العشر الأُول من ذي الحِجّة
فضائل وأسرار
عادل عبدالله هندي
الحمد لله والصلاة والسلام على سَيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما بعد:
فها هي نفحات الله تترى على أمتنا بين الحين والآخر؛ إننا في أيام نفحات طيبة كريمة، أيام الحجّ، أيّام المغفرة والعتق من النار، هنيئًا لمن تعرّض لنفحات الله تعالى.
ولذَا فإني أقدّم بين يدي هذه الخطبة لإخْواني الوعّاظ والدّعاة عددًا من العناوين المناسبة لخطب أيام الحج وعيد الأضحى وسيأتي في الأسبوع المقبل خطبتـان، عن يوم عرفة، وعن يوم عيد النّحر بمشيئة الله تعالى.
ومن بين هذه العناوين، ما يأتي:
أولا: حجّة الوداع وخطبة البلاغ.
ثانيًا: عيد الأضحية.. عيد للبناء الإنساني.
ثالثًا: موسم الحجّ... تربية وبناء.
رابعًا: لبيك اللهم لبيك... أسرار ومعاني.
خامسًا: بين نَحْر ونَحْر (وهذه خطبة العيد إن شاء الله تعالى لهذا العام).
سادسًا: الحجّ فريضة الأمّـة الواحدة.
سابعًا: يوم عرفة وعزّة المسلمين.
ثامنًا: الحجّ عبادة الزمان والمكان.
تاسعًا: عيد النحر.. عيد التغيير الأقوم.
عاشرًا: خير أُمَّـة في رِحاب عيد التضحية.
إنّ مِن رّحمـة الله تعالى بعباده أن يسّر لهم سُبُل الطاعة والعبادة؛ فهيّأ الزمان -بين حين وآخر- للعبادة والطاعة، فنجد رمضان ونفحاته ورحماته المنزّلَة، وشهر ذي الحَجّة الأغرّ الأكرم، ونفحات الكرم والمغفرة والعتق من النيران؛ وما كان هذا إلا تيسيرًا على عباد الله، وتسهيلاً للطاعة، وتهيأةً للجوّ من أجل تنسّم عبيـر البركة والرحمة. لا سيما وأنّ النفس البشرية تحتاج من حين لأخر إلى من يذكّرها ويعينها على طاعة الله، وليس هناك أفضل من معين من حضور أيام الخير والبركة والفضل والكرم.
وها نحن أَيّها الأحبّة الأكارم:
نلتقي مع أفضل أيام الله تعالى في العام، فإذا كان ربنا قد فضّل ليلة القدر على غيرها من الليالي، وفضّل شهر رمضان على غيره من الشهور، وفضّل يوم الجمعة على غيره من الأيام، فإنّ أيّام العشر الأوائل من ذي الحِجّة هي أفضل الأيام بنص القرآن والسُّنّة.
نلتقي مستحضرين حديث النبيّ -صلى الإله عليه وسلّم- حيث يقول: «افْعَلُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ»...
فأهلا ومرحبا بك يا شهر الحجّ والبركات..
أهلا ومرحبا بك يا «عرفات» الله؛ حيث تدمع العيون، وترقّ الأفئدة..
أهلا ومرحبًا بمنظر الحجيج وهم يطوفُون ويلبّون: لبيك اللهم لبيك...
أهلاً ومرحبًا بختام عام هجري وبداية عامٍ جديد...
أهلا ومرحبًا بأفضل أيام الدنيا على الإطلاق.... والمسلم ينبغي أن يكون مقدِّرًا لشرَف الزمان والمكان... فالزمان شريف، والمؤمن بإيمانه يحرص على إقامة الطاعة فيها، واستغلالها استغلالاً.
عناصر الخطبة:
أولا: لماذا نهتمّ بالعشر الأول من ذي الحجة.
ثانيا: أعمـال العَشْـر الصالِحـة.
ثالثًا: الأضحية وما يتعلّق بها من أحْكام وفوائد.
أولا: لماذا نهتمّ بالعشر الأُول من ذي الحِجّة؟
لقـد خصَّ الله سبحانه وتعالى بعض الأمكنة والأزمنة بفضائل ومزايا، حيث ضاعف فيها الأجر والثواب، ومن هذه الأزمنة التي خصَّها الله بفضائل العشر الأول من ذي الحجة، فقد جعل الشرع الأعمال الصالحة فيها أفضل من الجهاد في سبيل الله، فعلى العبد أن يكثر فيها من الأعمـال الصّالحة، كالصّلاة والزّكاة والصوم والصدقة وغيرها؛ حتى ينال الأجر الكبير، والجزاء الوفير من الله العلي الكبير.
ولذا ففرض علينا أن نهتمّ بالعشر الأوائل من ذي الحِجّـة، ومن أسباب الاهتمام بها ما يأتي:
أولاً: لأنّ الله شرّفها وكرّمها، فأقسم بها في أوّل سورة الفجر ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1، 2].
ثانيًا: لأنّه اجتمع فيها أمهات العبادات والفضائل. (من صلاة وصيام وزكاة وحجّ.....). قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في الفتح: (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره).
ثالثًا: لأنّها أقرب فرصة للعبد في القرْب من الله تعالى، وذكره واللجوء إليه، قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: 203]، وقال أيضًا: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ﴾ [الحج: 27، 28]. فالأيّام المعدودات هي العشر الأُول من ذي الحِجّة.
رابعًا: لأنها آخر موسم من مواسم العام الهجري (فبماذا ستختم عامَك في هذه الأيام). وقد اجتمع لهذه الأيام شرف الزمان والمكان معًا، وشرف الطاعة المالية والبدنية والروحية معًا.
خامسًا: لأنّ فيها يوْم (عرفة)، وهو يساوي في النقاء والطهارة عامين كامِلين كما ثبت في الحديث. «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ».
سادسًا: لأنّ العمل فيها يساوي ثواب المجاهدين في سبيل الله تعالى.
سابعًا: لأنها أيام أكمل الله فيها الدين وأتمّ فيها النعمة على عباده، قال الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]. وقد نزلت في يوم عرفة في حجة الوداع من العام العاشر الهجري.
ثامنًا: لأنّها أيام تعبّد نبيّ الله موسى فيها لربّه وتحنّث، قال تعالى: «وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» [الأعراف: 142]. قال ابن كثير: «قيل: إنها ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة، وكان ذلك بعد خلاص قوم موسى من فرعون وإنجائهم من البحر». فحريّ بنا أن نستفيد ونغتنم هذه الأيام الصالحة، وأن نتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلّم فيها.
ثانيًا: أعمال العشْر الصّالحة
ومع قدر هذه الأيّـام وشرفِها فلا بد أن يكون المسلم على قدرها من الاهتمام والتصرّف، ولقد تفضّل نبينا بالتأكيد على أهمية العمل الصالح فيها، والدليل على ذلك ما ثبت عند البخاري مرفوعًا: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ». وحتى لا يقل أحد أنا محروم من زيارة بيت الله الحرام، فقد جعل الله الأيام العشر فرصة لغير الحجّاج أن يتعبّدوا ويتقربوا إلى الله تعالى.
يقول ابن رجب الحنبلي: «لما كان الله سبحانه قد وضع في نفوس عباده المؤمنين حنينًا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادرًا على مشاهدته كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركًا بين السائرين والقاعدين».
ومن بين هذه الأعمال ما يأتي:
أولا: إعلان التوبة النصوح بين يدي الله تعالى في هذه الأيام: فإذا كانت التوبة مطلوبة في كل يوم وليلة؛ لا سيّما وأنّ الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيئ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيئ الليل، فإن التوبة مطلوبة بالأحْرَى في هذه الأيام الكريمات المبارَكات، فمما يتأكد في هذا العشر التوبة إلى الله تعالى والإقلاع عن المعاصي وجميع الذنوب. والتوبة هي الرجوع إلى الله تعالى وترك ما يكرهه الله ظاهراً وباطناً ندماً على ما مضى، وتركا في الحال، وعزماً على ألا يعود والاستقامة على الحقّ بفعل ما يحبّه الله تعالى. والواجب على المسلم إذا تلبس بمعصية أن يبادر إلى التوبة حالاً بدون تمهل لأنه لا يدري في أي لحظة يموت، ولأنّ السيئات تجر أخواتها. يقول الله تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].
ثانيًا: الصوم: وفيه حديث حفصة بنت عمر رضي الله عنها في مسند الإمام أحمد قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع صيام عاشوراء وعشر ذي الحجة وثلاثة أيام من كل شهر). لا سيّما صيام يوم عرفة؛ لأنّ يوم عرفة يوم يعتق الله فيه رقابًا من النّار، وهو يوم دعاء ولجوء ومغفرة من الرحيم الرحمن، يوم يدنو الله فيه من عباده، يوم يباهي فيه الله بعباده، فاستنقذ نفسك فيه! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ». وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم:«صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ». وفي الحديث الصحيح كما عند البخاري: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا».
ثالثًا: الذكر والتكبير والتهليل والتحميد: يقول الله تعالى: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ»، وفي الحديث -كما عند الإمام أحمد في مسنده، والحديث صحيح، وفيه -يقول النبي الحبيب صلى الله عليه وسلّم: «ما منْ أيامٍ أعظم عند الله ولا أحَبُّ إليه العمل فيهنَّ منْ هذه الأيام العَشْر، فأكثروا فيهنَّ من التهليل والتكبير والتحميد». وقد ورد أنّ سعيد بن جبير ومجاهدًا وعبد الرحمن بن أبي ليلى كانا يدخلان السوق في أيام العشر فيكبِّران فيكبر السوق بتكبيرهما، وأن عبد الله بن عمر وأبا هريرة كانا يدخلان السوق فيكبّران لا يدخلان إلا لذلك.
رابعًا: نية ذبح الأضحية، ويعد من الأعمال الصالحة: العزم على فعل الأضحية مع الالتزام بسنن وهدي الذبح، فمما وجَّـه إليه الإسلام من آداب في هذه العشر أن من عزم على أن يضحي كره له حلق شيء من شعره أو تقليم أظافره لما روى مسلم عن أم سلمة أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظافره».
يتبع
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك