لا تستسلموا للألقاب
هنادي الشيخ نجيب
يقول أحد علماء النفس: " نحن جميعًا بحاجة لأن نصبحَ علماء طبيعة ضمن مجال الروح، ونقوم باكتشاف التضاريس المختلفة داخل نفوسنا ودراستها...".
ويقول الأستاذ باسل شيخو في كتابه "هل فات الأوان لتبدأ من جديد؟" معلِّقًا: "ولكن مرحلة الاكتشاف هذه – أي: مرحلة فتح الأبواب الموصدة، ومرحلة التجربة والخطأ - قد تطول بعض الشيء، فالحذرَ الحذرَ من الوقوع في شِباك الملل والضَّجَر، ثم الإحباط والاكتئاب، واليأس والكَدَر".
ولا شكَّ بأننا جميعًا مرَرْنا بتجرِبة الاستماع إلى كلمات أيقظت فينا مشاعر وأحاسيس لم تُراودنا من قبلُ، أو جعلتنا نرى الأمور أو نشعر بها بطريقة مختلفة.
لأجل ذلك أرجو أن تكون القصص التي أذكرها في هذه الفسحة الشهرية قد أثارت في نفوسكم حوافز؛ لتتعرفوا على ما لديكم، وأن تكون قد أشعلت في طريقكم شمعات الوعي والاستبصار؛ لتشعروا أو لتعملوا وفق ما وجدتم.
طلبتْ مني إحدى الصديقات قصة عن تقدير الذات والحفاظ على التوازن بوجود المشوِّشات، على أن أبتعد عن أجواء التشكيك والسلبية؛ لما لها من تأثير على الفاعلية والإيجابية، وأرادت أن أركِّز على كيفية مواجهة أولي الألقاب حولنا؛ خاصة أولئك الذين قلَبُوا الحق وألبسوه ثوب الباطل، فضَلُّوا وأضَلُّوا.
موقف قصير يختصر لنا صفحات من الواقع الذي نجاهد فيه للحفاظ على توازننا النفسي والديني، مقابل ما يعتري ديننا وقيمنا ومبادئنا من التشويه والتحريف على لسان ويدِ مَن حازوا المراكز الدينية، والمناصب الإسلامية، والمراتب العلية.
الموقف بعنوان: (لا تستسلم للألقاب).
كان سُقْراط جالسًا ذات يوم مع أحدِ تلاميذه على حافة بِرْكةٍ فيها ماء راكد، قال سقراط لتلميذه: ماذا يوجد في هذه البِرْكةِ؟
أجاب التلميذ: إنه ماء.
فبدأ سقراط يُقِيمُ الأدلة على أن الموجود داخل البِرْكَة ليس ماءً، وأورد عشرات البراهين على ما ذهب إليه.
استسلم التلميذ لأستاذه رغم قناعته بعكس ما قال، فما كان من سقراط إلا أن مدَّ يده إلى البركة واغترف كفًّا من الماء، ورماه في وجه تلميذه قائلاً: هذه الحقيقة أكبر دليل لك على أنه ماء، وأن ما ذهبتُ إليه أنا لم يكن صحيحًا!
أعزائي القراء، لقد أعجبني العنوان الذي وضعه أحد المختصين بالتنمية البشرية لهذه القصة، حيث كتب: لا تزهَدْ بما عندك استسلامًا للألقاب.
وهذه - في الحقيقة - هي الخطوة الأولى التي يجب أن نبدأ بها في موضوع تقدير الذات، فلا بدَّ من الاستبصار بنقاط القوة في داخلنا، والاعتراف بها، وتنميتها وتفعيلها، وعدم السماح لأحد - كائنًا من كان - بالاستهزاء بها، أو التقليل من شأنها، أو التشكيك في وجودها، والتعرض للثوابت التي قامت عليها.
وكم تكرَّرت مواقف أَطلق فيها أصحاب الألقاب والشهادات والمناصب أحكامًا على أشخاص أو أفكار أو حركات أو ثورات، وتعالَوْا على كلِّ مخالف لهم؛ استصغارًا لذوات الآخَرين، وتعظيمًا لأنفسهم، فانعكست عند الجماهير ضعفًا وتردُّدًا وتشكيكًا، وهم يعتقدون بأن سكوتهم عن الحقِّ واستسلامهم للألقاب احترامٌ، وتقديرٌ، وأدبٌ!
نعم، إن من واجبي أن أحذِّركم من تجاوز الخط الفاصل بين الثقة بالنفس وتقديرها، وبين الاغترار بها واتِّباع هواها!
فاحترام أنفسنا هو إيماننا بأننا على صواب، وبأن ما نقوم به هو الحقُّ، وهو نفس الشعور الذي يلزمنا باحترام غيرنا، في حال كانوا هم على صواب وما يقومون به هو الحق، ولا يتحقق ذلك إلا بالاستسلام للمنهج والمرجع، لا للألقاب والمراكز.
فإمَّا أن نكون مستعدِّين لفقدان بعض الأشخاص ذوي الاختصاص في تهديم النفوس، وإما أن نستسلم لهم، وينتهي بنا الأمر على مقاعد الاحتياط، الذين لن يأتي دورُهم أبدًا!
إن معرفة مزايا النفس وحدودها يمدُّنا بالأمان، ويجعلنا أكثر قوة وثباتًا في مواجهة الصعوبات، وأكثر مرونة في التعامل مع الصراعات وترتيب الأولويات، ولا ننسى ما لكلمات الشكر والثناء على كل إنجاز - مهما كان متواضعًا - من تأثير كبير، على نفي الشك وقلة التقدير: "فمن لم يشكر الناسَ، لم يشكر اللهَ".
إن اعتزازكم بما تحملون من إمكانيات نفسية وفكرية وسلوكية يعينكم على تقدير المواقف وتحليلها ومناقشتها، ويحصِّنكم من الإصابة بالتشاؤم والانعزال وفقدان الثقة بمن حولكم.
وختامًا - أعزائي القراء - أرجو أن يكون واضحًا أن التغاضي عن عيوب النفس، والتبرير لها، والمكابرة في الدفاع عنها إذا تبيَّن الحق، لا يجوز لأي أحد حتى وإن كان صاحب لقب أو منصب، أو شهرة أو سُمْعة، واعلموا يقينًا أن من عرف رَبَّه، عرف نفسه، وعذر غيره.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك