بسم الله الرحمن الرحيم
هذه أيها الأحبة الكرام مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي (وفقه الله)،نفعنا الله وإياكم بها.
وقفات مع سورة القارعة
الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إنَّ مما يقوي إيمان العبد برب البرية ويجعل قلبه متعلقا بالآخرة الباقية لا بهذه الدنيا الفانية أن يتذكر دائما أحوال يوم القيامة وما فيه من الأهوال والشدائد وما يسبقه من علامات تدل على تغير وتبدل الأحوال ، يقول العزيز المتعال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) [ الحج :1].
يقول الشيخ السعدي – رحمه الله- :" يُخاطب الله الناس كافة، بأن يتقوا ربهم، الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة، فحقيق بهم أن يتقوه، بترك الشرك والفسوق والعصيان، ويمتثلوا أوامره، مهما استطاعوا.
ثم ذكر ما يعينهم على التقوى، ويحذرهم من تركها، وهو الإخبار بأهوال القيامة، فقال:{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } لا يُقدَرُ قدره، ولا يبلغ كنهه، ذلك بأنها إذا وقعت الساعة، رجفت الأرض وارتجت، وزلزلت زلزالها، وتصدعت الجبال، واندكت، وكانت كثيبا مهيلا ثم كانت هباء منبثا، ثم انقسم الناس ثلاثة أزواج.
فهناك تنفطر السماء، وتكور الشمس والقمر، وتنتثر النجوم، ويكون من القلاقل والبلابل ما تنصدع له القلوب، وتجل منه الأفئدة، وتشيب منه الولدان، وتذوب له الصم الصلاب". تفسير السعدي (ص 532)
ولهذا التذكر والتفكر أيها الإخوة و الأخوات فوائد كريمة وعوائد عظيمة ترجع على العبد في دنياه من أهمها تقوية صلته برب البريات فنجد منه بعد ذلك الحرص على فعل الطاعات و التزود من الخيرات و الاجتهاد في الابتعاد عن المحرمات وسائر المنكرات،يقول الإمام ابن القيم- رحمه الله-:"فمن استقر في قلبه ذكر الدار الآخرة وجزاؤها، وذكر المعصية والتوعد عليها وعدم الوثوق بإتيانه بالتوبة النصوح، هاج في قلبه من الخوف مالا يملكه ولا يفارقه حتى ينجو ". طريق الهجرتين (ص 425)
وإنَّ من أهم الأسباب التي تُعين العبد على تحقيق هذه المنزلة العظيمة وتُساهم في ربط قلبه بالحياة الأخروية اعتناؤه
بكتاب رب البرية تلاوة وعملا وتدبرا ،لأن الاهتمام بالقرآن الكريم طريق كل نجاح ومصدر كل فلاح ، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- : "فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها ". ". مفتاح دار السعادة ( 1 / 187)
لذا أحببت أن أقف معكم أيها الأفاضل في هذا المقال المختصر مع سورة عظيمة من كتاب العزيز المقتدر فيها ذكرى للعبد بأحوال اليوم الآخر ، أنقل لكم فيه بإيجاز بعض ما جاء في تفسيرها عن بعض أئمتنا الأعلام، لعل الكريم المنان يجعلنا و إياكم ممن يتدبر ويعمل بالقرآن ،لأن هذه هي الغاية الحميدة التي من أجلها أنزله العزيز الرحمن، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- :" أنزل الله القرآن ليُتدبر ويُتفكر فيه ويعمل به، لا لمجرد تلاوته مع الإعراض عنه ". مفتاح دار السعادة (1/187)
فأقول أيها الأحباب بعد الاستعانة بالعزيز الوهاب:
-سورة القارعة : هي سورة مكية . تفسير البغوي (4/519) ، تفسير ابن كثير (4/544)
يقول الإمام السيوطي - رحمه الله- : " أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : نزلت سورة القارعة بمكة ". الدر المنثور ( 8/ 605)
-يقول جل وعلا :( الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ) [ القارعة: 1-2].
يقول الإمام الطبري – رحمه الله- :"{الْقَارِعَةُ} الساعة التي يقرع قلوب الناس هولُها، وعظيم ما ينزل بهم من البلاء عندها، وذلك صبيحة لا ليل بعدها". تفسير الطبري (30/281)
ويقول الإمام ابن كثير – رحمه الله- :"{ الْقَارِعَةُ } من أسماء يوم القيامة، كالحاقة، والطامة، والصاخة، والغاشية، وغير ذلك". تفسير ابن كثير (4/544)
ويقول الطاهر بن عاشور – رحمه الله- :"وجمهور المفسرين على أن هذه الحادثة هي الحشر فجعلوا القارعة من أسماء يوم الحشر مثل القيامة ". التحرير و التنوير (30/510)
يقول البغوي – رحمه الله- :"{ مَا الْقَارِعَةُ } تهويل وتعظيم". تفسير البغوي (4/519)
- ويقول جل جلاله : (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ) [ القارعة: 3].
يقول القرطبي – رحمه الله - : " { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ }كلمة استفهام على جهة التعظيم والتفخيم لشأنها ". تفسير القرطبي (20/164)
-ويقول تعالى : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) [ القارعة :4].
يقول الإمام الطبري – رحمه الله- :"الفراش، وهو الذي يتساقط في النار والسراج، ليس ببعوض ولا ذباب، ويعني بالمبثوث: المفرّق". تفسير الطبري (30/281)
ويقول الإمام ابن كثير – رحمه الله- :" {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ } أي: في انتشارهم وتفرقهم، وذهابهم ومجيئهم، من حيرتهم مما هم فيه". تفسير ابن كثير (4/544)
-ويقول سبحانه: ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) [القارعة :5].
يقول الشيخ السعدي – رحمه الله- :" والفراش: هي الحيوانات التي تكون في الليل، يموج بعضها ببعض لا تدري أين توجه، فإذا أوقد لها نار تهافتت إليها لضعف إدراكها، فهذه حال الناس أهل العقول، وأما الجبال الصم الصِّلاب، فتكون { كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ } أي: كالصوف المنفوش، الذي بقي ضعيفًا جدًا، تطير به أدنى ريح ". تفسير السعدي ( ص933)
-ويقول جل وعلا: ( فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) [ القارعة :6-7].
يقول الإمام الطبري – رحمه الله- :" وقوله: { فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } يقول: فأما من ثقُلَت موازين حسناته، يعني بالموازين: الوزن، والعرب تقول: لك عندي درهم بميزان درهمك، ووزن درهمك، ويقولون: داري بميزان دارك ووزن دارك".
-ويقول جلاله : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ) [ القارعة : 8-9].
يقول الإمام ابن كثير – رحمه الله- :"أخبر تعالى عما يئول إليه عمل العاملين، وما يصيرون إليه من الكرامة أو الإهانة، بحسب أعمالهم، فقال: { فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } أي: رجحت حسناته على سيئاته، { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } يعني: في الجنة. { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } أي: رجحت سيئاته على حسناته ". تفسير ابن كثير (4/545)
يقول القرطبي – رحمه الله - : "{فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} يعني جهنم , وسماها أمًّا ، لأنه يأوي إليها كما يأوي إلى أمه ". تفسير القرطبي (20/167)
ويقول البغوي – رحمه الله- :"سمي المسكن أمًا لأن الأصل في السكون إلى الأمهات، والهاوية اسم من أسماء جهنم، وهو المهواة لا يدرك قعرها". تفسير الطبري (30/282)
-ويقول تعالى : (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ ) [ القارعة :10 -11].
يقول الشوكاني – رحمه الله- :"{ نَارٌ حَامِيَةٌ } أي : قد انتهى حرّها ، وبلغ في الشدّة إلى الغاية". فتح القدير ( 5/478)
وفي ختام هذه الذكرى أيها الأحبة الكرام التي أسال الله العزيز العلام أن ينفع بها مُقيدها وكل من قرأها من أهل الإسلام أَود أن أُذكر نفسي وإياكم بأمر قد يغفل عنه الكثير منا بسبب تعلق القلوب بالدنيا الفانية! ألا وهو أن الواحد منا مهما طال عمره وامتد أجله فهو عن هذه الدنيا راحل وللأهل و الأصحاب و الأحباب مُفارق ، يقول العزيز الجبار: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) [ العنكبوت:75].
يقول الإمام الشوكاني – رحمه الله- :"أي: كلُّ نفس من النفوس واجدة مرارة الموت لا محالة ، فلا يصعب عليكم ترك الأوطان ، ومفارقة الإخوان والخلان ، ثم إلى الله المرجع بالموت والبعث لا إلى غيره ، فكل حيّ في سفر إلى دار القرار وإن طال لبثه في هذه الدار" . فتح القدير (4/210)
فالله الله أيها الأحباب على التزود بالأعمال التي تنفع يوم الحساب ، والحرص الحرص على أن نكون من أبناء الآخرة الباقية لا الدنيا الفانية! قبل أن يُباغتنا الموت وتأخذنا المنية، فلا ينفعنا بعد ذلك الندم ولا تغني عنا الحسرات،يقول الإمام ابن القيم- رحمه الله-:"كن من أبناء الآخرة ولا تكن من أبناء الدنيا فإن الولد يتبع الأم،الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها فكيف تعدو خلفها الدنيا جيفة،والأسد لا يقع على الجيف،الدنيا مَجاز،والآخرة وطن، و الأوطار إنما تطلب في الأوطان". الفوائد (ص51)
ولنحذر أشد الحذر من أن نُعلق قلوبنا بدنيا فانية أو شهوة زائلة، ولنربطها بما يرضي عنا ربَّ البرية وينفعنا في الحياة الأخروية، يقول الإمام ابن القيم-رحمه الله-:"ومفتاح الاستعداد للآخرة قصر الأمل،ومفتاح كل خير الرغبة في الله والدار الآخرة، ومفتاح كل شر حب الدنيا وطول الأمل". حادي الأرواح(ص 48)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يُوفقنا جميعا لكل ما يُحبه ويرضاه ومن ذلك أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وذهاب همومنا وجلاء غمومنا، وأن يُجنبنا وإياكم كل ما يُبغضه ويأباه ومن ذلك الاغترار بالدنيا! والوقوع في المنكرات، وعمل المحرمات، فهو سبحانه رب الأرض والسموات .
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أبو عبد الله حمزة النايلي
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك