النصر والهزيمة بين العوامل الذاتية والعوامل الغيبية
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي
تفسير سورة الأنفال (الحلقة السابعة)
النصر والهزيمة بين العوامل الذاتية والعوامل الغيبية
قال الله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 41 - 52].
إن البخل خصيصة النفوس الضعيفة، والذي يبخل بماله في سبيل الله لا يجود برُوحه ولو ادَّعى؛ قال تعالى: ﴿ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ﴾ [النساء: 128]؛ لذلك شجبه الوحي الكريم في المرحلة المكية بقوله تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ﴾ [الهمزة: 1 - 4]، وقَرَنَه بالكفر؛ بقوله عز وجل: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾ [الماعون: 1 - 3]، وحض على الإنفاق في سياقات كثيرة من القرآن؛ منها قوله عز وجل: ﴿ وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [التغابن: 16]، وكان من سجاياه صلى الله عليه وسلم أن يبادر بالعطاء والبذل، ولو كان به خصاصة، وقد أهدت إليه امرأة شملةً[1] منسوجة، فقالت: ((يا رسول الله، أكسوك هذه، فأخذها عليه الصلاة والسلام محتاجًا إليها ولبِسها، فرآها عليه رجل من الصحابة، فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذه؛ فاكسُنِيها! فقال: نعم، وأعطاه إياها، فقيل له: ما أحسنت حين رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجًا إليها، ثم سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يُسأَل شيئًا فيمنعه، فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلي أُكفَّن فيها))، وبلغ من الحث على البذل أنْ رَبَطَ الله مناجاة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدقة؛ فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المجادلة: 12]، ثم لما شقَّ عليهم تقديم الصدقة؛ وُضعت عنهم بقوله تعالى: ﴿ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المجادلة: 13].
لذلك جعل الله تعالى أولَ مغانم الأنصار والمهاجرين في بدر فرصةً لتدريبهم على الإنفاق والبذل في سبيل الله، وجعل ذلك فريضة لا مندوحة عنها؛ قهرًا لوازع الحرص في نفوسهم، وحماية لحقوق المستضعفين في أموالهم، وكانت بذلك آيات سورة الأنفال مدرسة متكاملة المنهج، متسقة التربية، لا تذر صغيرة ولا كبيرة من دقائق التنشئة المتينة، والبناء المتماسك، والإعداد السليم، إلا راعتْهُ بالتدرج الحكيم توجيهًا وتقويمًا وعلاجًا للحالات الاجتماعية الطارئة والمتوقعة، عتابًا مرة، أو تحذيرًا وتخويفًا من عاقبة مرة، أو استكمالًا لأحكام شرعية تقتضي الحكمة الاستدراجَ في تفهيمها، والتدريب عليها والعمل بها، تبدو هذه الظاهرة في التربية والتعليم والتنشئة من أول آية بالسورة؛ في قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [الأنفال: 1]، وقد نزلت لعلاج ما كان بين المجاهدين في بدر من الخلاف والتنافس على الغنائم بعد النصر؛ مما كشف كوامنَ مِنَ الضعف البشري، وأوجب علاجه بحزم ووضوح وشدة؛ بقوله تعالى لهم: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 1].
لقد لاحظ الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل بتوجيه من ربه هذه الذبذباتِ التي تنبعث في النفس البشرية عند نيل المكاسب، أو عند اقتسامها والتنافس عليها، أو الحث على بذلها، ومهَّد لعلاجها؛ إذ بعث عليه الصلاة والسلام عبدالله بن جحش على رأس سرية من المهاجرين إلى وادي نخلة بين مكة والطائف، قبل بدر بشهرين، في رجب من السنة الثانية للهجرة، وكتب له كتابًا؛ قال له فيه: ((إذا سرتَ يومين، فانشره فانظر فيه، ثم امضِ لأمري الذي أمرتك به))، وكلفه بأن يخمس ما يغنَم، فيخص الرسول صلى الله عليه وسلم وقرابته واليتامى وابن السبيل بالخمس، ويقسم الأخماس الأربعة الباقية بين أفراد السرية ففعل، ثم في بدر، وقد اختصم المقاتلون حول الغنائم، فأصلح ذات بينهم وخمَّسها، وثبت في الحالين سُنته صلى الله عليه وسلم القولية والعملية والتقريرية، ثم في الآية الواحدة والأربعين من نفس سورة الأنفال، كرَّس الحق تعالى تشريع التخميس قرآنًا يُتلى بقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ... ﴾ [الأنفال: 41].
إن الأصل في استعمال كلمة "غنِم" عند العرب يعود إلى إصابة الغنم من العدو، ثم اتسع لوضع اليد على أي شيء لم يُملَك من قبل، ومنه قولهم: "غناماك أن تفعل كذا"؛ أي: غنمك وفائدتك من الشيء، أو غايتك وهدفك وما ترجوه، والغنيمة لغة: هي ما يكسبه الرجل بسعيٍ؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((الصوم في الشتاء الغنيمةُ الباردة))، ومنه قاعدة "الغُنم بالغُرم"؛ أي: إن من ينتفع من الشيء يتحمل تكاليفه وضرره، ثم اختص من حيث كونه مصطلحًا قرآنيًّا بما أُخِذ قهرًا وغلبة من المشركين في الجهاد، و"أنَّ" في قوله تعالى: ﴿ أَنَّمَا ﴾ للتوكيد والنصب، كُتبت متصلة باسمها "ما" الموصولة، بمعنى الذي؛ أي: واعلموا أن الذي غنمتم ﴿ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنفال: 41]، قليلًا كان أو كثيرًا، ﴿ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ﴾ [الأنفال: 41]، جملة اسمية من أنَّ واسمها وخبرها في محل رفع خبر، أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41]؛ أي: فإن خمسه ليس لكم، ولكنه لله سبحانه، يقسمه رسوله صلى الله عليه وسلم بين من خُصُّوا به في هذه الآية الكريمة، وهم من عيَّنهم تعالى بقوله: ﴿ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ﴾ [الأنفال: 41]، خصهم تعالى بنصيب من الخمس؛ سدًّا لحاجة الرسول صلى الله عليه وسلم وحاجة أقاربه؛ لانشغاله عن الكسب وتفرغه لقيادة الأمة والجهاد في سبيل الله، مستعينًا بمن أسلم من أقاربه في أول أمره، وأولهم أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، لا سيما وقد أمر حين استرسل الوحي بدعوتهم وتجنيدهم للإسلام؛ بقوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، فكان بنو هاشم[2] وبنو المطلب[3] أصلبَ الدعائم لمسيرته، وأثْبَتَ العمد وأقوى الحماة لها، دون بني عبدشمس وبني نوفل، وعندما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تمييز بني هاشم وبني المطلب بهذا النصيب؛ قال فيما رُوي عن عثمان بن عفان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما: ((إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام))[4]، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان بنو هاشم وبنو المطلب أيضًا أول المضطهدين المستضعفين في فجر الدعوة النبوية؛ إذ تعاقد مشركو قريش على ألَّا يناكحوهم، ولا يكلموهم، ولا يجالسوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها في سقف الكعبة، وحاصروهم في شِعْبِ أبي طالب، من أسلم منهم ومن لم يسلم، باستثناء أبي جهل الذي انحاز إلى مشركي قريش، ودام الحصار ثلاث سنوات، من أول المحرم سنة سبع للبعثة النبوية، ضُيِّق عليهم أثناءها في الطعام والشراب، والكلأ والأمن، وكان منهم في صدر الدعوة الأولون من الشهداء؛ عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب، وحمزة بن عبدالمطلب، وجعفر بن أبي طالب، وغيرهم ممن خلد التاريخ ذكرهم، وعطَّرت الصحائفَ أسماؤهم.
ثم ضم الحق تعالى إليهم غيرهم من مستضعفي الأمة، فجعل لهم في هذا الخمس نصيبًا؛ بقوله عز وجل: ﴿ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ [الأنفال: 41]؛ سدًّا لحاجتهم، وصونًا لكرامتهم، لا ينازَعون فيه، ولا ينكره عليهم منكر، أو يجادلهم فيه مجادل؛ كيلا تكون أموال الأمة دولة بين أغنيائها وأولي السلطة فيها، فكان بذلك تقسيم خمس الغنائم بين كل هؤلاء سنةً قولية تقريرية عملية، وفريضة قرآنية، يزيدها قوة ورسوخًا ومصداقية كونها أول تشريع قرآني اقتصادي مدني رسمي، يُناط تنفيذه بالسلطة المركزية للدولة الممثَّلة حينئذٍ في الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيمن تختاره الأمة بعده لقيادتها في كل عصر، وأول إجراء اجتماعي عملي صِيغ وجوبه واضحًا ومؤكدًا ومعلقًا بالعلم اليقيني للمكلفين، شهادة وإشهادًا وامتثالًا بقوله تعالى في أول الآية: ﴿ وَاعْلَمُوا ﴾ [الأنفال: 41]، من "علم" الأمر إذا عرفه، وأيقن به وصدَّقه، وأدركه إدراكًا عقليًّا لا ينكره إلا جاهل أو متجاهل أو معاند، وتبقى أربعة أخماس الغنيمة أمرها للمقاتلين يقتسمونها فيما بينهم، وذلك هو الحكم أيضًا في مداخيل دولة الإسلام مطلقًا، سواء كانت غنائم حرب كما في غزوة بدر، أو ما أخذ بغير قتال؛ وهو الفيء؛ في قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ﴾ [الحشر: 6]، وقوله عز وجل: ﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾ [الحشر: 7]، أو ما استُخرِج من باطن الأرض ركازًا[5] كان أو كنوزًا أو دفائنَ، معادن صلبةً كالذهب والفضة، وسائلةً كالبترول والغاز، يحتفظ بيت مال المسلمين بأربعة أخماسه، ويُوزَّع الخمس بين محاويج الأمة، على خلاف بين فقهاء المذاهب في ذلك، لا يقتضي التفسير الإطالة به، ويُرجَع فيه إلى كتب الفروع.
ثم أكَّد تعالى هذا الحكم، فرَبَطَ ضمان الوفاء به، ودقة الامتثال له حاضرًا ومستقبلًا بإيمان المخاطبين من الأنصار والمهاجرين المشاركين في معركة بدر، ومن يأتي بعدهم من المؤمنين إلى يوم القيامة؛ فقال عز وجل: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ ﴾ [الأنفال: 41]؛ أي: إن كنتم صادقين في إيمانكم بالله، وقد أعلنتموه، وبايعتم عليه رسوله صلى الله عليه وسلم[6]، ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾ [الأنفال: 41]، شاهدين مصدقين بما أنزلناه من القرآن على عبدالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ﴿ يَوْمَ الْفُرْقَانِ ﴾ [الأنفال: 41]، يوم تميز الحق عن الباطل، بنصركم وإذلال عدوكم بين أيديكم، واتضاح معالم أهل الإيمان والإحسان، ونقائص أهل الكفر والعصيان، ﴿ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ﴾ [الأنفال: 41]، يوم اشتبك جيش المسلمين المنتصر على قلة عدده، مع جيش المشركين المعتز بكثرته وقوة عتاده، ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنفال: 41]، بقدرته ينصر المؤمن الضعيف على ضعفه، ويهزم القوي على قوته، فعَّال لِما يريد سبحانه، تدبيره حكيم يراه المستبصرون، ويعمى عنه المستكبرون.
ثم استثارة لذاكرتهم وشحذًا لتجربتهم، وإعدادًا لمجابهة ما يعده المشركون لهم؛ خاطبهم الحق تعالى بقوله: ﴿ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا ﴾ [الأنفال: 42]، والعدوة الدنيا أو القربى هي شفير وادي بدر الأقرب من جهة المدينة، قرأها ابن كثير وأبو عمرو بكسر العين، وقرأها الباقون بضمها؛ أي: فاذكروا وتدبروا ما عشتموه من أحداث في يوم بدر، وكيف نصركم الله على عدوكم، وجمعكم قليلٌ، وعدتكم أقلُّ، وخبرتكم بالقتال - حيلةً ودهاء - ضعيفة، وأنتم مترددون إقبالًا وإدبارًا، وقد بلغ جيشكم جانب وادي بدر مما يلي المدينة، والتقيتم بجيش المشركين كأنكم معهم على موعد، ﴿ وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى ﴾ [الأنفال: 42]، والعدوة القصوى هي شفير الوادي الأبعد من المدينة؛ أي: وجيش المشركين في الضفة المقابلة لكم مما يلي مكة، ﴿ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ﴾ [الأنفال: 42]، وحرف الواو في الآية للحال، و"الركب" هو العير مبتدأ، وظرف المكان بعده "أسفل" واقع موقع الخبر؛ أي: أسفل من وادي بدر الذي يعسكر فيه المسلمون، وقد فرَّ إليه أبو سفيان بتجارة قريش، وأبعد فبلغ ساحل البحر الأحمر الأسفل من وادي بدر، ﴿ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ﴾ [الأنفال: 42]، بل لو كنتم قد اتفقتم من قبل على اللقاء في هذا الموقع، وفي هذا الوقت، لَما التقيتم؛ نظرًا لشساعة الصحراء، واتساع متاهاتها، واختلاف تضاريسها، وتقلباتها الجوية، ﴿ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ﴾ [الأنفال: 42]، ولكنكم التقيتم بتقدير قدَّره الله؛ لينجز ما حكم به وأراده من نصر لكم، وهزيمة لأعدائكم، ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ [الأنفال: 42]؛ أي: ليقتل مَن قتل مِنَ المشركين، وهو على بينة من ضلاله ومصيره، ﴿ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ [الأنفال: 42]، والفعل الماضي "حَيَّ" بياء مدغمة من "حيي يحيى حياةً"، قرأها ابن كثير برواية القواس، وابن عامر وحفص، عن عاصم والكسائي بياء مشددة على الإدغام ﴿ حَيَّ ﴾ [الأنفال: 42]، وقرأها نافع وأبو بكر عن عاصم، والبزي عن ابن كثير، ونصير عن الكسائي: "حيي" بإظهار الياءين؛ أي: ليرى من بقِيَ حيًّا حكمة الله في نصرة المؤمنين على ضعفهم، وانكسار المشركين على قوتهم، فيزداد المؤمنون إيمانًا وثباتًا وثقة بوعد ربهم، ويزداد المشركون انتكاسًا وحزنًا، وغمًّا ويأسًا،﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 42]، يسمع تضرعكم ودعاءكم، فيستجيب لكم، ويعلم ضعفكم، فيقويكم وينصركم.
ثم بيَّن تعالى لهم حكمته وحسن تدبيره في استدراجهم إلى النصر؛ فقال عز وجل: ﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ﴾ [الأنفال: 43]؛ أي: واذكر حين رأيت في منامك جيش المشركين قليلَ العدد، فأوَّلتَها ضعفهم وانتصارك عليهم، وأخبرت المسلمين بذلك، فارتفعت معنوياتهم، وانتفت مخاوفهم، وغاب ترددهم، واعتقدوا أن عدد المشركين حقًّا قليل؛ حتى قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "لقد قلت لجار لي: أظنهم سبعين، فقال: لا بل مائة"، ﴿ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [الأنفال: 43]، ولو رأيت في منامك أن عددهم كثير، وأخبرت جنودك، لوهَّنهم الوهن، وضعُفوا وترددوا، وتنازعوا وانهزموا، ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ﴾ [الأنفال: 43]، سلمكم من الوهن والاختلاف، والتنازع والفشل، ﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الأنفال: 43]، يعلم ما في نفوسكم من القدرة على التحمل، وما في قلوبكم من المناعة ضد نوازع الاختلاف والجزع والقابلية للفتن، فحماكم ونجاكم من شر ذلك كله، ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا ﴾ [الأنفال: 44]، وكذلك حين قللهم الله في أعينكم عند اللقاء، والاشتباك في الحرب؛ لتزدادوا حماسة وجراءة عليهم، ﴿ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ﴾ [الأنفال: 44]، وكذلك حين أظهركم في أعينهم أول ما رأوكم قليلًا عددكم، فاستهانوا بقوتكم، واغتروا بقوتهم؛ حتى قال أبو جهل: "إنما أصحاب محمد أكلة جزور"، فخفَّت شرتهم، واستهانوا بقوتكم، فلما التحم الجيشان، وتدخل الملائكة، واستحرَّ القتل فيهم، غشِيَهم الهلع والرعب، وأُلقِيَ في رُوعِهم أن جيش المسلمين ضعف عدد جيشهم فانهاروا، وهو ما اعترف به أبو سفيان عند عودته إلى مكة منهزمًا من بدر، فسأله أبو لهب: "يا بن أخي، كيف كان أمر الناس؟ فقال: لا شيء، والله ما هو إلا أن لقيناهم، فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا، ويأسروننا كيف شاؤوا، وايم الله ما لُمْتُ الناس، قال: ولِمَ؟ فقال: رأيت رجالًا بِيضًا على خيل بُلُق، لا والله ما تليق[7] شيئًا، ولا يقوم لها شيء"، وما نزل به الوحي الكريم في قوله تعالى: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 13]، قال عبدالله بن مسعود: ((لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: نراهم سبعين، فقال: أراهم مائة، فأسرنا رجلًا منهم، فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفًا، قال مقاتل: ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن العدو قليل قبل لقاء العدو، فأخبر أصحابه بما رأى، فقالوا: رؤيا النبي حق، القوم قليل، فلما التقَوا ببدر قلَّل الله المشركين في أعين المؤمنين، وأصدق رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم)).
ثم عقب الحق تعالى تذكيرًا بحكمته وعلمه وقدرته؛ فقال: ﴿ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ﴾ [الأنفال: 44]؛ أي: إن ما وقع في بدر من أحداث ووقائعَ، وآيات وانتصارات، كان إظهارًا من الله تعالى لأمر قضاه غيبًا بنصر المؤمنين؛ كسرًا لشوكة المشركين؛ ﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [الأنفال: 44]، والحال أن أمور جميع الخلائق بيد الله يعود تدبيرها إليه، يصرفها كيف يشاء؛ خلقًا وإنشاء، وإفناء وتدبيرًا، وحركة وسكونًا، وعطاء ومنعًا.
وبعد أن ذكَّر الحق تعالى المسلمين بقسط من تدبيره المشهود لمعركة بدر؛ من إخراجهم من المدينة، والتقائهم بجيش المشركين على غير ميعاد، وجانب من تدبيره الغيبي بتقليله المسلمين في الرؤية عند العدوة الدنيا، ثم تكثيرهم عند الملحمة؛ توهينًا للمشركين، وتثبيطًا لعزائمهم، وبتقليل المشركين في عين المسلمين؛ شحذًا لحماسهم، وتشجيعًا لهم على القتال، أخذ الوحي الكريم يعدهم لمعارك المستقبل، وقد كاد أن يحدد موقعة أُحُد، وما يجب عليهم فعله، وينبغي لهم تلافيه؛ إعدادًا واستعدادًا لها ولغيرها؛ فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ﴾ [الأنفال: 45]، والفئة لغة: من فاء يفيء فيئًا، والفاء والهمزة بينهما حرف علة تدل على الرجوع إلى شيء، أو تحيز له، ومنه رجوع الظل وتحيزه أو تحوزه من جانب إلى جانب، وكل رجوع أو تحيز فَيْءٌ؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الحجرات: 9]، ومنه قيل "فئة" للجماعة أو للطائفة تتحيز لبعضها، أو لشبيهها، أو تشترك معها في صفات خاصة، أو هدف واحد، أو نهج واحد؛ كما في قوله تعالى: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]، وقوله عز وجل: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ ﴾ [آل عمران: 13]، وبه سُمِّيَ ما يُؤخَذ من العدو المحارب بدون قتال فيئًا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ﴾ [الحشر: 7]، ومنه أُطلق لفظ "الفئة" على الفرقة العسكرية المقاتلة؛ في قوله تعالى في الأنفال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً ﴾ [الأنفال: 45]؛ أي: جماعة أو فرقة من عدوكم مقاتلة تزحف نحوكم، ﴿ فَاثْبُتُوا ﴾ [الأنفال: 45]، والثبات المطلوب عند لقاء العدو أوله إيماني على التوحيد، قوامه الثقة بنصر الله، وثانيه وجداني جوهره الوفاء والمحبة لله ورسوله والمؤمنين، وثالثه نفسي دعامته العزيمة الصلبة، وقوة التصميم على تحقيق الهدف، فلا يطير القلب خوفًا أو جزعًا من مواجهة الموت، ولا تضعف الإرادة أو تتردد أو تتهيب عند الإقبال والنزال، ورابعه عقلي لا تختل معه التصرفات القتالية دقة ومهارة ومضاء في استعمال السلاح واستثماره، وقد ظهرت في جهاد الرعيل الأول من المسلمين نماذجُ فذة من الثبات الذي لا يتزعزع؛ غرة جبينهم الإمام علي كرم الله وجهه إذ قيل له: "إن درعك له صدار وليس له ظهر"؛ أي: إن درعك يحمي صدرك ولا يحمي ظهرك، فقال: "لا كنتُ إن مكَّنتُ خَصمي من ظهري".
يتبع
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك