صور نكاح المسيار ومذاهب الفقهاء في ذلك
أ. د. علي أبو البصل
الصورة الأولى: أن يكون النكاح في السر؛ أي: بين الزوجين فقط، ويُطلب من الشهود عدمُ إعلانه وإشهاره.
وقد اختلف الفقهاء في هذه الصورة إلى فريقين:
الأول: ذهب جماهير العلماء إلى جواز نكاح السر، ويُنسب هذا الرأي إلى الحنفيَّة والشافعية والحنابلة والظاهرية والزيدية[1].
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1- عقد النكاح يكون صحيحًا متى استكمل أركانه وشرائطه المقرَّرة شرعًا، ولم يصحَّ قطُّ نهيٌ عن نكاح السر إذا شَهد عليه عَدلان.
قال ابن العربي:
"النكاح عقد يفتقر إلى إعلان لا خلاف فيه، ونكاح السر ممنوع لا خلاف فيه. واختلف في كيفيته، فقال الشافعي: كل نكاح حضره رجلان عدلان، خرج عن حد السر، وإن تواصوا بكتمانه. وقال أبو حنيفة: إذا حضره رجلان، كانا عدلين أو محدودين، أو رجل وامرأتان، فقد خرج عن السر، ولو تواصوا بكتمانه وذهبوا إلى أن الإعلان المأمور به هو الإشهاد وقال أصحابنا: من غير خلاف، أن نكاح السر أن يتواصوا مع الشهود العدول على الكتمان، ولا يجوز ذلك.... والشهادة ليست من فرائض النكاح ولا شروطه، وإنما الفرض الإعلان، وإنما شُرع الإشهاد لرفع الخلاف المتوقَّع بين المتعاقدين، وعلى هذا جرَت أنكحة الصحابة"[2].
2- النكاح لا يكون سرًّا؛ لعِلمه به خمسةٌ على الأقل؛ الزوج والزوجة، والولي، والشاهدان، وما يتجاوز الاثنين لا يكون سرًّا؛ ولهذا لا يتصوَّر أن يكون النكاح صحيحًا وسرًّا معًا[3].
والثاني: ذهب المالكية إلى عدم جواز نكاح السر، ويفسخ بطلقة بعد ذلك، إلا أن يتَطاول بعد الدخول، والتطاول مُدة زمنية يُترك تحديدها للعرف، ويعاقب الزوجان والكاتب والشهود، وإن فعل ذلك بعد العقد ولم يكن نواه عند العقد، جاز، وقيل: لا يفسد إذا أضمَر ذلك بنفسه، كما لو تزوج ونيته الفراق[4].
واستدلوا على ذلك، بما يلي:
1- عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال))[5].
وجه الاستدلال بالحديث:
الحديث يدل صراحة على وجوب إعلان النكاح؛ لأن الأمر يَقتضي الوجوب، وهذا يستلزم حرمة نكاح السر بالبداهة.
2- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فصلُ ما بين الحلال والحرام الدفُّ والصوت))[6]؛ قال أبو عيسى: حديث حسن.
وجه الاستدلال بالحديث:
يدل الحديث على أن ما يميز الزواجَ الحلال عن الزنى المحرم هو الإعلان، وهذا دليل على وجوب إعلان النكاح، وحرمة وفساد نكاح السر.
المناقشة والترجيح:
بعد النظر والتدقيق نجد أن رأي الجمهور أولى بالقَبول والاتباع؛ لضعف أدلة المالكية من حيث السندُ أو الاستدلال، كما أن الإشهاد والتسجيل في المَحاكم الشرعية الآن يحقق الهدف من إعلان الزواج؛ لأن وثيقة الزواج من المستندات الخطيَّة الرسمية، والتي لا تَقبل الطعن إلا بالتزوير، وهذا يؤدي إلى توثيق الزواج وعدم جحوده أو نُكرانه.
الصورة الثانية: الزواج بلا مهر.
المهر، ويقال له: صَدُقة بفتح أوَّله وضم ثانيه، والأصل فيه قوله تعالى: ï´؟ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ï´¾ [النساء: 4].
ويُسنُّ تسميته في العقد، وهو من الصِّدق؛ لدلالته على صِدق رغبة باذله.
وهو بفتح الصَّاد أشهرُ مِن كسرها، عوض، وقيل: تَكرمة للزوج، والمخاطب به في الآية الأزواجُ، وقيل: الأولياء؛ لأنهم كانوا يَأخذونه في الجاهلية.
وسُمِّي نِحلة؛ أي: عطيَّة من الله مبتدَأة؛ لأن استِمتاع أحدِ الزوجين في مقابلة استمتاع الآخَر به، فالمهرُ ليس له مقابل عند الشافعية، وهو مقابل حِلِّ الاستمتاع عند جماهير الفقهاء؛ ولهذا يَرى المالكية أن المهر ركنٌ من أركان النكاح، أو شرط من شرائطه.
والرأي الراجح أن المهر من لوازم النِّكاح وآثاره؛ أي: أثر مترتِّب على عقد النكاح؛ ولهذا يصحُّ العقد دون تسمية المهر باتِّفاق العلماء، وهو حقٌّ من حقوق الزوجة ثبَت بمُقتضى عقدِ النكاح، ومقتضى العقد شرعٌ ثابت لا يجوز تغييره أو الخروج عليه، فإن عُقد النكاح بغير مهر انعقد النكاح؛ لقوله تعالى: ï´؟ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ï´¾ [البقرة: 236].
فأثبت الله تعالى الطَّلاق من غير تسمية المهر، والطلاقُ لا يقع إلا في نكاح صحيح[7].
إذا ثبت هذا؛ فإن المزوَّجة بغير مهر تسمَّى المُفوضة، بكسر الواو وفتحها؛ فمَن كسَر أضاف الفعل إليها أنها فاعلة، ومَن فتَح أضاف إلى وليِّها، ومعنى التفويض الإهمال؛ كأنها أهملَت أمر المهر.
والتفويض في الاصطلاح:
أن يَسكُت الزوجان عن تعيين الصَّداق حين العقد، ويُفوَّض ذلك إلى أحدهما، أو إلى غيرهما، ثم لا يَدخل بها حتى يتعيَّن؛ أي: أن يَجعلا الصَّداق إلى رأي أحدِهما، أو رأي أجنبي، فيقول: زوجتُك على ما شئت، أو على حُكمِك، أو على حُكمي، أو على حكمها، أو حكم أجنبي ونحوه.
ونكاح التفويض جائزٌ باتفاق الفقهاء، قد دل على هذا قول الله تعالى: ï´؟ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ï´¾ [البقرة: 236].
ورُوي أنَّ ابن مسعود سُئل عن رجلٍ تزوَّج امرأةً، ولم يَفرض لها صَداقًا، ولم يَدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: لها صَداق نسائها لا وَكس ولا شطَط[8]، وعليها العدَّة، ولها الميراث، فقام مَعقِل بن سنان الأشجعيُّ فقال: قَضى رسول الله في بِرْوَعَ بنتِ واشقٍ - امرأةٍ منَّا - مثل ما قضيتَ[9].
(يتبع "أحكام نكاح التفويض" في المقال القادم)
[1] الهداية، ج 2، ص 460 والبيان في الفقه المقارن شرح كتاب المهذب، للشيرازي ج 9، ص 221، والبحر الزخار، ج 4، ص 27، وابن حزم، المحلى، ج 9، ص 465، والمغني، ج 10، ص 172.
[2] عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، ج 4، ص 308.
[3] المحلى، ج 9، ص 465 وما بعدها.
[4] الذخيرة، ج 4، ص 400، والشرح الصغير، ج 2، ص 82.
[5] سنن ابن ماجه، ج 1، ص 611، رقم الحديث 1895، وعارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، ج 4، ص 308، والغربال هو الدُّف؛ لأنه يشبه الغربال في استدارته. والدف آلة طرب، والحديث ضعيف؛ لأن في إسناده خالدَ بن إلياس، أبا الهيثم العدوي، وهو ضعيف عند المحدِّثين.
[6] عارضه الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، ج 4، ص 307.
[7] البيان ج 9، ص 336 وما بعدها، وقليوبي وعميرة، ج 3، ص 276، والشرح الصغير ج 2 ص 440، والقوانين الفقهية، ص 174، والهداية ج 2، ص 489، والمغني ج 10، ص 137، والمحلى ج 9 ص 466 والاستبصار فيما اختلف من الأخبار ج 3 ص 220 والمحرر في الفقه ج 2 ص 31 والسيل الجرار ج 2، ص 276. ورد المحتار ج 3، ص 108 والمبسوط ج 5 ص 62.
[8] وكس: النقص والغبن، والشَّطَط: الزيادة والظلم؛ المعجم الوسيط، ج 1، ص 483، وج 2، ص 1054.
[9] سنن أبي داود، كتاب النكاح باب فيمن تزوج ولم يسمِّ صَداقًا حتى مات، رقم 2114، ج 2، ص588، والحديث صالح للاحتجاج به؛ لأن أبا داود ذكَره ولم يعلق عليه.
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك