الذين يستحقون اللعنة
الشيخ عائض بن عبدالله القرني
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أما بعد أيها الناس:
سوف أتلو عليكم بعد قليل وثيقة شرعية وقائمة نبوية بأصناف الذين لعنهم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وكل أمر ورد فيه اللعن من الله تعالى أو من الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من كبائر الذنوب وعظائم الآثام؛ فنعوذ بالله من مقته وغضبه.
واللعن: هو الطرد والإبعاد من رحمة الله عزَّ وجلَّ فالملعون بعيد عن رحمة الله، بعيد عن كرم الله، بعيد عن عفو الله نسأل الله السلامة والعافية.
وهذه الأحاديث التي سوف أسردها إن شاء الله هي من الأحاديث الصحيحة أو الحسنة التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالسند المتصل، إلا في بعض الألفاظ، وسوف أنبِّه عليها إن شاء الله وتجنبتُ الروايات الضعيفة التي لم يصح إسنادها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وسوف أعود بعد سرد هذه الأحاديث، فأعقِّب بشرح موجز على بعض ألفاظها؛ تتميمًا للفائدة؛ ليسهل فهمها، وتتضح معانيها وفوائدها.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصِرَها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولةَ إليه))[1]؛ رواه أبو داود وأحمد عن ابن عمر.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الراشي والمرتشي))[2]؛ أخرجه الترمذي وأحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهدَيْه، وكاتبه: هم فيه سواء))[3]؛ رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده))[4]؛ رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله المُتشبّهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء))[5]؛ رواه البخاري وأحمد وأبو داود والترمذي.
ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسةَ المرأةِ، والمرأة تلبس لبسة الرجل[6]؛ رواه أبو داود.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الرجْلَةَ من النساء))[7]؛ رواه أبو داود.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله المحلِّلَ والمحلَّل له))[8]؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة[9].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلّجات للحسن، المغيرات خلق الله))[10]؛ رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة))[11]؛ رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله زوارات القبور))[12]؛ رواه الترمذي وابن ماجه.
وفي لفظ له صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُجَ))[13]؛ أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد، وفي الجملة الثانية ضعف، ولها شواهد تحسَّن بها[14].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله من لعن والديه، ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثًا، ولعن الله من غَيَّر منار الأرض))[15]؛ رواه مسلم والنسائي وأحمد.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله من مثَّل بالحيوان))[16]؛ رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الخامشة وجهَهَا، والشاقَّة جيبها، والداعية بالويل والثبور))[17]؛ رواه ابن ماجه، وصححه ابن حبان.
أيها المسلمون:
فلنعد إلى بعض الألفاظ التي وردت في هذه الأحاديث النبوية الشريفة، لنستجلي صفات هؤلاء الملعونين والملعونات، ولنعرف أسباب لعنهم، حتى لا نسلك سبيلهم، أو نسير في طريقهم، فمعرفة سبيل أهل الضلال هدف رئيس من أهداف القرآن الكريم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأنعام: 55]. فلا يستطيع العبد أن يسلك سبيل الحق والخير، إلا إذا عرف الشرَّ وطُرقه ومسالكه، وكان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرِّ مخافة أن يدركه[18]. فنسأل الله تعالى أن يدرأ عنا سبل غضبه ومقته ولعنته.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الخمر وشاربها))؛ فهذا وعيد شديد لكل من تعامل في الخمر، فهي من أكبر الكبائر، وهي أم الخبائث، لعن الله عزَّ وجلَّ فيها عشرة؛ لعنها أولاً، ولعن عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، ومسقاها، وآكل ثمنها[19]. ويدخل في ذلك أيضًا كل من تعامل في تجارة المخدرات، فهو ملعون أيضًا؛ لأن المخدرات مثل الخمر في إذهاب العقل، وتدمير المجتمعات وضياع الأموال، واختلاط الأنساب، وغير ذلك من الأضرار التي ترتكب بسبب الخمر والمخدرات.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الراشي والمرتشي))؛ فالراشي: هو الذي يرشو المسؤولين والموظفين، ليحصل على حقٍّ ليس له، ويصرف عن الناس حقوقهم، فمن دفع رشوة لمسؤول أو لموظف أو لعامل، ليتوصل بذلك إلى شيء ليس من حقه؛ فهو ملعون.
والمرتشي: هو الذي يأخذ الرشوة، فيأخذ مالاً ليس من كسبه، ولم يرثه عن أبيه أو أمه، ثم هو يأخذ أجرًا وراتبًا نظير القيام بعمله، فليس له الحق في أن يأخذ أموال الناس، حتى ينهي لهم معاملاتهم ومصالحهم، فهذا أيضًا ملعون بلعنة الله عزَّ وجلَّ ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وورد في رواية فيها ضعف زيادة: ((والرائش))[20] وهو الذي يسير بين الراشي والمرتشي بالواسطة، يكلم هذا ويكلم هذا؛ حتى تتم هذه الجريمة الشنعاء والفعلة النكراء، فهذا أيضًا لعنه النبي صلى الله عليه وسلم.
فالله الله.. كم للرشوة من إفساد لمجتمعاتنا، وكم عطلت من حقوق، وكم منعت من بركات، وكم أحدثت من ظلم، وكم أفسدت من ذمم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
وأما آكل الربا: فهو الذي يتعامل به، ويزاوله، وكاتبه: هو الموظف الذي يكتب عقود الربا، ويزاول العمل في مجاله. وشاهداه: هما من يوقِّع على العقود والصكوك الربوية، ولا يكون العقد ماضيًا إلا بتوقيعهما، فكل هؤلاء ملعونون على لسان محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ((لعن الله السارق يسرق البيضة)): هي بيضة الدجاجة، ولما كانت البيضة لا قطع فيها؛ كان ذلك من باب التحقير، أي: لعن الله السارق التي تقطع يده في شيء حقير، وأشياء الدنيا كلها حقيرة، فالدنيا لا تساوي عند الله عزَّ وجلَّ جناح بعوضة.
وقيل: البيضة هي التي يضعها المقاتل على رأسه، وهي شيء حقير أيضًا.
ولما اعترض أبو العلاء المعري على قطع يد السارق، وزعم أن هذا الحكم مخالف للعقل، فإن اليد في الإسلام قيمتها خمسمائة دينار، فكيف تقطع في ربع دينار، ردَّ عليه أحد علماء الإسلام قائلاً:
عِزُّ الأمانة أغلاها وأرخصها ♦♦♦ ذلُّ الخيانةِ فافْهَم حكمة الباري
فالأمانة والتقوى والخوف من الله عزَّ وجلَّ هو الذي أغلاها في الإسلام، وجعلها تستحق هذا المبلغ الكبير، والخيانة والدناءة هي التي أرخصتها، وجعلتها تُقطع في ربع دينار؛ فافهم حكمة التشريع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وأما لعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء: فإن ذلك لمحاولة هؤلاء تغيير الفطرة التي فطر الله عليها عباده، فالرجل له صفات معينة، والمرأة كذلك، فإذا مشت المرأة مشية الرجل، ولبست لبس الرجال، وتكلمت كالرجال، وزاولت أعمال الرجال، كانت ملعونة مطرودة من رحمة الله عزَّ وجلَّ لأنها بذلك تعترض على قدر الله عزَّ وجلَّ في أن جعلها أنثى، ولما في ذلك أيضًا من نشر الرذيلة، وتحريك شهوات الرجال، وانتشار الشذوذ بين الجنسين.
ويدخل في ذلك أيضًا: المغنيات والممثلات والراقصات؛ فإنهن خرجن عن الحجاب والستر، واختلطن بالرجال الأجانب، إلى غير ذلك من الأمور التي يعرفها كل إنسان، ولا داعي لأن نذكرها هاهنا.
وأما المتشبِّهون من الرجال بالنساء، فإنهم أيضًا ملعونون، وهم يسمون في الشريعة: المخنثون، ولا حظَّ لهؤلاء في رحمة الله عزَّ وجلَّ إلا أن يتوبوا من هذا الفجور، ويكونوا رجالاً كما خلقهم الله عزَّ وجلَّ.
ويدخل في ذلك أيضًا من رقّق صوته تشبهًا بالمرأة، ومن تثنَّى في مشيته كالمرأة، ومن استخدم أدوات الزينة التي تتزين بها المرأة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل)).
قال أهل العلم: لبسة الرجل، هو اللباس الخاص به في عرف الناس، ولبسة المرأة: هو اللباس الخاص بها في عرف الناس، والناس هنا هم المسلمون المؤمنون أهل التوحيد، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا اعتبار بأعراف الجاهلية، ولا تقاليد الجاهلية، وإن كان أصحاب هذه الأعراف والتقاليد ممن يتسمون بأسماء إسلامية.
فَمَنْ لبس من الرجال لبسة المرأة فهو ملعون، ومن لبست من النساء لبسة الرجل فهي ملعونة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله المحلِّل والمحلَّل له)). المحلل: هو الذي يأتي إلى الزوجة المطلقة فيتزوجها، وهي التي طلقت بثلاث، وأخذت العِدّة فلا تجوز للأول حتى ينكحها زوج آخر، كما نص على ذلك سبحانه وتعالى فيأتي هذا الرجل يتزوج هذه المرأة باتفاق مع الزوج الأول، لا لقصد أن تكون زوجه له، ولكن ليحللها للأول، فيمكث معها مدةً متفقًا عليها، ثم يطلقها ليتزوجها الأول، فيكون تيسًا مستعارًا، فهذا ملعون وذاك ملعون، وإنما يجوز أن يتزوجها بقصد أن تكون زوجة، ثم إذا بدا له أن يطلقها فيطلقها، وعندها يجوز للأول أن يتزوجها من جديد.
فَمَنْ فعل الصورة الأولى فهو ملعون بلعنة الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله النائحة)) والنائحة: التي تنوح في المأتم وتدعو بالويل والثبور، وتصيح في وقت المصائب والكوارث، فإذا مات أبوها أو أخوها أو زوجها أو ابنها رفعت صوتها وولوت وناحت، وقالت: يا فلان ابن فلان، واظهراه!! واجبلاه!! واكريماه!! واشجاعاه!! فهي ملعونة، ويدخل في ذلك المستمعة.
قال أهل العلم: هي التي تأتي بالنائحة، وتدفع لها أجرةً، وتمهد لها وتدخلها بيتها فهي ملعونة. والسر أنهم لم يرضوا بقضاء الله، وتسخطوا على حكم الله وأثاروا الهلع والجزع في عباد الله فهن ملعونات.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الواشمات والمستوشمات))؛ الواشمة: هي التي تضع الوشم في خدود النساء، والوشم كالحبر وكالصبغ الأخضر والأسود، وما يدخل في حكمه، فهي تأتي بعقاقير معها وبمخائط، وتصنع الوشم للنساء، فمن فعلت ذلك فهي ملعونة.
والمستوشمات: وهن اللواتي يُصنع الوشم لهن في خدودهن وعلى أنوفهن وتحت شفاههن، فهن ملعونات، هذا الوشم حرام، الواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة ملعونات، والنامصة: هي التي تُقلع شعر حاجبيها، وتنتف شعر حاجبيها، لتزجِّجَه وترقِّقَه، فهذه ملعونة، والمتنمصة هي التي تستدعيه وتحبذه وتفعله بنفسها، بواسطة هذه النامصة؛ فهي ملعونة أيضًا بلعنة الله، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمتفلجات: وهن اللواتي يوسعن ما بين أسنانهن، وينشرن أسنانهن، ويغيِّرن خلق الله تعالى، فإنهن ملعونات؛ لأن ذلك يدل على خبث النفس، ومحبة الفتنة، وتحريك الشهوات.
و((المغيِّرات خلقَ الله)) هن اللواتي يفعلن بأنفسهن ما يغير خلق الله. ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الواصلة والمستوصلة)).
الواصلة: هي التي تصل شعر غيرها، فوصْلُ شعر المرأة حرام، لا يكون إلا من أصل شعرها، أما الوصل بشعر خارجي فهو حرام.
والمستوصلة: التي تطلب ذلك، وتدعو ذلك، وتطلب من النساء أن يصلن شعرهن أو شعرها، فمعلونة أيضًا بلعنة الله، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه اللعنة وإن كانت خاصة بالنساء، إلا أنه والله الذي لا إله إلا هو لقد وجد من بعض الشباب الذين ضيعوا دينهم وعبثوا بأحكام شرعهم، وجهلوا لا إله إلا الله، وضيعوا أصالتهم وكرامتهم، وعزهم ونخوتهم، وُجد من هؤلاء من يوصل شعره، ويركِّب الباروكة على رأسه؛ فهو حقيقٌ باللعنة وأحقُّ بها.
وللحديث بقية في الخطبة الثانية إن شاء الله نسأل الله أن يدرأ عنا وعنكم غضبه ولعنته، ونسأله رضوانه ورحمته، وأن يفقهنا وإياكم في الدين، ويجعلنا وإياكم من الراشدين المهديين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس إلى الله أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فبقي من هذه الأصناف التي صَحَّت بلعنهم الأحاديث وحَسُنَت عن المصطفى عليه الصلاة والسلام قوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله زوَّارات القبور))؛ رواه أحمد كما أسلفنا وابن ماجه والحاكم.
ومعنى زوَّارات بصيغة المبالغة: هن اللواتي يتعهَّدن القبور بالزيارة، ويكون لهن زيارة مكثفة للقبور، فدائمًا تراهن عند القبور، وحول القبور.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن زيارة المرأة للقبور؛ لما في زيارتها من فتنة وجزع، وهلع وتسخُّط، ولأنها ضعيفة القلب، قد لا تتحمل مشاهدة الموتى فتُصرع، وكذلك فهي متعرضة للعيون الضارية التي تتبَّعها حتى عند المقابر، فمنع صلى الله عليه وسلم زيارة المرأة، ولعن من اتخذ من النساء زيارة القبر عادةً وأكثر منها، فمَنْ فعل ذلك من النساء فقد استحقت اللعنة. وفي لفظ: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو: ((لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرج)).
قال بعض أهل العلم: لا تشملهنَّ اللعنة حتى تتخذن المسجد والسرج.
ولكن أبعد للريبة، وأبعد للمعصية ألا تزور المرأة القبر بحال من الأحوال، وإذا أتت على القبر فاتخذت مسجدًا أو مصلًّى أو سراجًا أو بنت بناءً؛ فإن اللعنة تشملها وتحيط بها، لأنها ضربت بأحكام الشريعة عرض الحائط، ولأنا خالفت أمر الله عزَّ وجلَّ وأتت بكبيرة من الكبائر، واستحدثت في دين الله عزَّ وجلَّ ما يمكن أن يؤدي إلى أكبر الكبائر، وهو الشرك بالله عزَّ وجلَّ.
وقد رأينا في كثير من بلاد المسلمين؛ أنه بسبب التساهل في هذا الباب؛ أصبح الشرك أمرًا مألوفًا، فعكفت النساء على القبور، وعبدت القبور من دون الله، وصرفت لها جميع أنواع العبادة التي لا تجوز إلا لله عزَّ وجلَّ كالذبح والنذر والدعاء والاستغاثة وغير ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله من لعن والديه) فهذا أيضًا من أصناف الملعونين، ولا يفعل ذلك إلا فاجر، وقد وُجد من هذا الصنف كثير؛ بل أخبرنا كثير من الإخوة الثقات أن هناك شبابًا ضربوا أمهاتهم ضربًا مبرحًا، وقد استُدعي بعضهم إلى رجال الأمن في بعض المناطق بشكوى من أمه، ضربها سبع مرات، فلما أُوقف أمام رجال الأمن بكى، وأخذ يقبل رجلَيْ أمه، وقال: أتوب. قالت: لا والله اضربوه؛ فإنه طالما أبكاني فإذا ضُرب وبكى مرة، فقد ضربني وأبكاني مرات ومرات!!
فهذا فاجر، وهذا ملعون؛ لأن الله عزَّ وجلَّ جعل حق الوالدين عظيمًا، وقرن شكرهما بشكره، فقال: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14]. حتى ولو دعاك والدك إلى الإشراك بالله فلا تطعهما في ذلك، ولكن كما قال تعالى: ﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15].
ومن الكبائر أيضًا: أن يكون الإنسان سببًا في لعن والديه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من الكبائر شتم الرجل والديه))!! فاستغرب الصحابة ذلك، وقالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟! قال: ((نعم؛ يسبُّ أبا الرجل فيسبُّ أباه، ويسبُّ أمَّه فيسبُّ أمه))[21].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ولعن الله من ذبح لغير الله)) وهي الذبيحة الشركية، التي تذبح في النذور الشركية، وعند القبور، وعند الأصنام، وبأمر الكهنة والسحرة والمشعوذين؛ فيقولون: اذبح ذبيحةً لونها كذا، وصفتها كذا، فمن فعل ذلك وأطاعهم؛ فهو ملعون، وهذه الذبائح كثرت في هذا الزمن، خاصة في البوادي والقرى، بسبب الكهنة والسحرة والعرافين والمشعوذين أعداء الله.
فليعرف المؤمن لمن يذبح ولمن ينسك ولمن ينذر، ومن يدعو ومن يعبد، فلتكن ذبيحته لله تعالى، وليكن نسكه لله عزَّ وجلَّ وليكن نذره ودعاؤه وعبادته للواحد الأحد لا شريك له، كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162 - 163].
وقوله: ((لعن الله من آوى محدثًا)) المحدِث هو الفاجر المنتهك لحدود الله تعالى، الذي اشتهر فجوره، كالسارق الذي يسرق الناس، وكقاطع الطريق الذي يتعرض للناس، ويشهر في وجوههم السلاح، وكالبغاة الذين تمردوا على ولاة الأمور، وعلى حدود الله وشرعه، وكالمروِّج للمخدرات، وكالفاجر الذي عُرف فجوره، فمَنْ ستره وتستَّر عليه، وحاول أن يخفيه عن أعين العدالة فهو ملعون؛ لأنه فعل كبيرة، وجرح شعور المسلمين؛ ولأنه سبب في انتشار الجريمة والفاحشة في المجتمع المسلم.
((ولعن الله من غيَّر منار الأرض)) منار الأرض: هو الحدّ الذي يفصل الرجل عن الرجل، في المزارع والحقول والديار والدور، وهو يسمى في اللغة العامية - التي ليست بصحيحة - (الوثن)، ويسمى (الحدّ)، فمن غيَّره على غير ما وضع له؛ فهو ملعون. ولا يفعل ذلك إلا أولئك الذين يغتصبون أموال الناس وحقولهم وأراضيهم، ويضعون أيديهم على ما ليس لهم، فهؤلاء ملعونون بلعنة الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم نسأل الله العافية والسلامة.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله من مَثَّل بالحيوان)) أي: شَوّه الحيوان، أو قتله من غير مذبحه، كأن يقطع رجله وهو حي، أو يقطع ذيله، أو يصعقه صعقًا، أو يرميه برصاص وهو واقفٌ مربوط، وكذلك إذا قطع أذنه، أو فقأ عينه، فقد مَثَّل به، وارتكب كبيرة من الكبائر؛ فذلك ملعون بلعنة الله، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
((ولعن الله الخامشةَ وجهها))؛ في المآتم وفي المعازي، التي تخمش وجهها من الجزع والهلع، ((والشاقة جيبها))؛ في مناسبات الموت تشق ثوبها، قد تظهر عورتها أمام الناس؛ فهي أيضًا ملعونة.
وكذلك ((الداعية بالويل والثبور))؛ والداعية بالويل والثبور، هي التي تتسخَّط على القضاء والقدر، وقد سبق بيان ذلك في النائحة.
فيا عباد الله:
أخبروا أسركم بهذا، وأخبروا زوجاتكم وبناتكم وعماتكم وخالاتكم وانشروا الخير في بيوتكم.
أخبروهم بمحارم الله وحدوده، وحذروهم من انتهاك حرماته؛ لأن في انتهاك حرماته لعنة وغضبًا ومقتًا وبلاء. نسأل الله العافية والسلامة.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].
عباد الله:
صلوا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلى عليَّ صَلاة صَلى الله عَليه بِها عَشرًا))[22]. اللهم صلّ على نبيك وحبيبك محمد واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
وأظلنا مع أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
[1] أخرجه أبو داود (3/ 326) رقم (3674) وأحمد (2/ 9) من حديث ابن عمر، وصححه الحاكم (4/ 145) من حديث ابن عباس وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (5091).
[2] أخرجه الترمذي (3/ 263) رقم (1337). وأبو داود (3/ 300) رقم (3580). وابن ماجه (2/ 775) رقم (2313). والحديث قال عنه الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (5114).
[3] أخرجه مسلم (3/ 1219) رقم (1597).
[4] أخرجه البخاري (8/ 15) كتاب الحدود. ومسلم (3/ 1314) رقم (1687).
[5] أخرجه البخاري (7/ 55) كتاب اللباس. وأبو داود (4/ 60) رقم (4097) والترمذي (5/ 98) رقم (2784) وأحمد (1/ 339).
[6] أخرجه أبو داود (4/ 60) رقم (4098)، وأحمد (2/ 325) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (5095).
[7] أخرجه أبو داود (4/ 61) رقم (4099) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (5096).
[8] أخرجه أبو داود (2/ 227) رقم (2076). والترمذي (3/ 428) رقم (1120) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (1/ 622) رقم (1935) والحديث صححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (5101).
[9] أخرجه أبو داود (3/ 194) رقم (3128، وأحمد (3/ 65) والحديث ضعفه الألباني كما في الإِرواء رقم (769) وضعيف الجامع رقم (4690).
[10] أخرجه البخاري (7/ 61 - 62) كتاب اللباس. ومسلم (3/ 1678) رقم (2125).
[11] أخرجه البخاري (7/ 62) كتاب اللباس. ومسلم (3/ 1677) رقم (2124).
[12] أخرجه الترمذي (3/ 371) رقم (1056) وقال الترمذي: حسن صحيح، وابن ماجه (1/ 502) رقم (1576). وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (5109).
[13] أخرجه الترمذي (2/ 136) رقم (320) وقال: حديث حسن، والنسائي (
[14] حَسَّن هذا الحديث الترمذي وحسنه أيضًا - لشواهده - العلامة أحمد شاكر في تخريجه للترمذي (2/ 137) أما الألباني فقد قال: والواقع أن الحديث له شواهد كثرة في جملتيه الأولين، وأما (السرج) فليس لها شاهد البتة فيما علمت، ولذا لا يمكن القول بتحسين الحديث بتمامه؛ بل باستثناء (السرج). انظر الإِرواء (3/ 213).
[15] أخرجه مسلم (3/ 1567) رقم (1978). والنسائي (7/ 232) رقم (4422) وأحمد (1/ 108، 118).
[16] أخرجه البخاري (6/ 228) كتاب الصيد والذبائح.
[17] أخرجه ابن ماجه (1/ 505) رقم (1585)، وابن حبان رقم (7156) قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 521): هذا إسناد صحيح وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة رقم (2147) والأرناؤوط كما في الإحسان (7/ 428).
[18] أخرجه البخاري (8/ 93) كتاب الفتن. ومسلم (3/ 1475) رقم (1847).
[19] ورد ذلك في حديث عن أحمد في المسند (2/ 71).
[20] حديث: ((لعن الله الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما)) أخرجه أحمد (5/ 279) والحاكم (4/ 103) والطبراني في الكبير رقم (1495) والبزار رقم (1353) وفي إسناده ليث بن أبي سليم ضعيف وشيخه أبو الخطاب لا يعرف. قال الألباني: ولم يرو هذه الزيادة غير ليث بن أبي ليم كما ذكر البزار، فهي زيادة منكرة لتفرد ليث بها وهو ضعيف لاختلاطه. انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم (1235) وضعيف الجامع رقم (4684).
[21] أخرجه مسلم (1/ 92) رقم (92).
[22] أخرجه مسلم (1/ 288) رقم (384).
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك