بسم الله الرحمن الرحيم
هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي ( وفقه الله)، نفعنا الله وإياكم بها.
غلاء الأسعار...... أسباب..... و علاج
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إنَّ مما يشتكي منه الكثير من المسلمين اليوم في شتى البلدان الإسلامية بل وكَثر عليه الكلام حتى في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية أيها الأحبة الكرام أن أسعار الأطعمة والأشربة وسائر الحاجات وحتى الكماليات قد ارتفع وزاد ثمنها عن المعتاد في الأسواق والمحلات التجارية، وبالتالي لم يعد لكثير من الناس القدرة الشرائية على تحصيل حتى متطلباتهم الضرورية فضلا عن التكميليَّة،يقول الإمام الصنعاني-رحمه الله-:"الغلاء ممدود وهو ارتفاع السعر على معتاده".سبل السلام ( 3/25)
ولا يُنكر عاقل أيها الأفاضل أن ضرر هذا البلاء خطير وأنه إذا لم يُعالج فسيعود على الأفراد و المجتمعات بشر كبير لا يحفظنا منه إلا العزيز القدير .
لكن الذي يَتعجب منه المؤمن! أن الكثير ممن يتكلمون على هذا الداء و يتطرقون إلى أسبابه وإلى الوسائل المساعدة على التخلص منه قد جعلوا أسبابه دنيويَّة محضة!،فيتكلمون مثلا أن مما ساهم في ظهوره ما نراه من احتكار بعض التجار! لبعض السلع التي منها ما لا يستغني عنها الإنسان في يومه، ثم يقوم هؤلاء -أي التجار- ببيعها بعد نفاذها من السوق على الناس بأسعار باهضة جدا ! دون اهتمامهم بحال المسلمين وأن الكثير منهم قد لا يستطيع شرائها، وهذا الفعل منهم لا شك أنه خاطئ وهو محرم فقد حذر منه نبينا صلى الله عليه وسلم ، فعن معمر بن عبد الله القرشي – رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ ". رواه مسلم ( 1605)
يقول الإمام النووي- رحمه الله- :"قال أهل اللغة الخاطئ بالهمز هو العاصي الآثم، وهذا الحديث صريح في تحريم الاحتكار، قال أصحابنا الاحتكار المحرم هو الاحتكار في الأقوات خاصة، وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء للتجارة ولا يبيعه في الحال بل يدخره ليغلوا ثمنه، فأما إذا جاء من قريته أو اشتراه في وقت الرخص وادخره أو ابتاعه في وقت الغلاء لحاجته إلى أكله أو ابتاعه ليبيعه في وقته فليس باحتكار ولا تحريم فيه، وأما غير الأقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكل حال، هذا تفصيل مذهبنا، قال العلماء والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند إنسان طعام واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره أُجبر على بيعه دفعا للضرر عن الناس ".الشرح على صحيح مسلم (11/ 43)
ولذا على الصحيح فإنَّ على من يقوم على شؤون المسلمين من حكام أو من ينوب عنهم إذا رأوا من هؤلاء التجار الجشع و الطمع ومجاوزة الحد واستغلالهم حاجة الآخرين وعدم تمكن الكثير من الناس اقتناء هذه السلع الضرورية أن يضعوا سعرا مناسبا يلتزم به التجار عند بيعهم لهذه السلع ، بحيث لا يكون فيه كذلك التعدي على حق التجار وإنما فيه مُراعاة مصلحة حق الطرفين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- :"السعر منه ما هو ظلم لا يجوز ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباحه الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المِثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المِثل فهو جائز بل واجب ". مجموع الفتاوى ( 28/ 76)
ويقول الإمام ابن القيم- رحمه الله-:"وجماع الأمر أَنَّ مصلحة الناس إذا لم تَتِمَّ إلا بالتسعير سَعَّرَ عليهم تَسْعِيرَ عَدْلٍ، لا وَكْسَ- أي نقص-وَلَا شَطَطَ -أي الظلم-،وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يُفعل".الطرق الحكمية( ص 383)
وعلى التاجر أن يعلم أنه إذا لم يتق في تجارته العليم المنان ويبتعد عن الغش و الإضرار بالآخرين وسائر أنواع الآثام و العصيان، ويحرص على الرفق بالأنام على قدر الإمكان أنه مُتوعد بوعيد شديد يوم وقوفه بين يدي العزيز الرحمن، فعن رفاعة بن رافع – رضي الله عنه- أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يوم الْقِيَامَةِ فُجَّارًا إلا من اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ ". رواه الترمذي ( 1210)، وحسنه الشيخ الألباني– رحمه الله -في السلسلة الصحيحة (994)
يقول المباركفوري – رحمه الله- :" قوله (إِنَّ التُّجَّارَ) بضم الفوقية وتشديد الجيم جمع تاجر (يُبْعَثُونَ يوم الْقِيَامَةِ فُجَّارًا) جمع فاجر من الفجور (إلا من اتَّقَى اللَّهَ) بأن لم يرتكب كبيرة ولا صغيرة من غش وخيانة أي أحسن إلى الناس في تجارته أو قام بطاعة الله وعبادته (وَصَدَقَ ) أي في يمينه وسائر كلامه ".تحفة الأحوذي (4/ 336)
ومن الأسباب التي تُذكر أيضا وأدت أيضا إلى غلاء الأسعار في الأسواق ما تمر به كثير من الدول في هذه الفترة من قلة الدخل بسبب انخفاض سعر برميل البترول الذي تعتمد عليه الكثير من الدول الإسلامية في صادراتها لكسب المال،وكذلك يُشيرون إلى الأزمات والحوادث والاضطرابات التي تشهدها عدة مناطق في العالم اليوم خاصة الإسلامية منها،وهذا مما جعل الكثير من الدول تحاول أن تغطي العجز الذي أصاب ميزانيتها السنوية برفع أسعار بعض السلع ومنها حتى الضرورية.
لا نُنكر أبدا أيها الأحباب أن هذه الأمور هي من الأسباب التي ساهمت في ظهور هذا الوباء ، لكن ينبغي لكل منَّا أن يطرح على نفسه سؤالا مهما، ألا وهو هل هي السبب الحقيقي و الرئيسي في بروز هذا المرض؟!...
الحقيقة الغائبة عن كثير من الأذهان أيها الكرام و التي لا يُريد أن يُقرَّ بها الكثير من أبناء الإسلام أن السبب الحقيقي في ارتفاع الأسعار هي كثرة الذنوب والآثام التي تصدر من الأنام، فأصبحت البدع بين المسلمين ظاهرة بل حتى الشرك برب البرية أصبح متفشيا في الكثير من الأقطار الإسلامية، أما المعاصي والمحرمات فقد أصبحت والعياذ بالله عادة عند الكثيرين! تصاحبهم في الصباح والمساء !، فنرى من المسلمين اليوم من يظلم غيره ويتعدى على حقوقه،ومنهم من يتساهل في أمر الاختلاط و التبرج والسفور والحرص على سماع الأغاني ومشاهدة المسلسلات الهابطة و البرامج الساقطة التي تدعو إلى كل رذيلة وتحارب كل فضيلة وغير ذلك من المحرمات و المنكرات،يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- : "فالغلاء بارتفاع الأسعار والرُّخص بانخفاضها، هما من جملة الحوادث التي لا خالق لها إلا الله وحده، ولا يكون شيء منها إلا بمشيئته وقدرته، لكن هو سبحانه قد جعل بعض أفعال العباد سببا في بعض الحوادث،كما جعل قتل القاتل سببا في موت المقتول، وجعل ارتفاع الأسعار قد يكون بسبب ظلم العباد،وانخفاضها قد يكون بسبب إحسان بعض الناس". مجموع الفتاوى ( 8 /520)
فعلى العبد أن يعلم جيدا أن المصائب التي تُصيبه، والنِّقم التي تَحِلُّ به ما هي إلا بسبب ما عمل وما قدمت يداه ، يقول جل وعلا:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) [ الشورى :30].
يقول الشيخ السعدي – رحمه الله- :" يخبر تعالى أنه ما أصاب العباد من مصيبة في أبدانهم وأموالهم وأولادهم وفيما يحبون ويكون عزيزا عليهم، إلا بسبب ما قدمته أيديهم من السيئات، وأن ما يعفو اللّه عنه أكثر، فإن اللّه لا يظلم العباد، ولكن أنفسهم يظلمون ". تفسير السعدي ( ص 759)
فانتشار الفساد وارتفاع أسعار السلع في الأسواق وإصابتها بسبب عدم شرائها بالتلف والكساد ما هو في الحقيقة إلا بسبب كثرة الذنوب والبعد عن طاعة علاَّم الغيوب،يقول تعالى:(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )[ الروم :41].
يقول الإمام القرطبي-رحمه الله-:"أي ظهر قِلَّةُ الغيث وغلاءُ السِّعْرِ.(بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)...".تفسير القرطبي ( 14/41)
ويقول الشيخ السعدي – رحمه الله-:"أي: استعلن الفساد في البر والبحر أي: فساد معايشهم ونقصها وحلول الآفات بها، وفي أنفسهم من الأمراض والوباء وغير ذلك، وذلك بسبب ما قدمت أيديهم من الأعمال الفاسدة المفسدة بطبعها.
هذه المذكورة {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} أي: ليعلموا أنه المجازي على الأعمال فعجل لهم نموذجا من جزاء أعمالهم في الدنيا { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عن أعمالهم التي أثرت لهم من الفساد ما أثرت، فتصلح أحوالهم ويستقيم أمرهم. فسبحان من أنعم ببلائه وتفضل بعقوبته وإلا فلو أذاقهم جميع ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة". تفسير السعدي ( ص643)
فعلى المسلم أن يعلم يقينًا أن المعاصي والذنوب هي أصل كل داء، وسبب كل بلاء،ومصدر كل وباء، وطريق كل حرمان وشقاء، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- :"فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد، فما أذنب عبد ذنبا إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها ،وإن أصر لم ترجع إليه ، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تُسلب النعم كلها ".طريق الهجرتين (ص 408)
فليبادر من أراد أن يتطهر من شؤم المعصية وينال السعادة الحقيقية ويرفع ما حلَّ عليه من بليَّة إلى التوبة والرجوع دون تسويف إلى رب البرية، فهذا هو طريق النجاة في هذه الدنيا الدنيَّة وفي الآخرة الباقية السرمديَّة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- :"من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية".مدارج السالكين لابن القيم (1/431)
وليحذر العبد من أن يجعل همَّه البحث عن الأسعار وقيمتها فيُفرط بالتالي في الشيء الذي من أجله خُلق وبسببه وجد ألا وهو عبادة الله جلَّ جلاله وحده لا شريك له، قال سبحانه: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات:56].
يقول الإمام النووي-رحمه الله-:"وهذا تصريح بأنهم خُلقوا للعبادة فحقَّ عليهم الاعتناء بما خلقوا له". رياض الصالحين (ص3)
ومن أصابه الهم والغم بسبب ارتفاع الأسعار فعليه أن يصبر و يستحضر دائما أن هذه الدنيا مهما طال بها الأمد فهي زائلة وأنه مهما طالت مدة عيشه فيها فسيفارقها لأنها فقط هي ممر و الدار الآخرة هي المستقر،يقول الإمام بشر بن الحارث الحافي المروزي[ت: 227هـ ]- رحمه الله-:"إذا اهتممت لغلاء السعر فاذكر الموت، فإنه يُذهب عنك همَّ الغلاء ".حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني ( 8 / 347)
ويقول الإمام النووي -رحمه الله-:"فإنها – أي الدنيا- دَارُ نَفَادٍ لاَ مَحَلُّ إخْلاَدٍ, وَمَرْكَبُ عُبُورٍ لاَ مَنْزِلُ حُبُورٍ, ومَشْرَعُ انْفصَامٍ لاَ مَوْطِنُ دَوَامٍ ، فلهذا كان الأيقاظ من أهلها هم العبَّاد، وأعقل الناس فيها هم الزُّهاد". رياض الصالحين(ص3)
فليكن أيها المسلم بحثك عما يرضي ربك دائما هو همّك،وحرصك على طاعة خالقك سبحانه واجتناب معصيته هو غايتك ومطلبك وسترى بعد ذلك بإذن العزيز المنان ما سيفتحه عليه رازقك،يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله-:" إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها،وحَمل عنه كل ما أهمه،وفرَّغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره وجوارحه لطاعته،وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمَّله الله همومها وغمومها وأنكادها،ووكله إلى نفسه فَشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدحَ الوحش في خدمة غيره كالكِير يَنفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته".الفوائد (ص 84)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن لا يجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، وأن يحفظ المسلمين في كل مكان من كيد الفجار ومكر الأشرار، وأن يرفع عنهم غلاء الأسعار، ويحميهم من كل الأضرار، ويُبعد عنهم كل الأخطار ، فهو سبحانه وليُّ ذلك و العزيز الغفار .
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أبو عبد الله حمزة النايلي
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك