الطريقة التي يستفيد منها المدعو المعاصر من منهج ابن كثير
مبارك بن حمد الحامد الشريف
هناك مجالات وجوانبُ كثيرة ومتعددة يمكن للمدعوِّ المعاصر أن يستفيد منها من خلال منهج ابن كثير الدعوي، سواء كان المدعو مسلمًا أو غير مسلم، وسواء كان من عامة الناس أو من كبرائهم، فمن هذه الطرق والمجالات:
1- مما يستفيده المدعو (من المسلمين) في العصر الحاضر عدم موالاة أعداء الإسلام من اليهود والنصارى ونحوهم من الكفار، يقول رحمه الله عند تفسير الآية: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ [آل عمران: 28]: "نهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء يسرُّون اليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعَّدهم على ذلك، فقال: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ﴾؛ أي: ومن يرتكب نهي الله في هذا فقد برئ من الله، ﴿ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾؛ أي: إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرِّهم، فله أن يتَّقيَهم بظاهره، لا بباطنه ونيته"[1].
وقال رحمه الله عند تفسير الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ﴾ [المائدة: 57]: "وهذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله من الكتابيين والمشركين، الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون - وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة، المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي - يتخذونها ﴿ هُزُوًا ﴾ يستهزئون بها، ﴿ وَلَعِبًا ﴾ يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد، وفكرهم البارد"[2].
2- وجانب آخر من جوانب العقيدة يستفيده المدعوُّ في هذا العصر من منهج ابن كثير، وهو وجوب التحاكم إلى ما أنزل الله، فإذا قضى الله ورسوله أمرًا فلا يسَعُ أحدًا مخالفةُ ذلك الأمر، أو تقديم غيره عليه، وأن شريعة الله صالحة لكل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فلا يسع أحدًا تركُها والتحاكم إلى غيرها من القوانين الوضعية، يقول ابن كثير رحمه الله عند تفسير الآية: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50]: "يُنكِر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكَم، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكيَّة المأخوذة من ملكهم "جنكيزخان" الذي وضع لهم "الياسق"، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخَذَها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بَنِيهِ شرعًا متبَعًا يقدِّمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم"[3].
3- ومما يستفيده المدعوُّ المسلم في هذا العصر في جانب العقيدة أيضًا من منهج ابن كثير: أن ما عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم هو المنهج الصحيح، فيقول عند تفسير الآية: ﴿ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]: "أي لا يثقله ولا يكرثه حفظُ السموات والأرض ومن فيهما، ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه يسير له، وقوله: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255] كقوله: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ [سبأ: 23]، وكقوله: ﴿ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [الرعد: 9]، وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجودُ فيها طريقة السلف الصالح: إمرارُها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه"[4].
4- وهناك جانب آخر من جوانب العقيدة يستفيدها المدعوُّون المسلمون في هذا العصر، وهو عدم تكفير أهل الكبائر كما هو الحال عند الخوارج ومن تابعهم الذين يكفرون بالكبائر من الذنوب، فيقول رحمه الله عند تفسيره الآية: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ [الحجرات: 9]: "فسماهم مؤمنين مع الاقتتال، وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظُمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم"[5].
5- ومما يستفيد المدعو من المسلمين في هذا العصر أيضًا من منهج ابن كثير: التحذير من البدعة، فيقول عند تفسير الآية: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾ [النحل: 116]: "ويدخل في هذا كلُّ مبتدع ابتدع بدعة ليس لها مستند شرعي، أو حلَّل شيئًا مما حرَّم الله، أو حرَّم شيئا مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهِّيه"[6].
6- ومما يستفيد المدعو من المسلمين في هذا العصر من منهج ابن كثير: الأمر بالجماعة والنهي عن الفُرقة، فابن كثير رحمه الله حريص على تقرير هذا المبدأ وبيانه، فقال عند تفسيره الآية: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]: "أمَرَهم بالجماعة ونهاهم عن الفُرقة، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق، والأمر بالاجتماع والائتلاف، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا ويسخط لكم ثلاثًا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تَفرَّقوا، وأن تُناصِحوا من ولَّاه الله أمرَكم، ويسخط لكم ثلاثًا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال))[7] ، وقد ضُمِنَتْ لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضًا، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف، وقد وقع ذلك في هذه الأمَّة فافترَقوا على ثلاث وسبعين فِرقة، منها فِرقة ناجية ومُسَلَّمَة من عذاب النار، وهم الذين على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه"[8].
7- وهناك جوانب أخرى تتعلق بالعبادة يستفيدها المدعوُّ من المسلمين في هذا العصر من منهج ابن كثير الدعوي، منها أن العبادة هي الغاية من الخلق، فيؤكد رحمه الله أن الله سبحانه "خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذَّبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم"[9].
وأن العزة في عبادة الله وطاعته، فالعزة والرفعة في الدنيا والآخرة لا تحصل إلا بطاعة الله سبحانه، ويؤكد رحمه الله أنه من "كان يحب أن يكون عزيزًا في الدنيا والآخرة، فليلزم طاعة الله؛ فإنه يحصل له مقصوده؛ لأن الله مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعًا، كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 139]، وقال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [فاطر: 10]؛ أي: فليعتز بطاعة الله عز وجل"[10].
وكذلك الاستمرار على الطاعة والعبادة، فيقول عند تفسير الآية: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132]: "أي أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا؛ ليرزقكم الله الوفاة عليه؛ فإن المرء يموت غالبًا على ما كان عليه، ويُبعَث على ما مات عليه، وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصَد الخير وفِّق له ويُسِّر عليه، ومن نوى صالحًا ثُبِّت عليه"[11].
وأن هناك آثارًا للطاعة والعبادة والتقوى؛ كالتوفيق لمعرفة الحق من الباطل، "فإن مَن اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره، وفِّق لمعرفة الحق من الباطل"[12]، وحفظ الله من اتقاه وأطاعه، وغرس محبة من عبَدَه واتقاه في قلوب الناس، وحصول الخير له، ودفع الشر عنه، وقد أشار رحمه الله إلى أن العبادة شاملةٌ لأنواع القُرَب من صلاة وصيام وزكاة وحج، وذكر فيها من الحكم والأسرار والآداب والأحكام ما يمكن للمدعوِّ المسلم في هذا العصر أن يستفيد منها.
8- ومما يستفيده المدعو من المسلمين في هذا العصر من منهج ابن كثير الدعوي: أنه كما أن للطاعة والعبادة آثارًا حميدة على العباد والبلاد، فكذلك الذنوب والمعاصي، حيث إن "جزاء المعصية الوهن في العبادة، والضيق في المعيشة، والتعسير في اللذة، قيل: وما التعسير في اللذة؟ قال: لا يصادف لذة حلالًا إلا جاء من ينغصه إياها"[13].
ويقول رحمه الله عند تفسير الآية: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 52]: "يخبر تعالى من تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغيِّر نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11]"[14] ، ويؤكد رحمه الله "أن الأمور إذا كانت ماشية على السداد، ثم وقع الفساد بعد ذلك، كان أضرَّ ما يكون على العباد"[15].
9- وهناك بعض الجوانب المتعلقة بالمعاملات يمكن للمدعوِّ المسلم في هذا العصر أن يستفيد من منهج ابن كثير الدعوي في ذلك؛ فقد حذَّر رحمه الله من التعامل بالمعاملات المحرَّمة؛ كالربا والغش وأكل أموال الناس بالباطل، وحثَّ على بعض الآداب؛ كإنظار المعسر حتى يتيسر حاله، وكتابة الدَّين والمعاملات المؤجَّلة؛ ليكون ذلك أحفَظَ لمقدارها وميقاتها، وأضبَطَ للشاهد فيها.
10- ومما يستفيده المدعو من المنهج الدعوي لابن كثير رحمه الله، من قواعد دعوية، وتوجيهات إصلاحية، وآداب مرعية تعتبر نماذج فريدة، حري بالمدعو في هذا العصر أن يستفيد منها، فمن هذه القواعد الجميلة قوله رحمه الله: "من لا يقبل الخير يقبل الشر"[16]، فهو يقرِّر رحمه الله أن الذي لا يقبل الخير يقبل الشر؛ لأن الله سبحانه ألهَمَ النفوس فجورَها وتقواها، كما قال سبحانه: ﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 8]، فليس هناك حياد بين الخير والشر، فالنفس إذا ما قَبِلَتِ الخير وعملتْ به، فإنها حتمًا ستنحرف إلى الشر وتقبله وتعمل به.
ومما ذكره ابن كثير أيضًا ولفت إليه قيمةُ النية والقصد وأثر ذلك في العمل وبلوغ المراد، فمن كان صادقًا في قصده الخيرَ وفَّقه الله له، بينما من كان قصده الشر فإن الله يخذله ولا يوفِّقه لمراد الخير، فيقول رحمه الله: "الله عز وجل يجازي من قصد الخير بالتوفيق له، ومن قصد الشرَّ بالخذلان، وكل ذلك بقدر مقدر"[17]، فهو يدعو رحمه الله إلى إخلاص السريرة والنية، وأنها تظهر آثارها على صفحات وجه الإنسان وفلتات لسانه، مهما حاول إخفاء ذلك أو ستره، فيقول رحمه الله: "ما أسَرَّ عبدٌ سريرةً إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وما أسرَّ أحدٌ سريرةً إلا كساه الله رداءها؛ إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشرٌّ"[18].
ومن توجيهاته التي يمكن أن يستفيد منها المدعو: عدم التروي في قَبول الحق إذا وضح؛ لأن الحق الذي جاءت به الرسل عليهم السلام جليٌّ وواضح، فلا يفكر في قَبوله إلا جاهلٌ أو غبي، فيقول رحمه الله: "الحق إذا وضح لا يبقى للتروِّي ولا للفكر مجال، بل لابد من اتباع الحق والحالة هذه لكل ذي زكاء وذكاء، ولا يفكر ويروي هاهنا إلا عييٌّ أو غبي، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إنما جاؤوا بأمر جليٍّ واضح"[19].
ومن الأمور التي أوصى بها ابن كثير في منهجه الدعوي، ويمكن للمدعو أن يستفيد منها: الاعتصام بالله والتوكل عليه؛ لأنه سبحانه الموفِّق والهادي إلى كل خير، وأن من اعتمد عليه سبحانه أفلح ونجا، ومن أعرض عنه خاب وخسر، فيقول رحمه الله: "الاعتصام بالله والتوكل عليه هو العمدة في الهداية، والعدة في مباعدة الغَواية، والوسيلة إلى الرشاد، وطريق السداد، وحصول المراد"[20].
وأيضًا من توجيهاته أنَّ تقوى الله سبحانه هي الزاد والمعين، والفرقان بين الحق والباطل، والخير والشر، لا سيما في هذا العصر الذي حصل التباسٌ لكثير من الناس في هذه الأمور، فيقول رحمه الله: "من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره، وُفِّق لمعرفة الحق من الباطل"[21].
وكذلك نبَّه رحمه الله على خطورة أهل الفجور الذين يحبُّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ممن يَدْعون إلى المنكرات بجميع الوسائل وشتى الطرق، ويعتبر رحمه الله أن الظن الحسن بمن هذا حاله وواقعه يعتبر خطأ، بل من المحذورات الكبيرة، فيقول رحمه الله: "من المحذورات الكبار أن يُظَنَّ بأهل الفجور خيرٌ"[22].
ومن قواعد منهج ابن كثير الدعوي الجميلة، وتوجيهاته السديدة: أنه يدعو إلى التوازن والاعتدال والتوسط، وعدم الغلو والإفراط أو التفريط، فيمكن للمدعو في هذا العصر الذي أصبح الناس بين طرفي نقيض: إما غلو وإفراط، أو تقصير وتفريط، أن يستفيدوا من منهج ابن كثير الدعوي حيث يؤكد رحمه الله "أن شرع الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه، لا إفراط ولا تفريط"[23].
11- كما أنه يمكن للمدعو من أهل الكتاب في هذا العصر أن يستفيد من منهج ابن كثير الدعوي في الدعوة إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبدين الإسلام الذي جاء به؛ لأن من كفر بنبيٍّ من الأنبياء الذين بَعَثَهم الله، فقد كفر بجميعهم؛ فإيمان أهل الكتاب بالأنبياء الذين بُعثوا إليهم يلزمهم أن يؤمنوا ببقية الأنبياء والمرسلين ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم، يقول رحمه الله عند تفسير الآية: ﴿ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ ﴾ [هود: 59]: "أي كفروا بها وعصَوا رسل الله، وذلك أن من كفر بنبيٍّ فقد كفر بجميع الأنبياء؛ لأنه لا فرق بين أحد منهم في وجوب الإيمان به، فعادٌ كفروا بهود، فنزَّل كفرهم منزلة من كفر بجميع الرسل"[24].
وكذلك المدعو من غير المسلمين في هذا العصر يمكن أن يستفيد من منهج ابن كثير الدعوي، وهو أن ابن كثير رحمه الله يقرِّر أن ما يثبُت بطريق الوحي حقائقُ يقينية ثابتة، فهو مصدر من مصادر المعرفة، بل هو المصدر الأول للحقائق والعلوم والمعارف والتشريعات؛ لأن أخباره صادقة، وأحكامه عادلة، فالقرآن المنزل من عند الله كما قال ابن كثير: "أمَرَ بكل خير، ونهى عن كل شر، كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأحكام، وأنه اشتمل على كل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمور دينهم ودنياهم، ومعاشهم ومعادهم"[25].
وأخيرًا: يمكن أن يستفيد المدعوُّ في هذا العصر من منهج ابن كثير الدعويِّ في عدم الاغترار بالدنيا وزخارفها، وأن السعادة والطُّمأنينة والرخاء في عبادة الله وطاعته، وأن سبب القلق والضيق وضنك المعيشة الذي يعيشه الناس في هذا العصر هو بسبب مخالفة أمر الله، ومجانبةِ سبيله وهداه، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ [طه: 124]؛ "أي خالف أمري وما أنزلتُه على رسولي، أعرض عنه وتناساه، وأخذ من غيره هداه ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ﴾ [طه: 124]؛ أي في الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعَّم ظاهرُه، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه مالم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة"[26].
وغير ذلك من الطرق والمجالات والجوانب الكثيرة التي يمكن أن يستفيد منها أصناف المدعوين في هذا العصر؛ كالمرأة والشباب والأطفال وغيرهم، من منهج ابن كثير الدعوي، والذي سبق وأن أشرنا إلى شيء من ذلك في المباحث السابقة.
[1] انظر تفسير القرآن العظيم 1/ 439.
[2] انظر تفسير القرآن العظيم 2/ 93، 94.
[3] انظر تفسير القرآن العظيم 2/ 88.
[4] المرجع نفسه 1/ 384.
[5] انظر تفسير القرآن العظيم 4/ 248.
[6] المرجع نفسه 2/ 728 عند تفسير الآية: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الحج: 3].
[7] أخرجه مسلم كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة والنهي عن منع وهات، وهو الامتناع من أداء حق لزمه أو طلب ما لا يستحقه، رقم (1715).
[8] انظر تفسير القرآن العظيم 1/ 476.
[9] المرجع نفسه 4/ 280 عند تفسير الآية: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
[10] انظر تفسير القرآن العظيم 3/ 673 عند تفسير الآية: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [فاطر: 10].
[11] المرجع نفسه1 / 232.
[12] المرجع نفسه 2/ 377 عند تفسير الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29].
[13] انظر تفسير القرآن العظيم 3/ 654 عند تفسير الآية: 17 من سورة سبأ، وقد أورد ابن كثير هذا الأثر عن أبي حِبَرَةَ شيحة بن عبدالله الضبي، من أصحاب علي من أهل البصرة، مات بعد المائة، انظر ثقات ابن حبان 4/ 372.
[14] المرجع نفسه 2/ 398
[15] المرجع نفسه 2/ 281 عند تفسير الآية: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ [الأعراف: 56].
[16] انظر تفسير القرآن العظيم 4/ 67 عند تفسير الآية: ﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ﴾ [الزمر: 45].
[17] انظر تفسير القرآن العظيم 4/ 616 عند تفسير الآية: ﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾ [الليل: 8، 9].
[18] المرجع نفسه 3/ 674 عند تفسير الآية: ﴿ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾ [فاطر: 10].
[19] المرجع نفسه 2/ 545 عند تفسير الآية: ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا ﴾ [هود: 27].
[20] انظر تفسير القرآن العظيم 1/ 474 عند تفسير الآية: ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [آل عمران: 101].
[21] المرجع نفسه 2/ 377 عند تفسير الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29].
[22] المرجع نفسه 1/ 65 عند تفسير الآية: ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴾ [البقرة: 9].
[23] انظر تفسير القرآن العظيم 2/ 115 عند تفسير الآية: ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [المائدة: 87].
[24] المرجع نفسه 2/ 555.
[25] انظر تفسير القرآن العظيم / 719.
[26] المرجع نفسه 3/ 213.
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك