|
02-01-2016, 03:29 PM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 376,634
|
|
الظاهرة الفقهية الجديدة: منطلقاتها و مظاهرها - د.عصر محمد النصر
الظاهرة الفقهية الجديدة: منطلقاتها و مظاهرها
تقدم معنا في المقال السابق بيان أهم طرائق التفقه عند المعاصرين, حيث بينت فيه أن " العمل بالدليل المباشر من كتاب وسنة مثل أهم مظاهر التفقه عند المتأخرين, وقد وضع في إطار معرفي ظهر فيه قدر من المخالفة لطرائق السابقين من أهل العلم, وقد عزز من هذا الأمر ضعف التصور لطبيعة التفقه في المذاهب الفقهية السائدة, هذا وإن كان الاتفاق واقع بين المعاصرين على تقديم الدليل المباشر إلا أنهم اختلفوا في طريقة إعماله من جهة, وطريقة التعامل مع الموروث المذهبي من جهة أخرى, وهم في ذلك على مراتب متفاوتة ", وفي هذا المقال سأعرض لمسألتين متعلقتين بالظاهرة الفقهية الجديدة والتي كانت من نتائج المرحلة السابقة بكل ما فيها, المسالة الأولى : الفقه الأصيل , والثانية : النزعة الفقهية عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
- المسألة الأولى : الفقه الأصيل :
وهو من المظاهر الفقهية المتأخرة وقد وجدت لها مسالك متعددة عند أصحابها والقائلين بها, وهي من مظاهر العمل بالدليل المباشر, إلا أن المراد هنا أحد هذه المسالك والذي يدعو للعودة إلى فقه الصحابة والتابعين, فالمراد بالفقه الأصيل ما يعبر به- ابتداءً- عن مرحلة الفقه الأولى التي كانت في العهد النبوي ثم عهد الصحابة والتابعين, إلا أنه لا يلحظ البعد المذهبي لتلك المرحلة المتمثل بالمدارس الفقهية في زمن الصحابة وتلك التي كانت في عهد التابعين, وإنما يدعو لفقههم من حيث استنباطهم من النصوص الشرعية, وقد سلك أصحاب هذه الدعوى مسالك عدة حيث اقتصر بعضهم على النوازل التي لا حكم لها في كتب المذاهب, وذهب آخرون إلى إعمال هذا الفقه في كل مسألة ولو وجد لها حكم في المذاهب الفقهية المعتبرة, وهذا القدر من التفقه الذي دعا له بعض أهل العلم من المعاصرين يتجاوز حقبة المذاهب الفقهية ومخرجات المدارس العلمية, وهذا يستدعي الوقوف على طبيعة هذا الفقه وما يترتب على القول به والدعوة إليه.
فقه الصحابة والتابعين :
يُعد فقه الصحابة الكرام رضي الله عنهم اصدق معبر عن الفقه الإسلامي، حيث يمثلُ المرحلةَ الأولى في حياة الأمة، وقد اتصفَ بالرصانة وقرب الاستدلال وقوته, فهو المعبر الأول عن النص الشرعي وكيفية التعامل معه, ومن هذا التعامل مع النص انبثق المنهج الإسلامي بصورته الأولى، فأصبح اللبنة التي بُني عليها علم المتأخرين، ومن أصوله تفرعت الفروع .
لما فتحت الفتوحات وانتشر الصحابة في البلدان، ودخل الناس في دين الله أفواجا وكثرت المستجدات، احتاج الصحابة للاجتهاد، ومن المؤكد أن ينتج عن هذا الاجتهاد خلاف وتعدد في الآراء، ومن هنا يجدُ الباحثُ في كتب الفقه وكتب الآثار التي عُنيت بجمع أقوال الصحابة أقوالا مهجورةً لم يجرِ عليها العمل، وأقوالا مرجوحة صح الدليل على خلافها، ومسائل تعددت الأقوال فيها وظهر في بعضها تكافؤ الأدلة، على أن أكثر ما جاء عنهم مما تقدم وصفه من حيث قوة الاستنباط وقربه وصحة الاستدلال .
وأما فقه التابعين، فهو بمنزلة فقه الصحابة من حيث جودته وقربه من الدليل عموما فقد تلقوا عن الصحابة واخذوا العلم عنهم مما أورثهم قدرة كبيرة على التعامل مع النص الشرعي وقد جمعوا أطراف الحديث الذي ناسب حجم التغيير الذي المَّ بالأمة، مما أعانهم على حسن معالجة المستجدات والنوازل، ومن هنا كثرت الاجتهادات وتعددت الأقوال وإن كانت من حيث الجملة معتبرة إلا أنها احتوت على نسبة غير قليلة من الأقوال الشاذة أو المخالفة للدليل، ومنها ما تكافأت أدلته واحتاج إلى ترجيح .
وبالعودة إلى الدعوى التي أطلقها بعض أهل العلم في العودة إلى المذهب الأصيل, فقد غاب عن هذه الدعوى مسألة مهمة وهي الطور الفقهي الذي وجد في عهد الأئمة ومدى ارتباطه بفقه الصحابة والتابعين, حيث يمثل مرحلة مهمة وهو تطور طبيعي للفقه من حيث علاقته بحاجات الناس واجتماعهم وتطور علومهم ومعارفهم, وقد انطوت هذه الدعوى على عدم فهم طبيعة المذاهب وغياب البعد التاريخي لتطورها, مع التنبيه على أن الطبيعة المذهبية موجودةٌ قبل وجود المذاهب, وأن قدرا من التقليد والإتباع قد وجد في مدارس التابعين، وهذا القدر أساس في تشكل المذاهب الفقهية، كما ينبه على أن الخلاف له حد ينتهي إليه من حيث طبيعة الاستدلال، وما استودعه أصحاب المذاهب هو القدر الممكن من الخلاف لا يخرج عنه إلا النزر اليسير، يقول ابن خلون –رحمه الله - :" فأقيمت هذه المذاهب الأربعة على أصول الملة, وأجري الخلاف بين المتمسكين بها, والآخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية والأصولية الفقهية "( المقدمة ص494), وهذا الكلام هو توصيف للطور الفقهي الذي بلغته المذاهب الأربعة, وأنها احتوت الممكن من طرائق البحث والنظر كل فيما اختص به من المسائل, وملاحظة هذا القدر من البعد التأسيسي والتطور التاريخي للفقه واستقراره في المذاهب الأربعة من الأمور المهمة, حيث أدى تجاوزه إلى العودة غير الممكنة لتلك المرحلة, وحالُ هذا الرجوع كحال تأسيس مذهب جديد, وهو بطبيعة الحال غير ممكن, وعند النظر في تراث الأئمة في المذاهب الأربعة نجد أنها احتوت فقه الصحابة والتابعين حيث عمل أصحاب الأئمة الأربعة على استخلاص أصول مذاهبهم والبناء عليها, إما مباشرة كما هو الحال في مذهب الإمام مالك والشافعي أو من خلال فروعهم الفقهية وأجوبتهم وتقريرات تلاميذهم كما هو الحال بالنسبة للإمام أبي حنيفة واحمد, وكان مما أسس وعمل به هي تلك الأصول والطرائق التي تُعَالَجُ من خلالها الأقوال, حيث وضعوا موازين تحاكم إليها الأقوال ويميز بينها, وهو ما يعرف بالتصحيح المذهبي وله أنواع من أعلاها وارفعها التصحيح بالدليل, ومنها التصحيح من خلال قواعد المذهب وأصوله, إلى أنواع تصل إلى ستة. إذن احتوت المذاهب الفقهية جملةَ ما ورد عن الصحابة والتابعين وعالجت هذه الأقوال فبينت الصحيح والضعيف منها، بل ميزت بين الأقوال فقدم الأئمة الأقوى على ما هو دونه، وهذه من ميزات المذاهب وحسناتها التي تشهد بها الأمة حيث بني الفقه الإسلامي على اصح الأقوال وأقواها فخرِّجت على هذه الأقوال كثيرٌ من المسائل مما أورثها قوة وأصالة تعين على استمرارها وبقائها.
ومع القول باحتواء المذاهب الفقهية لأقوال الصحابة والتابعين فهذا لا يعني انه لم يشذ عنها شيء من أقوالهم, كما لا يعني أن الحق انحصر فيها أو انه لا يخرج عنها.
ويبقى السؤال ما الذي أعان على هذه الدعوى وساعد في انتشارها ؟ وقد تقدم الجواب على هذا في المقالات السابقة, ولكن بقيت مسألة مهمة وهي النزعة الفقهية لدى شيخ الإسلام وأثرها في هذا لنوع من التفقه.
- المسألة الثانية : النزعة الفقهية لدى شيخ الإسلام ابن تيمية :
من نافلة القول التذكير أن المذاهب انحصرت في المذاهب الأربعة المتبوعة، وانتشرت في البلدان على تفاوت بينها في ذلك، ومن هنا أصبحت المذاهب الفقهية هي الطريق المسلوكة للعلماء, فما عاد عالم إلا وله مذهب فقهي ينتمي إليه، إلا ما كان من بعض أهل العلم الذين انتسبوا إلى المذهب الظاهري .
ومع القول بانتساب العلماء إلى المذاهب الأربعة المتبوعة إلا أن لهم في كل مذهب مرتبةً، فمنهم من بلغ رتبة الاجتهاد، فكان المذهب بالنسبة له منهجا بحثيا أكثر منه طريقا فقهيا، ومنهم من هو مجتهد مذهبي يعالج فروع الفقه من خلال أصوله وقواعده، ومنهم من هو دون ذلك كحافظ المذهب, هذا التنوع في درجات العلماء وتعدد مراتبهم ينبني عليه اختلاف في تعاملهم مع المذاهب، ومن هذا الباب اختلافهم في معالجة الواقع الذي يعيشونه وهذا بدوره ينعكس على تراث كل عالم منهم فيكثر في تراث المجتهد المطلق و مجتهد المذهب الفتاوى والنوازل, وقد تكون في بعض الأحيان خارجة عن أصول المذهب وإنما هي محض اجتهاد وتعامل مع النصوص.
ومن جهة أخرى فان لهؤلاء العلماء قدرة على تصحيح مذاهبهم بكل أنواع التصحيح, والتي من أعلاها التصحيح بالدليل، حيث يقوم العالم منهم -بعد استقرار الرواية ومعرفة مرتبتها الحكمية- بترجيحها عند الخلاف على غيرها بالنظر إلى قوة دليلها من عدمه، وهذا الفعل وان كان مطلوبا على اعتبار أنه جزء من البناء المنهجي للمذهب الفقهي فهو كذلك تلبية لحاجة يفرضها الواقع، وفي مثل هذا قدر كبير من البواعث النفسية المؤثرة في طريقة الاستدلال ومعالجة المسائل .
يعد شيخ الإسلام من العلماء المجتهدين, حتى عُد من أصحاب الاجتهاد المطلق، وهو سليل أسرة حنبلية عميقة الجذور وقد حوت جماعة من العلماء الكبار على رأسهم أبو البركات ابن تيمية، جد شيخ الإسلام ابن تيمية، ومع القول باجتهاد شيخ الإسلام إلا انه كغيره من علماء عصره كان ينتسب إلى مذهب من المذاهب الأربعة، وبما انه من عائلة حنبلية كان من الطبيعي أن ينتسب إلى المذهب الحنبلي، بل لا تستطيع أن تفهم كلام شيخ الإسلام إذا لم يكن لك معرفة بمذهب الحنابلة، ولكن قد يقول قائل كيف نفسر ما نجده في كتب شيخ الإسلام مما يفهم أنه خروج عن المذهب, وكذلك اعتماده على الأدلة بصورة مباشرة بما يوحي بعدم تقيده بالمذهب ؟
كان شيخ الإسلام ابن تيمية من العلماء المجتهدين بل من المجددين، وقد وصل إلى أعلى مراتب الاجتهاد الممكنة، وهو معدود من المصححين في المذهب.
وقد كان لهاتين القضيتين-الاجتهاد والتصحيح- عمق نظر في فكر شيخ الإسلام, فأما قضية الاجتهاد والتجديد في الفقه على وجه الخصوص، فهي مرتبطة بالواقع الذي عاشه شيخ الإسلام, حيث رأى قصورا عند الفقهاء في عصره, فقد رأى الترخص قد دب في أوساطهم وأصبح للمنصب اثر في علمهم، هذا فضلا عن الالتزام المذهبي الذي أوصلهم إلى الإلزام الذي كان شيخ الإسلام لا يراه، بل إن من معالم الاجتهاد عنده رحمه الله أن المسألة التي يدل عليها الحديث لا تعد شاذة ولو لم يقل بها احد من الأئمة الأربعة، إذا كانت قولا لأحد الأئمة الفقهاء[1] ، وقد كان لهذا الأمر اثر كبير ظهر جليا في فقه ابن تيمية رحمه الله .
وأما قضية التصحيح ، فهي تابعة لقضية الاجتهاد ومتعلقة بها, حيث عمل شيخ الإسلام على تعزيز مبدأ الاجتهاد الذي رأى فيه خلاصا من كثير من أمراض العصر الذي عاشه، ولم يكن شيخ الإسلام بحاجة لتقرير أصول المذهب-وان كانت له تحريرات- فقد سبقه من أهل العلم من قام بهذا, إلا انه التفت إلى ما يناسب عصره فأكثر من التصحيح المذهبي من خلال الدليل وهذا هو أعلى أنواع التصحيح كما تقدم، ومن هنا كثر في كلامه ذكر الأدلة وتقريرها حتى ظنّ كثير من الناس أن شيخ الإسلام خارج في فقهه عن المذهب الحنبلي، والأمر كما قدمت لا يعدو أن يكون تعزيزا لمبدأ الاجتهاد وإعمالا لقواعد التصحيح على وفق الأدلة الشرعية بما يناسب عصره، وقد بين بعض أهل العلم دوافع شيخ الإسلام التي فرضها عليه عصره كما تكلم الشيخ محمد ابن إبراهيم –رحمه الله- عن هذا عند كلامه عن مسألة الطلاق الثلاث, وإنما الذي أوجب هذا الظنّ ضعف العلم بقضية الأصول المذهبية ومناهج بنائها حيث ظُنَّ أن اجتهاداته خروجا عن المذهب أو نبذا له، وهذا كما تقدم غير صحيح, وهذا العامل مع مجموعة عوامل أثرت كثيرا في فهم القضية المذهبية والمنهج المتبع فيها, من جهة تصورها وبالتالي الحكم عليها.
كتبه:
د. عصر محمد النصر
دكتوراة الحديث الشريف - جامعة اليرموك الأردنية
صفحة الدكتور على الفيسبوك:
www.facebook.com/asur.naser
صفحته على تويتر:
http://twitter.com/ibnmajjah77
[1] - (ينظر النبوات لشيخ الإسلام 1\594)
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|
|
|