من قواعد العصمة.. مجالات خطاب الشريعة
مدحت القصراوي
يظن كثير من المسلمين أن الشريعة هي خطابٌ فردي فقط، وأن الشرائعَ لم تنزل إلا لتنظيم هذه العلاقة الفرديَّة؛ وعلى هذا يتصورون أن قَبول الأحكام هو في هذا الجانب، دون أن يخطر في بالهم الشأن العام والجماعي، والنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمجتمع.
ولا بدَّ من بيان هذه المسألة العظيمة من الناحية العقدية؛ وهي بيان مجالات خطاب الشريعة، وخطورة قَبولها في مجال دون آخر.
فمن حيث الفرد والجماعة:
فالشريعة لها خطاب فرديٌّ للعبد في نفسه، ولها خطاب جماعي كفائي موجَّه للأمة، تُحققه من خلال اجتماعها؛ لإقامة السلطة التي تقيم هذه الفروض الكفائيَّة في شكلها الجماعي، وهذه التكاليف طبيعتها أنها لا تتمُّ بطريقة فردية، ولكن لا بدَّ فيها من الهيئة الجماعية، والسلطة أو النظام الذي يقوم بهذه التكاليف، وهذه هي وظيفته الأساسية.
ومن ناحية العبادات والعادات والمعاملات:
فإن الحياة تنقسم إلى معاملة مع الرب تعالى مباشرةً، لا يجوز صرفُها لغيره، وهي العبادات (النُّسُك) من صلاة، وصوم، وحج، وزكاة، ودعاء، وتَبتُّل، وذبح، ونذر، وغيرها.
وإلى معاملات لإقامة النَّصَفَةِ بين الخلق، وإقامة الشرائع الربَّانية في العَلاقات البشرية، للمجتمع والنظام وللأمة؛ وهي (العادات والمعاملات)، ويختصرها بعض العلماء كالشاطبي تحت مسمَّى (العاديَّات)، ويسميها المعاصرون: (المنهج)، وهو مصطلح قرآني: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48]، وفي مصطلح قرآني آخر: (إقامة القسط)، كما جاء في سورة الحديد أن وظيفة الرسالات: ﴿ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25]، وهي كلها مصطلحات تدل على ما أنزل تعالى من تشريعاتٍ في مجال المعاملات الفردية والجماعية بين الخلق.
ففي مجال التعبُّد جاءت الشريعة بخطاب يكلِّف الفرد في نفسه، ويكلِّف الجماعة على هيئة جماعية.
وفي مجال: (إقامة القسط بين الناس)، أو (المنهج)، أو (العادات والمعاملات) أو (العاديات) ... جاءت الشريعة بخطاب يكلِّف الفرد في نفسه، ويكلف الجماعة على هيئة جماعيَّة.
فكانت القِسمة للخطاب الشرعي أنه: عبادي فردي، وعبادي جماعي، وعادي فردي، وعادي جماعي.
في مجال التكليف التعبدي الفردي: مثالُه: أداء الصلاة، أو أداء الصيام على وجه فردي.
ومثال التكليف الكفائي العام التعبدي: إقامة الصلاة؛ بمعنى إقامتها في المجتمع، وبناء المساجد، وتوظيف الأئمة والمؤذِّنين، وتفريغ أوقات الصلاة في العمل، والأمر بها، وعقوبة من يُجاهِر بتركها.
وكذلك إقامة فريضة الزكاة بوجود السُّعاة، والموظفين، وتحديد الأوعية الزَّكَويَّة، والقيام بالدعوة إليها، والترغيب فيها، وجِبايتها وتوزيعها في مصارفها، وعقوبة مانعها، بل وقتال الفئة الممتنعة عنها؛ كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم.
واجتماع الأمة لأوقات الصيام والإفطار ... وهكذا بقية التعبدات في هيئة جماعية.
والمقصود: إقامة الشعائر، وقَبول فرضيتها على وجه جماعي، وقيام المجتمع والسلطة النائبة عنه بحفظ الفرائض وإقامتها.
ومثال التكليف العادي الفردي: أداء الأمانة، وبرُّ الوالدين.
ومثال التكليف العادي الجماعي: إقامةُ التشريعات الربَّانية في جميع المجالات؛ فمنها: إقامة الحدود الشرعيَّة؛ فهي لا تُنفَّذ إلا من خلال سلطةٍ اختارتها الأمة باختيار الإمام أو الحاكم اختيارًا حُرًّا، ثم قيام هذه السلطة المختارة من قِبل الأمة بإقامة هذه التكاليف التي لا تتمُّ إلا من خلال سلطة.
ومنها إقامة الأحكام العامة في حُرمة الربا في النظام المصرفي والاقتصادي العام، وحرمة الزنا والتعرِّي الفاجر والفواحش، وحرمة الخمور والمخدرات وغيرها ... وهذا لا يتمُّ تحريمه العام بترك الشخص له فقط، بل لا يتمُّ إلا بالتحريم لما حرَّم الله، والتزامه على وجه قانوني عام.
القبول لا يتجزَّأ:
وعلى هذا، فإن كان أصلُ الدين الذي هو أصل الإيمان، وهو التوحيد، وهو معنى (لا إله إلا الله) - لا بدَّ فيه من الأصلين العظيمين (التصديق والقبول)، (والقبول هو: الانقياد، وهو الالتزام، وهو العبادة، وهو الاستسلام، وهو الدَّينونة) - كان لا بدَّ من معرفة القاعدة العظيمة والمنجية من الهلاك والالتباس؛ وهي: أنه لا يتمُّ القبول والاستسلام والدَّيْنونة والعبادة إلا بقَبول أحكام الله تعالى عباديًّا وعاديًّا، فرديًّا وجماعيًّا، أو بجملة جامعة: أن يكون القبولُ (جملة، وعلى الغيب).
ومَن قَبِل أحكام الله في الجانب الفردي العادي والعبادي دون الجانب الجماعي العادي والعبادي، فقد وقع في أكثر من خَلَل عظيم:
فأولًا: قد قصَر القبول على بعض ما أنزل الله دون بعض، وبهذا لا يتحقَّق القبول الشرعي؛ إذ إن قَبول ما أنزل الله لا يتحقَّق إلا أن يقبل جملةً جميع ما أنزل الله، وفي كل مجال تناوله، (جملة، وعلى الغيب).
فقبولُ الشريعة عام شامل لجميع أجزائه، ولا يتحقق هذا العموم إلا بامتثاله في جميع أجزائه.
ومثال عدم تحقق الامتثال إلا بشموله لجميع أجزائه هو ما أمر الله من غَسْل الوجه في الوضوء، فمن غسَل جزءًا وترك آخرَ، لم يغسل وجهَه، ولم يكن ممتثِلًا، فكذلك القَبول هو عام شامل لجميع أجزائه، لا يتحقق بقَبول بعض دون بعض، بل لا بدَّ من قبول جملة ما أنزل الله تعالى وفي جميع المجالات.
ثانيًا: أنه قَبولٌ لبعض ما أنزل الله، وردٌّ لبعضه، وبديل القبولِ الرد، ومن لم يقبَلْ حكم الله تعالى في بعض المجالات، فقد ردَّه، وإن قبِل غيره، وفي هذا قال تعالى: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ [البقرة: 85] في شأن بني إسرائيل لمَّا قَبِلوا وجوب فداء أسراهم، ولم يحرِّموا قتلهم وإخراجهم.
ثالثًا: أن من ردَّ أحكام الله تعالى في مجال عام أو جماعي، فلا بدَّ أن يقبل أحكام غيره لينظم حياته؛ فلا بد أن يقبل تشريعًا من غير الله تعالى، وهو عينُ اتِّخاذ الأرباب من دونه.
وقد حذَّر تعالى المؤمنين ونهاهم عن قَبول مجادلة المشركين في تبديل أيِّ حكم من أحكامه، وقال تعالى في شأن بعض هذه الأحكام لما جادلَ فيها المشركون رسول الله والمسلمين لإباحة أحد المحرَّمات: ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ﴾ [الأنعام: 121].
نسأل الله تعالى الثبات والسداد والهداية، وهو تعالى المسؤول أن يعينَنا على إقامة دينه الذي ارتضاه لنا، وأن يمكن له في الأرض، ويفتح له قلوب الناس.
والله الهادي والعاصم والناصر، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وصحبه وآله.
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك