بيان خطأ من يستدل بالآية:{واتقوا الله ويعلمكم الله} على أن العلم مرتب على التقوى

[ملتقى اهل التفسير]

بسم الله الرحمن الرحيم


يستدل كثير من المتأخرين"1" بخاتمة آية الدين في آخر سورة البقرة:{واتقوا الله ويعلمكم الله} على أن العلم مرتب على التقوى.


- وهذا الاستدلال خطأ.

- وقد نبه على خطئه كثير من العلماء؛من المفسرين واللغويين وغيرهم.


- وممن نبه على خطئه:

*ابن تيمية، وقال:(أكثر الفضلاء يطعنون في هذه الدلالة).

*والزركشي في"البرهان"4/143، وقال فيه:(المحققون على منع ذلك).

*والشاطبي في"الموافقات"4/262،
وأشار إلى مخالفته ما(قرره الأئمة في صناعة النحو).

*وأبوحيان، وذكر أنه(ضعيف جدا).



- ومن الردود على المخطئين:


1- (لو أريد الجزاء لأتى بها مجزومة مجردة عن الواو؛ فكان يقول:فاتقوا الله يعلمكم الله[بسكون الميم الأولى]).
"مفتاح دارالسعادة"لابن القيم1/520


2- أن جعل الواو حالية؛ ليصح ترتب الثاني على الأول=خطأ؛ لأن(المضارع الواقع حالا لايدخل عليه واو الحال إلا فيما شذ...ولاينبغي أن يحمل القرآن على الشذوذ).
"البحرالمحيط"لأبي حيان، ونحوه في"الدرالمصون"2/677 لتلميذه؛السمين الحلبي


3- (ليس من العطف ما يقتضي أن الأول سبب الثاني).
"فتاوي ابن تيمية"


4- أن العطف يقتضي المغايرة.
"تفسيرالمنار"3/130


5- (لأن تعليم الله لنا حاصل مع التقوى وعدمها)."2"
"تفسير ابن عثيمين"-البقرة3/41


6- أن الصواب عكس ما قالوه(فكأن الثاني سبب في الأول).
راجعه في"الموافقات"4/262 فإنه دقيق


7- إن أكثر المفسرين لم يشيروا إلى هذا الاستدلال.

-بل قال ابن جرير في تفسيره-بعد أن حمل الآية على ظاهرها اللغوي والمعنوي-:
(وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل[أي:المفسرون]).5/120

-بل إنك لاتكاد تجد مفسري السلف يتعرضون لتفسير هاتين الجملتين؛لوضوح معناهما،ومن فسرهما حملهما على ظاهرهما الواضح دون الإشارة إلى استدلال المتأخرين هذا.

-وقل مثل ذلك في تفاسير أئمة اللغة؛كالفراء وأبي عبيدة والزجاج والأخفش والنحاس والفارسي.

-والتفاسير البلاغية؛كالكشاف.

-والتفاسير التي تعنى بالدقائق؛ كالكرجي والمجاشعي.

-والتفاسير الإشارية القديمة؛كالحقائق.



8- (من أين تعرف التقوى ؟
وهل تعرف إلا بالعلم ؟!).
"البحرالمحيط"لأبي حيان

-(والأدلة على هذا المعنى[أي:أن العلم قبل العمل] كثيرة، وهي قضية لانزاع فيها)."الموافقات"




- ثلاثة تنبيهات مهمة:


- التنبيه الأول:
إن رد الاستدلال المذكور بآية الدين لايعني رد المستدل له مطلقا.

ولذلك قال ابن جزي-بعد أن ذكر قول من قال بأن الآية دلت على ترتب العلم على التقوى-:(وهذا المعنى صحيح،ولكن لفظ الآية لايعطيه)."التسهيل" 1/132


ومما صحح بعض المحققين الاستدلال به لهذا المعنى: قوله تعالى:{إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا}. ونحوها من الآيات.

لكن الاستدلال بهذه الآية الأخيرة ونحوها إنما يصح إذا خصصناها بمن يجتهد في تحصيل العلم=فييسر الله له سبيله،ويفتح له أبوابا أخرى منه، أو نقول:إن الاجتهاد في تحصيل العلم من التقوى المأمور بها.

لأنه لايمكن بحال أن يستدل بمثل هذه الآيات على حصول العلم دون الاجتهاد في طلبه، إذن لكان أولى الناس بذلك موسى عليه السلام، وغيره من الرسل عليهم السلام.


ولذلك قال ابن رشد:(لسنا ننكر أن تكون إماتة الشهوات شرطا في صحة النظر[=الفكر]، مثلما تكون الصحة[=من الأمراض] شرطا في صحة النظر[=بالعين]...لا أنها كافية بنفسها)."مناهج الأدلة"149


وقد عبر شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا بتعبير دقيق في"درء التعارض"9/131
حيث ذكر أن العمل(معين) على العلم، كما أن العلم(معين) على العمل، وعلى علم آخر.

فتأمل دقة تعبيره رحمه الله=(معين).



- التنبيه الثاني:
من العلماء من استدل بهذه الآية على وجود(تلازم) بين زيادة التقوى وزيادة العلم.

*فبعضهم استدل بدلالة الاقتران."3"
[انظر:تيسير التحرير2/99]


*وبعضهم استدل بأن في عطف إحدى الجملتين على الأخرى(إيماء) لوجود ذلك التلازم.
[انظر:التحرير والتنوير لابن عاشور3/118]

وهناك فرق بين القول بالتلازم والقول بترتب أحدهما على الآخر.



- التنبيه الثالث:
قد جاء هذا التأويل الذي نبهنا هنا على خطئه عن بعض العلماء.

ولكن هؤلاء لم يبحثوا هذا التأويل بحث تحرير، وإنما يذكرونه مختصرا، خلافا لبعض أصحاب القول الأول الذين ناقشوا واستدلوا.

ثم إن القائلين بالقول الأول يفوقون أصحاب القول الثاني في التحقيق جملة، وفاقوهم-كما ترى هنا- في تحقيق هذه المسألة خاصة.

ولذلك سبق أن الزركشي ذكر أن أصحاب القول الأول هم(المحققون).

وسبق أن الشاطبي ذكر أنه قول(الأئمة).

وسبق أن ابن تيمية ذكر أنه قول الأكثر.

وسبق أنه لايعرف في كتب التفسير المتقدمة أصل لهذا الاستنباط الذي استنبطه بعض المتأخرين.


والله أعلم والحمدلله


-------------------------------
"1" وقد جمعت العشرات منهم من غير المعاصرين من المفسرين وغيرهم، وأقدم من وجدته قرره أبوطالب الصوفي في"القوت"1/203، وهو مبني على أصل عند الصوفية، ولذلك يكررون تقريره، خاصة غلاتهم كابن عربي الحاتمي[انظر-مثلا- الباب الذي في فتوحاته في4/191].

"2"ولذلك ذكر الشاطبي أن معنى الآية:(إن الله يعلمكم على كل حال فاتقوه)."الموافقات"

"3" والجمهور-خلافا للحنفية- يضعفون دلالة الاقتران إذا كانت كل واحدة من الجملتين المتعاطفتين تامتين.[وانظر:البحر المحيط للزركشي8/110 وكشف الأسرار للبخاري2/261]
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك