن عبدالله بن الزبير قال: ثنا سعر، عن قتادة عن ابن عباس قال: "لم أكن أدري ما" ﴿ افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 89] حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: انطلق أفاتحك"[19]، فكلمة ابنة ذي يزن أضاءت لابن عباس معنى الآية 89 من سورة الأعراف، وبيَّنت له أن "افتح" هي "اقضِ"، وقد بيَّن الإمام الطبري قبل ذلك معنى الآية الذي فهِمه ابن عباس فيما رواه عنه علي بن أبي طلحة "قوله: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ)، اقضِ بيننا وبين قومنا"[20].
وأهم المرتكزات التي ساعدت الصحابة على توضيح غريب القرآن: شعر العرب، فهو ديوان أمجادهم وسجل لغتهم، ولذلك اعتنى الصحابة به وحثوا على طلبه؛ قال الإمام الطبري: "ثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن يونس بن أبي اسحق، عن أبيه عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إذا تعاجم شيء من القرآن، فانظروا في الشعر، فإن الشعر عربي، ثم دعا ابن عباس أعرابيًّا، فقال: ما الحرج؟ قال الضيق، قال: صدقت" [21].
وأكثر الصحابة اعتمادًا على هذه الأداة هو ابن عباس، ونظرًا لأهمية هذا العمل، قام السيوطي بجمع ما رُوي عن ابن عباس في ذلك في كتابه الإتقان[22] وهي مسائل نافع بن الأزرق التي أخرج بعضها ابن الأنباري في كتابه "الوقف والابتداء"، والطبراني في معجمه الكبير.
وقد أخرج الإمام الطبري كثيرًا من هذه الأقوال في جامع البيان من ذلك "ثني محمد بن خالد بن خداش، قال: ثني سلم بن قتيبة، عن وهب بن حبيب الأسدي، عن أبي حمزة، عن ابن عباس في قوله: ﴿ بَنِينَ وَحَفَدَةً ﴾ [النحل: 72]، قال: من أعانك فقد حَفَدك، أما سمعت قول الشاعر:
حَفَدَ الوَلائِدُ حَوْلَهُنَّ وأُسْلِمَتْ ♦♦♦ بأكُفِّهِنَّ أزِمَّةُ الأجْمال [23]
و"ثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: ﴿ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ﴾ [النازعات: 14]، قال: على الأرض، قال: فذكر شعرًا قاله ابن أبي أُمية بن أبي الصلت، فقال: عندنا صيد بحر وصيد ساهرة"[24].
يتبع
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك