شبكة ربيع الفردوس الاعلى  

   
 
العودة   شبكة ربيع الفردوس الاعلى > 9 > منتدى الفقه
 
   

« آخـــر الــمــواضــيــع »
         :: روائع سورة ال عمران الشيخ عنتر الهنداوى عزاء عائلات فله قرية بدر رشيد بحيرة (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: [179 /564] أسئلة على ما سبق - شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (الشرح الأول) (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: [180 /564] صفة المعية وأقسامها - شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (الشرح الأول) (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: [181 /564] هل المعية صفة ذاتية أم فعلية وهل هي حقيقية - شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: [182 /564] هل بين صفة المعية وصفة العلو تعارض! - شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين (الشرح الأول) (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: Have A Nice Day To You # 33577 (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: Have A Nice Day To You # 33579 (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: زوجي يضرب طفلتي الرضيعة (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: وقفات ودروس من سورة البقرة (9) (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)       :: هنيئا لمن مات شهيدا (آخر رد :ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران)      

إضافة رد
   
 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع

  #1  
قديم 12-17-2014, 03:49 AM
منتدى اهل الحديث منتدى اهل الحديث غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Aug 2014
المشاركات: 5,969
افتراضي (046)الجهاد في سبيل الله-أثر النوافل في التزكية


1-صلاة التطوع:

الصلوات المفروضة فرض عين هي الصلوات الخمس التي فرضها الله على هذه الأمة خمساً، وجعل ثوابها خمسين ـ الحسنة بعشر أمثالها ـ وقد سبق أنها ركن من أركان الإسلام، وهي الركن الوحيد الذي ربط الله به المسلم خمس مرات في يومه وليلته.

ولعظم شأن الصلاة وما تشتمل عليه من معانٍ تزكي المؤمن وتطهره، شرع الله سبحانه للمؤمن غيرها من الصلوات التي ترافقها، قبل الفرض وبعده أو قبله فقط، وهي التي تسمى بالسنن الراتبة، لتكون القبلية مهيئية صاحبها للإقبال إلى الله تعالى في الفريضة، ولتكون البعدية مذكرة له بدوام ارتباطه به سبحانه، ولتكون كلاهما ـ القبلية والبعدية ـ مكملة لما قد يحصل عليه من نقص في فريضته كما مضى.

قال ابن قدامة رحمه الله ـ مبيناً السنن الراتبة ـ (وهي عشر ركعات: ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر) [زاد المعاد (2/102) المغني (2/93)]. و قال: "ورأى بعض العلماء أن الراتبة قبل الظهر أربع، ورأى بعضهم أن للعصر راتبة وهي أربع" ورجح ابن قدامة أن لا راتبة للعصر، وإن كان الرسول صَلى الله عليه وسلمحث عليها. [المغني (2/93)]

وعلى كلٍ فهي عشر على القول الأول، و أربع عشرة أو ست عشرة ركعة، على ما ذكر بعده، ومن السنن الراتبة ركعتان أو أربع ركعات بعد صلاة الجمعة.

كما شرع للمؤمن صلوات أخرى غير الراتبة، مثل قيام الليل، وصلاة التراويح في رمضان، والوتر، وسنة الضحى، وصلاة العيدين، وصلاة الاستسقاء، وصلاة الكسوف، وصلاة الجنازة ـ وهي فرض كفاية ـ ولكنها تصبح في حق من لم تجب عليه تطوعاً، وركعتين قبل صلاة المغرب بعد الأذان، وركعتي تحية المسجد لمن أراد الجلوس فيه، وركعتي صلاة الاستخارة". [المغني (2/93ـ100)].

ولا حاجة لذكر النصوص الواردة في هذه النوافل، ومن أراد أن يطلع عليها فليرجع إلى كتب الحديث وكتب الفقه التي فصلت ذلك تمام التفصيل. [انظر مثلاً زاد المعاد (2/102 ـ 121) وكذا (2/150ـ156)].

و المقصود ذكر تلك النوافل التي شرعها الله تعالى لعبده المؤمن، منها ما هو متكرر مع الفرض وبعضها آكد من بعض، ومنها ما يتكرر كل يوم ليلاً أو نهاراً، ومنها ما يشرع لسبب من الأسباب ويشمل الجميع وصف التعيين فهي معينة كما ترى.

ولم يقتصر الرسول صَلى الله عليه وسلمعلى ذلك، بل حثَّ أمته صَلى الله عليه وسلمعلى الإكثار من الصلاة ـ غير المفروضة وغير النافلة المعينة ـ وبين صَلى الله عليه وسلمأن الصلاة ترفع الدرجات، وتمحو الخطايا، وتؤهل المكثر منها لمرافقته صَلى الله عليه وسلمفي الجنة. كما ثبت في صحيح مسلم عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: "لقيت ثوبان مولى رسول الله صَلى الله عليه وسلم، فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، أو قال: قلت: بأحب الأعمال إلى الله، فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله صَلى الله عليه وسلم فقال: (عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحطّ عنك بها خطيئة)، قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء، فسألته فقال لي مثل ما قال لي ثوبان.

وفي حديث ربيعة بن كعب الأسلمي، قال: "كنت أبيت مع رسول الله صَلى الله عليه وسلمفأتيته بوضوئه، وحاجته فقال لي: (سل) فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: (أو غير ذلك)؟ قلت: هو ذاك، قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود). [الحديثان في صحيح مسلم (1/353)].

ومع ملازمة الرسول صَلى الله عليه وسلم التقرب إلى ربه بصلاة النافلة، إذ كان يقوم حتى ترم قدماه، كما في الصحيحين من حديث المغيرة قال: "إن كان النبي صَلى الله عليه وسلم ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له: فيقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً)" [البخاري رقم 1130 فتح الباري (3/14)، ومسلم (4/2171)].

مع ذلك كان صَلى الله عليه وسلم شديد الحرص على أن ينال أصحابه هذا الفضل العظيم، لتزكية نفوسهم وفوزهم بالقرب من الله تعالى وبحبه وتوفيقه، فكان يحذرهم من أن يثبطهم الشيطان عن التنفل بالصلاة، ولا سيما صلاة الليل، فقد ذكر عنده صَلى الله عليه وسلم رجل نام ليله حتى أصبح ـ أي لم يقم الليل ـ فقال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه). [البخاري رقم 3270 فتح الباري (6/335) ومسلم (1/537)].

وأوضح صَلى الله عليه وسلم حرص الشيطان على حرمان المسلم من هذا الفضل العظيم فقال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدةٍ: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان). [البخاري رقم 1142 فتح الباري (3/24) ومسلم (1/538)].

وكان صَلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على أن لا يحول الشيطان بين أصحابه وبين فضل الله العظيم، يتفقد أقرب المقربين إليه، ويحثهم على قيام الليل. كما في حديث علي بن أبي طالب رَضي الله عنه: أن رسول الله صَلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت النبي عليه السلام ليلةً، فقال: (ألا تصليان)؟ فقلت: يا رسول الله أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلنا ذلك، ولم يرجع إليّ شيئاً، ثم سمعته وهو مولٍّ يضرب فخذه وهو يقول: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً) [البخاري رقم 1127، فتح الباري (3/10) ومسلم (1/537) والآية من سورة الكهف رقم: 54].

ولقد كان أصحاب رسول الله صَلى الله عليه وسلم، يسارعون إلى الإكثار من صلاة التطوع حتى تتعب أجسامهم، فيكاد يسقط أحدهم من الإعياء، ولكنه يشعر بالراحة والاطمئنان، فلا يبالي تعب جسمه، فيمد الحبل ليتعلق به عند الإعياء، فيشفق عليهم رسول الله صَلى الله عليه وسلم، ويأمرهم بفعل ما يطيقون. ففي حديث أنس بن مالك رَضي الله عنه قال: دخل النبي صَلى الله عليه وسلمفإذا حبل ممدود بين ساريتين، فقال: (ما هذا الحبل)؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صَلى الله عليه وسلم: (لا، حلوه ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد). [البخاري رقم 1150، فتح الباري (3/36) ومسلم (1/541)].

والأحاديث والآثار الواردة في حرص الرسول صَلى الله عليه وسلم وحرص أصحابه على صلاة النافلة أكثر من أن تحصى فليعد إليها من أراد. [انظر مثلاً أول الجزء السادس من كتاب جامع الأصول في أحاديث الرسول صَلى الله عليه وسلمللعلامة الأثير الجزري مطبعة الملاح1392هـ].

ويتضح مما مضى أن من آثار المحافظة على صلاة التطوع، محبة الله تعالى لعبده وتوفيقه إياه لعمل ما يرضيه عنه، وأنها تحقق للعبد شكر لله سبحانه، وترفع درجاته عنده، وتمحو خطاياه، وتؤهله للنعيم الدائم: الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأنها من أهم أسباب مرافقة الرسول صَلى الله عليه وسلموكفى بذلك وغيره تزكية للنفس وتطهيراً لها وإعدادها للجهاد في سبيل الله ورفع رايته.

أثر قيام الليل في تزكية النفس والصبر على البلاء

هذا وإن من أراد أن ينصب نفسه للجهاد في سبيل الله والدعوة إليه، فلا بد أن يعلم أنه معرض للابتلاء وكره الناس ووقوفهم ضده، ومحاولتهم إغراءه بشتى أنواع المغريات، ليسكت ويعرض عنهم ويتركهم وما يشتهون، فإن لم يفد معه الإغراء والترغيب، فإنهم لا بد منتقلون إلى الوعيد والتهديد، ووضع كل العراقيل في سبيله، بل سيعتدون على ماله وعرضه ونفسه، فلا يدعونه وشأنه، كما كان أمر جميع الأمم مع الأنبياء، وكما وقع من كفار قريش والجزيرة العربية مع الرسول صَلى الله عليه وسلم.

والصبر على ذلك ليس سهلاً بل هو أمر شاق، بل إنه لا يطيق - بدون سند رباني - مواصلة الدعوة والجهاد مع تكالب الأعداء عليه، والأعداء دائماً كُثُر، وأعدى أعداء الإنسان وأقربهم إليه نفسه وهواه وشيطانه.

لذلك لا بد من زاد للصبر، وعدة للسير ووقود للاستمرار، وما ذلك الزاد وتلك العدة وهذا الوقود، إلا اللجوء إلى الله والاعتماد عليه، وطلب العون منه بالتقرب إليه، - ولا سيما في جوف الليل - عندما يأوي إلى فراشه بعد الأتعاب والهموم والأحزان والعراك المتنوع، في هذا الوقت الذي يأخذ الإنسان يحدث نفسه عما لاقاه، وتحاول تثبيطه وتوهينه، لتحول بينه وبين مواصلة الجهاد والكفاح الدائمين حتى يلقى ربه.

هنا لا بد له أن يفزع إلى ربه ويقف بين يديه، طالباً منه المدد والعون، مستمداً منه القوة والعزم على الجهاد في سبيله، ذاكراً له بالتكبير الذي يملأ جوانح نفسه بربه، فلا يهاب إلا إياه راكعاً وساجداً له، فلا يخضع لسواه، مناجياً له بكتابه، متدبراً معانيه متفقها في أوامره ونواهيه، عالماً أسراره وحكمه، فيذهب عنه التعب، لارتياح نفسه بطاعة مولاه، وتنزاح الوحشة عنه، لأنسه بمن يناجيه في جوف الليل الذي سكن فيه الناس إلى مضاجعهم نائمين غافلين عن الله، أو صاخبين فيه على منكراتهم غير مبالين.

عند ذلك تتجدد الهمة وتقوى العزيمة وتخلص النية، فيتمثل أمامه أنبياء الله ولسان حالهم جميعاً يقول للأعداء: {إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه، فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم} [هود: 54ـ56].

قال سيد قطب رحمه الله، عند قوله تعالى: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} [المزمل: 5]: "وإن قيام الليل والناس نيام، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفاسفها، والاتصال بالله، وتلقي فيضه ونوره، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى، وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة، واستقبال إيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي. إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير، الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل، وينير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير". [في ظلال القرآن (29/3745)].

2-صوم التطوع

سبق أن ذكرنا أن صيام رمضان أحد أركان الإسلام، وأنه ذو أثر عظيم في تزكية النفس وتطهيرها، وأنه يؤدي بالصائمين إلى تقوى الله. وإن نفل الصوم كذلك، وقد كان رسول الله صَلى الله عليه وسلم يُكثر من صيام التطوع.
ففي حديث أنس رَضي الله عنه قال: "كان رسول الله صَلى الله عليه وسلم يفطر من الشهر حتى يظن أنه لا يصوم منه، ويصوم حتى نظن أنه لا يفطر منه شيئاً، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصلياً إلا رأيته، ولا نائماً إلا رأيته". [البخاري رقم 1972 فتح الباري (4/115) ومسلم (2/812)].

وصام صَلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وحث على صيامه، كما في حديث ابن عباس عنهـما قال: قدم النبي صَلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: (ما هذا)؟ قالوا: يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: (فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه). [البخاري رقم 2004 فتح الباري (4/244) ومسلم (2/795].

وكان صَلى الله عليه وسلم يكثر الصيام في شهر شعبان، كما في حديث عائشة رَضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صَلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صَلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان". [البخاري رقم 1969 فتح الباري (4/213) ومسلم (2/810)]. وحث صَلى الله عليه وسلم على صيام ست من شهر شوال، وبين أن من صامها بعد رمضان فكأنما صام الدهر. ففي حديث أبي أيوب الأنصاري رَضي الله عنه: "أن رسول صَلى الله عليه وسلمقال: (من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر)". [مسلم (2/822)]. كما كان صَلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم الإثنين ويوم الخميس، كما في حديث عائشة. [جامع الأصول (ت م س) (6/322)].

وكان يأمر أصحابه صَلى الله عليه وسلمب صيام أيام الليالي البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر. [جامع الأصول (6/325) ومسلم (2/817)]. وكان صَلى الله عليه وسلميقول: (صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله) [البخاري رقم 1979 فتح الباري (4/224)].

وللصيام أثر كبير في تزكية النفس وتطهيرها، لما فيه من التزام المؤمن وصبره عما هو حلال له في الأصل من أجل الله سبحانه، ولذلك أبهم الله أجر الصوم وكان فضل الصوم عند الله عظيماً. كما أن الصائم القادر على منع نفسه من الطعام والشراب والجماع، التي هي من أكثر الأمور التي تتوق إليها نفس المسلم، لا سيما عند حاجته إليها، قادر كذلك على الصبر على أذى الناس وعدم الرد بالمثل، والصوم يقي صاحبه من الأوضار في الدنيا ومن النار في الآخرة.

ففي حديث أبي هريرة رَضي الله عنه أن رسول الله صَلى الله عليه وسلم قال: (الصيام جنة، فإذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها). [البخاري رقم 1894 فتح الباري (4/103) ومسلم (2/806 ـ807)].

وخص الله الصائمين في الدنيا، بباب في الجنة، إكراماً لهم لا يدخله سواهم، جزاء لهم وميزه باسم: "الريان".كما في حديث سهل رَضي الله عنه: "عن النبي صَلى الله عليه وسلمقال: (إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)". [البخاري رقم 1896 وفتح الباري (4/111) ومسلم (2/808)].

ولما في الصوم من تزكية وتطهير وأجر عظيم، اشرأبت نفوس أصحاب رسول الله صَلى الله عليه وسلم إليها، أراد بعضهم أن يصوم الدهر كله، فنهاهم الرسول صَلى الله عليه وسلمعن ذلك، رفقاً بهم من أن لا يطيقوا ذلك كغيره من العبادات، وبين لهم صَلى الله عليه وسلم أن صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله [أي لأن الحسنة بعشر أمثالها]. فلما لم تطب النفس بذلك، أرشدهم بعدم الزيادة على صوم داود: صيام يوم وإفطار يوم، وأخبرهم أن ذلك هو أحب الصيام إلى الله.

ففي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عنهـما قال: "قال لي النبي صَلى الله عليه وسلم: (إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل)؟ فقلت: نعم، قال: (إنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النفس [أي تعبت] لا صام من صام الدهر، صوم ثلاثة أيام صوم الدهر كله). قلت: فإني أطيق أكثر من ذلك، قال: (فصم صوم داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى). [البخاري رقم 1979 فتح الباري (4/224) ومسلم (2/814)]. وفي رواية: (وأحب الصيام إلى الله صيام داود).

تأمل كيف ربط النبي صَلى الله عليه وسلم بين جهاد النفس بالعبادة وجهاد الأعداء في سبيل الله. فقال: (ولا يفر إذا لاقى)، فإن في ذلك تنبيهاً على أن التقرب إلى الله إذا أداه صاحبه على الوجه المطلوب الذي يرضي ربه، فإنه يثمر القيام بحق الله في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله مع الثبات وعدم الفرار.

وهكذا كان أصحاب رسول الله صَلى الله عليه وسلم، كانوا يبيتون ركعاً سجداً، مبتلة لحاهم بدموعهم خشية من الله، فإذا أصبح الصباح فلاقوا العدو استبطأ أحدهم أكل تمرات في يده، شوقاً إلى لقاء الله، فيرمي تمراته ويدخل في الصف ويقاتل حتى يقتل، وكان الذين يتزاحمون على الصف الأول في الصلاة، يتزاحمون على الصف الأول عند اللقاء أيضاً. وفي الصيام ـ كالحج ـ شبه بالجهاد في سبيل الله، لما فيه من الجوع والعطش والبعد عن الأهل وغير ذلك مما يحتاج إلى صبر وجهد كثير.

3-تطوع الحج والعمرة:

فُرِض الحج على المسلم بشروطه المبينة في كتب الفقه مرة واحدة في العمر، أما العمرة فاختلف في وجوبها، وليس البحث الآن بصدد بيان حكمها، ولكن على القول بوجوبها فإنها كذلك واجبة مرة واحدة في العمر، ويبقى باب التطوع مفتوحاً بالحج كل عام، وبالعمرة في أي وقت من الأوقات ـ وإن كره بعضهم تكرارها في العام، وكره بعضهم فعلها في بعض الأوقات، كأيام التشريق مثلاً.

والحديث الصحيح يدل على أن الإكثار من العمرة مُزَكٍّ للنفس ومطهر لها، وسُلَّمٌ إلى ثواب الله. ففي حديث أبي هريرة رَضي الله عنه: أن رسول الله صَلى الله عليه وسلمقال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) [البخاري رقم 1773 فتح الباري (3/597) ومسلم (2/983)]. وفي حديثه أيضاً قال: "قال رسول الله صَلى الله عليه وسلم: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه). [البخاري رقم 1819 فتح الباري (4/20) ومسلم (2/983)].

هذا مع ما يشتمل عليه الحج والعمرة من مشاق السفر ومفارقة الأهل والوطن، وما يتضمنه كل منهما من أذكار وطاعات كثيرة. والحديثان شاملان لحج الفرض وحج التطوع لعموم لفظهما، وإذا كانت العمرة إلى العمرة تكفران ما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، والحاج الذي يؤدي حجه كما يرضي ربه يرجع كيوم ولدته أمه، فإن ذلك يظهر ما للحج والعمرة من التزكية والتطهير للنفس البشرية.

ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك

رد مع اقتباس
 
   
إضافة رد

« الموضوع السابق | الموضوع التالي »

   
 
 
 
   

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة



Facebook Comments by: ABDU_GO - شركة الإبداع الرقمية

الساعة الآن 02:51 AM


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات