توحيد الإلهية
إبراهيم شعبان يوسف
الإله: هو المعبود بحقٍّ، ولا يستحق العبادةَ بحق سواه، وهذا القسم من التوحيد هو الذي من أجله جاءت الرسلُ وأُنزلت الكتب، ومن أجله قسم الناس إلى فريقين: فريقٍ في الجنة وفريق في السعير، ومن أجله سمِّي الموحِّد والمشرك، ومن أجله كانت الحروبُ، ومن أجله كانت العداوةُ بين الرجل وزوجِه، والولد وأبيه، والأخ وأخيه، ومن أجله كانت الهجرةُ المتكررةُ إلى أرض الله في شتَّى العصور.
وما أكثر آيات القرآن الكريم، التي تدعو إلى توحيد الإلهية، وأجمعُ آيةٍ في هذا الباب هي قولُه تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، أمعِن النظر فيها جيدًا، وأَعمل العقل فيها مليًّا، تجد أنها خُتمت بهدفِ العبادة، نعم، العبادة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ في كلِّ ناحيةٍ من نواحيها.
قال تعالى: ﴿ لِيَعْبُدُونِ ﴾ ولم يقل: "ليعرفونِ"؛ إذ إنهم قد يعرفونَه ولا يعبدونه، وعلى هذا النحو كانت دعوةُ القرآن للناس جميعًا هي عبادة الله والإخلاص له؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21]، فلو أنَّ توحيدَ الرُّبوبية كافٍ عن توحيد الإلهية، لما كان هناك داعٍ لإرسال الرسل وإنزالِ الكتب، وما كانت هناك حاجةٌ إلى قيام الملاحِم والمساجلات الكلاميَّة والفعلية بين الرسل وأقوامِهم؛ مما أدَّى إلى قتلِ البعض أو تكذيبِهم ورجمِهم وإخراجِهم من أحبِّ البلاد إليهم.
بل وما كان هناك داعٍ إلى تجميع الجموعِ وتجيِيش الجيوش للحروب السافِرة، وإراقةِ الدماء الطاهرة من المرسلين وأتباعهم.
ومع علمنا بأن الرسولَ نوحًا عليه السلام مَثلٌ أعلى في نواحي البرِّ والمعروف، وكذلك الرسلُ جميعًا؛ حيث اصطفاهم اللهُ واختارهم من أرقَى العناصر في أقوامهم، نجد أن قومَه يقولون له بعد أن ظلَّ يدعوهم إلى توحيد الله ألفَ سنةٍ إلا خمسين عامًا: ﴿ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ﴾ [الشعراء: 116]، مع أنهم كانوا يعرفون أن الخالقَ والرازق والمالك للأمور كلِّها هو اللهُ تعالى، ولكنهم عبدوا غيرَه بدعائِهم لموتَى من صالحي سلفهم، كما قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴾ [نوح: 23]، كذا قال قوم لوط له عليه السلام: ﴿ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ﴾ [الشعراء: 167]، وهذا هو نبيُّنا محمد عليه السلام؛ حيث اجتمع المشركون في دار ندوتهم، للنَّيل منه صلى الله عليه وسلم، ولولا رعاية الله له وعصمتُه إيَّاه، لكان لهم ما أرادوا، واقرأ قولَ الحق تبارك وتعالى، وهو يكشف ما تنطوي عليه قلوبُ المشركين: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
فلو أن إقرارَهم بأن مُخرج الحيِّ من الميت ومخرج الميت من الحيِّ هو اللهُ، دون إخلاص العبادة له - ينفعُهم، لَما سمَّاهم اللهُ مشركين كفارًا، ولما كانَت العداوةُ المذكورة، ولو كان النطقُ بالشهادتين كفيلاً وحده بالمحبة والإخاء، لكان أبو لهب وأمثالُه من أسرع الناس نطقًا بهما، ولا داعي لما حدث بينهم وبين الرسولِ والمسلمين من إِحَنٍ وضغائن، والقرآنُ شاهد صدقٍ، والتاريخ دليلٌ على ذلك.
ولكنَّ أبا جهل وأضرابَه يفهمون تمامًا أن النطقَ بالشهادتين حائلٌ بينهم وبين أهوائهم وأمزِجَتهم، ومبادئهم وعقائدهم، ونَذرهم وذبحهم، ومن تقديم القرابين لمعبوداتهم اللات والعزَّى ومناة الثالثة الأخرى.
نعم، حائلٌ بينهم وبين الخمرِ والميسر والأنصاب والأزلام، وغيرِ ذلك مما جاء الإسلامُ يحرِّمه ويبتره، وحينما أدركوا بعمقٍ أنَّه لا طاقة لهم على محاربة طِباعهم؛ بتركِ هذا وطرحِه وراءهم ظِهريًّا ودَبْرَ آذانهم، نَكصوا عن النطقِ بالرُّكن الأول من الإسلام، وأوقدوا نارَ الحرب بينهم وبين الداعِين إليه، فقتلوا الأبرياء، وسفكوا أزكى الدماء، وتحمَّل المسلمون في سبيل الحفاظ على عقيدتِهم أشدَّ اللأواء، فلَيْتَ مسلمي اليوم يُدركون وينصفون أنفسَهم بالاتباع الحقِّ لدينهم العظيم.
وهذا هو مفهومُ حديث الرسول عليه السلام: ((أُمرت أن أقاتل الناسَ حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءَهم وأموالَهم، إلا بحقِّ الإسلام، وحسابُهم على الله))، انظروا وأمعِنوا في قول الرسول عليه السلام: ((إلا بحق الإسلام)).
أليس من حق الإسلام أن يُعبد الله وحده؟ أليس من حقِّ الإسلام تركُ الذبح والنذر لغير الله؟ أليس من حق الإسلام هجرُ الخمر والميسر وعقوقِ الوالدين؟ أليس من حقِّ الإسلام تركُ الطوافِ بالقبور وتقبيلِ أعتاب الموتى والاكتحال بتراب مَشاهدهم؟ أليس من حق الإسلام الحلفُ بالله دون سِواه؟ أليس من حق الإسلام إيمانٌ عميق بكل آيات القرآن الكريم محكمه ومتشابهه، على المعنى المراد منه دون حاجةٍ إلى تأويلِ المحرِّفين، وزيغِ المعطِّلين؟ أليس من حق الإسلام اتباعُ الرسول عليه السلام فيما ثبتَ عنه دِينًا، وحبُّه دونَ إحلالِه مَنزلةً لم يُنزله اللهُ إياها؟ أليس من حق الإسلام إيمانٌ بالله وبما وصف به نفسَه في كتابه أو على لسان رسولِه صلى الله عليه وسلم، دون حاجة إلى إلحادٍ أو امتِعاضٍ أو تأويلٍ أو تعطيل بحُجَّة التَّنزيه؛ إذ ليس فيما قاله اللهُ ورسوله تشبيه؟
نعم، وهذه بعض حقوق الإسلام، واللهَ أرجو أن يوفِّقنا إلى القيام بالحقوق كلِّها.
وإلا فلماذا حارب أبو بكرٍ مانعي الزَّكاة من أهل اليمامة، وسمَّاهم التاريخُ مرتدِّين عن الإسلام، بينما كانوا ينطقون بالشهادتين ويقيمون الصلاة؟
نفهمُ من هذا أن النطق بالركن الأوَّل من أركان الإسلامِ فقط غيرُ كافٍ في توحيد الإلهية.
وإلى لقاء آخرَ، واللهُ المستعان
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك