وانتصرت غزة

[منتدى فرسان الحق]

وانتصرت غزة








د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم







بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله خير الناصرين، وقاصم الظالمين، ديان يوم الدين، ومحصي الخلق أجمعين، رب العالمين، جابر المنكسرين، ولي المستضعفين. وأشهد ألا إلا الله الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:
فاتقوا الله - أيها المؤمنون -، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ.. ﴾ [البقرة: 278].

معشر المؤمنين!
من أحلك الظروف وأشد الأزمات التي تُمْنَى بها الشعوب المسلمة، ويمتحن بها خبرها حالُ الاحتلال والاستضعاف والاستهانة، سيما إن زامن ذلك إسلامُ القريب وخذلانُه وتجهّمُ البعيد وعدوانُه.
تجرعتُ مرَّ الأذى باحتلالٍ
وحقدِ عداة وتركِ كفاحِ

فليس عذابُ العداة عنائي
ولكنْ عنائيَ خذلانُ صاحِ



ويزداد البلاء ألماً إن كان المحتلُ المستبدُ مضروباً من الله - جل وعلا - بالذلة والمسكنة؛ فهو أجبن من سار على الأرض، وأحرص الخليقة على حياة. ويبلغ الأمر غاية الأسى أن كان احتلال أولئك للمسجد الأقصى المبارك مسرى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وأولى القبلتين ومهاجر الأنبياء. إزاء هذا القدر الأليم تبرز إرادة الله التي لا تُغلب بتمكين المستضعفين وجعلِهم أئمة يرثون الأرض ويُرُون الطغاةَ منهم ما كانوا يحذرون، فليس ذلك الاستضعاف عذراً للخنوع والوهن: ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [القصص:5-6].

امتحان بأمدٍ يصنع قادة الفتح وشداة العز إنْ هم أخذوا بطريقه الذي رسمه الجبار – جل وعز -؛ الذي من حاد عنه حاد عن العز وباء بالذل والخيبة. روى ابن أبي شيبة والحاكم: أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ أَتَتْهُ الْجُنُودُ وَعَلَيْهِ إِزَارٌ وَخُفَّانِ وَعِمَامَةٌ وَأَخَذَ بِرَأْسِ بَعِيرِهِ يَخُوضُ الْمَاءَ، فَقَالُوا لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَلْقَاكَ الْجُنُودُ وَبِطَارِقَةِ الشَّامِ وَأَنْتَ عَلَى هَذَا الْحَالِ؟! قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: "إِنَّا قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، فَلَنْ نَلْتَمِسُ الْعِزَّ بِغَيْرِهِ"، ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [فاطر: 10]، ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: 8].

أيها الإخوة في الله!
لما تقرر طريق العز لإخوتنا في فلسطين واستبانت لهم معالمه بعد عقود التيه واستجداء السلام الذليل مع العدو على موائد المفاوضات التي ما زادته إلا طغياناً وعناداً - لما تقرر ذلك وضعوا القضية في إطارها الشرعي الصحيح، وطلبوا حلَّها بشرع الله القائل: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج:39-41]؛ فكان احتلال عدوهم أرضَهم اعتداءً وللمقدسات انتهاكاً، وبات الجهادُ السبيلَ الأوحدَ في حفظ تلك المقدسات وطرد العدو ورد المظالم واستعادة الكرامة؛ وهاهم الأشاوس صُعُداً في سماء العز الأشم بتوحيدهم وتعلقهم بالله وصبرهم وثباتهم وتضحيتهم وائتلاف كلمتهم وإعدادهم القوة حسب استطاعتهم. وها هو النصر من الله يتنزل نصراً بعد نصر وأنوف الألدّاء تُرغمُ على جنادل غزة المحاصرة منذ سنين وصواريخها المصنعة بأيدي مجاهديها الضاربةِ العمقَ الصهيوني؛ مما غدت به العاصمة أشباحاً لا يُسمع فيها إلا دويُّ صافرات الإنذار وبكاءُ الهلع وجَمْحُ العَدْوِ باتجاه المخابئ والملاجئ، في مشهد عادل يُرد فيه الاعتداء بمثله - والبادئ أظلم -؛ فقرّت بذلك عيون المؤمنين، وشفى الله به شيئاً مما في صدورهم، ورأوا ثمرةً للقيام بأمر الله وعزة من قام به، ولم يستطع العدو تحقيق أهدافه الجوية في حرب استعد لها طويلاً ولم تدم إلا ثمانية أيام! فضلاً عن الاجتياح البري الذي توعّد به، وانقلب الحال في استجداء السلام الذي دام عقوداً إلى ضد ما كان؛ فأصبح المحتل هو الذي يطلبه، والمعتدى عليه هو من يملي شروطه.

أيها المؤمنون!
إن معركة غزة الأخيرة أفصحت - وبجلاء - من هم أهل القضية الحقيقيون، وفضحت كلَّ متدرع بالقضية الفلسطينية لأغراض مشبوهة فلم يسمع لهم صوت استنكار أو إدانة، وأحدثت خلخلة في ميزان القوى، وأبرزت طغام النفاق الباكين على ثخن العدو الصامتين على جرائمه، وكانت درساً عملياً لفقه النصر في زمن الاستضعاف والخذلان، وغدت فألاً عريضاً في أمل تحرير المسجد الأقصى المنشود واسترداد التركة العمرية على أيدي أحفاد صلاح الدين، وتطهيرها من رجس إخوة القردة والخنازير. إن فلسطين وديعة محمد - صلى الله عليه وسلم - عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون. يقول الشيخ عبد العزيز بنباز - رحمه الله -: "القضية الفلسطينية قضية إسلامية أولاً وأخيراً، ولكنأعداء الإسلام بذلوا جهوداً جبارة لإبعادها عن الخط الإسلامي، وإفهامالمسلمين من غير العرب: أنها قضية عربية لا شأن لغير العرب بها، ويبدو أنهمنجحوا إلى حدٍّ ما في ذلك؛ ولذا فإنني أرى أنه لا يمكن الوصول إلى حل لتلكالقضية إلا باعتبار القضية إسلامية، وبالتكاتف بين المسلمين لإنقاذها، وجهاد اليهود جهاداً إسلامياً حتى تعود الأرض إلى أهلها، وحتى يعود شذاذاليهود إلى بلادهم التي جاءوا منها، ويبقى اليهود الأصليون في بلادهم تحتحكم الإسلام، لا حكماً شيوعياً ولا علمانياً، وبذلك ينتصر الحق، ويخذلالباطل، ويعود أهل الأرض إلى أرضهم على حكم الإسلام لا على حكم غيره".

بارك الله..

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

وبعد، فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله..

أيها المسلمون!
لعل من حسن الفأل أن يكون نصر غزة قريناً لتأريخ نصر الله لنبيه موسى - عليه السلام - وبني إسرائيل وإهلاك فرعون وقومه: هذا اليوم المبارك العاشر من شهر الله المحرم؛ فقد روى البخاري في صحيحه أن النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المَدِينَةَ فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: "مَا هَذَا؟"، قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: "فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ"، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِه. وبيّن أن بصيامه تكفير صغائر عام كامل، فقال: "صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَه" رواه مسلم. وحرص على مخالفة صيام اليهود بصيام يوم التاسع أو الحادي عشر مع اليوم العاشر.

ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك