ليالي مزمار الحرم!
مطران محمد العياشي
ما أن يهلَّ شهرُ رمضانَ المبارك بروحانيَّته ونفحاته الطيبة، حتى تعمد للذاكرة ذكرى عطرة لأشهر قُرَّاء العالم الإسلامي على الإطلاق، ذلك الصوت الشجي الجميل الذي يأخذ بالألباب، صاحب النبرة الحزينة التي تعمل في القلوب، الجَهْوري مع كل جواب، الرخيم مع كل قرار، الذي تتصدَّع لتلاوته عتياتُ الصخور، ويذوب من رقَّتِه الحديدُ قبل نياط القلوب، أعجوبة الزمان، إنه مزمار الحرم المكي، الذي بلغت شهرتُه الآفاقَ.
كان يُحيي تلك الليالي المباركات في صلاة التراويح والتهجُّد، فلا تسل عن الخشوع والسكينة والطُّمَأْنينة التي تُخيِّم على مكامن الأفئدة، جودة في التجويد، وهبة في الترتيل، وإتقان للحرف، وقوة في الحفظ، ما أن تسمع صوته منتصبًا "الله أكبر" حتى تنهمر المآقي، وتطير الجوانح إجلالًا وتأثُّرًا ومهابةً لكلام الله، ويعتريك شوقٌ عاصِفٌ، مُتلهِّفًا لهذا الصوت السماوي، الذي سيصدح خاشعًا في جنبات الحرم المكي، تردد صداه جبال مكة وبطاحها، له رونق مميز وأداء مبهر، إنه الشيخ علي عبدالله جابر رحمه الله، قدِم لهذه الدنيا وهو يتغنَّى بالقرآن، ورحل عنها وهو يُسطِّر اسمه بأحرف من نور في صفحات الخلود، وكم قرأنا قصص التائبين الذين عادوا إلى الله بسبب هذا الصوت الرقيق، الذي يجسده الشيخ غضًّا نديًّا كما أُنزِل، إنه مزمار الحرم.
نعم رحل الشيخ عنا جسدًا لكنه بقي فينا رُوحًا وذكرًا، نستلهم من إرثه القرآني عبق الدروس، كان رحمه الله مدرسةً في القرآن والتلاوة والأخلاق، ترك بصمةً فريدةً في قلوب ونفوس وعقول الناس، هيهات لعاديات الزمن أن تمحوها، لم يَسْعَ رحمه الله للإمامة بل أتت إليه وهي طائعة، وهذا هو ديدن الرجال الخالدين؛ لا يفنون بل يبعثون الحياة في أوْرِدة الزمن، دون اعتبار للتقادم والرحيل.
وإذ يعود شهر رمضان الفضيل كل عام، يتجسَّد الشيخ مع إطلالته حيًّا، كأن لم يمت، يؤم الروح والجسد إلى مسافات اليقين، يُشنِّف بترنيمه الآذان، ويرتشفه الجنان، ألا رحمة الله على من كان يتغنَّى بالقرآن.
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك