تفسير: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم)
الشيخ محمد حامد الفقي
تفسير القرآن الحكيم
بسم الله الرحمن الرحيم
قول الله تعالى ذكره: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [البقرة: 89-90].
يقول الله جل ثناؤه: ولما جاء اليهود الذين يساق الحديث عنهم، ويجري القول في الكشف عن جحودهم وبغيهم وكفرهم بأنعم الله، وتمردهم على ربهم، وتكذيبهم لأنبيائه - والذين كان يمثلهم يهود المدينة: من قريظة والنظير وقينقاع أتم تمثيل - لما جاء هؤلاء اليهود كتاب الله القرآن، الذي يعلمون يقيناً أنه من عند الله، بما قام من الآيات على صدق من جاء به، وأنه النبي الذي نعته وصفته عندهم في التوراة قد بشر به موسى وأخذ الميثاق على بني إسرائيل بالإيمان به ونصره وتعزيزه، وهم لهذا كله ولغيره من الآيات يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
جاء هذا القرآن يدعوهم ويدعو غيرهم بدعوة موسى ومن قبله من الأنبياء ومن بعده ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 64]، ﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]، ﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ﴾ [المؤمنون: 32]، ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15-16].
﴿ُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [لأعراف: 156-158].
وفي التوراة في الإصحاح السابع عشر من سفر التكوين "وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأثمره وأكبّره جداً" وفي الإصحاح الثامن عشر من سفر التثنية قول موسى لبني إسرائيل "يقيم لكم الرب إليكم نبياً من وسط إخوتكم مثلي له تسمعون. حسب كل ما طلبت من الرب إلهكم في حوريب يوم الاجتماع قائلاً: لا أعود أسمع صوت الرب إلهي ولا أرى هذه النار العظيمة لئلا أموت. قال لي الرب: قد أحسنوا فيما تكلموا. أقيم لهم نبياً من وسط اخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيتكلم بكل ما أوصيه به" فقوله "من إخوتهم" أي من بني إسماعيل لا من ولد إسحاق. وقوله "أجعل كلامي في فمه" يشير إلى أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب.
كانت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم هي دعوة موسى وكل الأنبياء، في أصولهها وقواعدها: إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع وأحب، وأنه لا شرع إلا ما أوحاه لرسله وتفضل به عليهم من العلم والخلق والحال وأنه لا صلاح للناس في دينهم ودنياهم إلا بالاستقامة على ما أحب الله من الصالحات والمعروف والبر، والبعد عن السوء والمنكرات والفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، وأن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن يقولوا على الله ما لا يعلمون. وأن تلك الشرائع المحكمة من العليم الحكيم؛ وتلك الهداية الرحيمة من الرؤوف الرحيم هي التي تقي الناس شر اختلاف طبائعهم وأهوائهم، وتكبح جماح شهواتهم وغرائزهم. فيعيشون بهذه الشرائع في سعادة وأمن. قد هدوا إلى الطيب من القول وإلى صراط العزيز الحميد ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213].
وعلى قدر ما يستمسك الناس بحبل المرسلين ويقيمون هداهم على قدر ما يسبع الله عليه من رغد العيش وهناءة الحياة الدنيا. وعلى قدر ما يضيفون من هدى المرسلين ويصرمون من حيلهم على قدر ما يذيقهم من ضنك العيش وشدة المؤنة ونكد الحياة، ويكون فيهم من الفتن والهرج وضياع الأنفس والأموال والثمرات. لهذا اقتضت رحمة أرحم الراحمين أن يتابع الرسالات ويصل سلسلة المرسلين في كل أمة وزمان ﴿ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾ [النساء: 165]، وختمهم بخيره وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه خير الكتب الذي جمع فيه كل خير كان عند السابقين وزاده من الخير ما لم يكن عندهم، وجعل شريعته خير الشرائع وملته أهدى الملل ودينه أكمل دين ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ﴾ [المائدة: 3].
وكان أشد الناس إضاعة لهدى المرسلين ونكثاً لعهدهم وإعلاناً بعدائهم وقتلهم: اليهود، أمة القردة والخنازير وعبدالطاغوت، طال عليهم الأمد في التلاعب بدين الله واتباع الأهواء واتخاذ الأحبار أرباباً من دون الله، واستبدال الذي هو خبيث من آراء وأهواء رؤسائهم بالذي هو خير مما أنزل الله على موسى من شريعة التوراة التي فيها الهدى والنور والرحمة والخير والبركة؛ وامتد بهم حبل الغي والشر والفساد حتى صار ذلك خلقاً لازمناً لهم وطبيعة متحكمة؛ فكلما جاءهم من يحاول ردهم عن غيهم وردعهم عن فساهم وكفهم عن شرهم وإقامتهم على الصراط السوي وإيقافهم عند ما أنزل الله من الكتاب والفرقان تلقوه بأقبح العداوة وقابلوه بأشنع الخصومة ففريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون، حتى إذا جاءهم رسول الله الخاتم ومصطفاه الأمين محمد صلى الله عليه وسلم، تلقون بما مردت عليه قلوهم من العناد والبغي والفساد والكفر والجحود، مع أن الله سبحانه كان قد أقام لنبيه صلى الله عليه وسلم عليهم من الحجج والآيات ما يجعل كفرهم مقطوع النظير ومعدوم المثال كانوا يقرأون في التوراة نعتة وصفته وما أخذ عليهم من الميثاق أن يؤمنوا به ويتبعوه، ويقرأون في التوراة أن الله مؤيده ومؤيد من اتبعه وناصره وناصر من آمن به، وخاذل أعداءه، وكل مناوئيه، مهما كان عددهم ومهما كانت قوتهم، فإن الله مؤتيه وحزبه من القوة ومن الصبر وحب التضحية بالنفس والمال في سبيل الدين الذي امتزج بكل ذرة من نفوسهم واصطبغت به قلوبهم حتى تكيفت به فصارت هي الدين والإيمان – فإن الله مؤتيه وأنصاره من تلك الأسباب ما يتلاشى معه وينماع كل قوة ويتبخر كل عدو ﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الصافات: 173].
كان يهود يقرأون في التوراة هذا كله ويعقلونه ويفقهونه، وكانوا حين يغلبهم الأوس والخزرج – لأن اليهود أبداً جبناء- وحين ينكل بهم شجعان العرب من المشركين، يبكون بكاء النساء، ويتوعدون الأوس والخزرج مجيء ذلك النبي الذي يقرأون في التوراة صفته ونعته، والذين هم أعرف به من غيرهم، قائلين إذا جاء نعرفه ونتبعه قبلكم ونحاربكم معه فنأخذ ثأرنا منكم ونقتلكم قتل عاد وإرم، فلم يلبثوا أن بعث الله ذلك الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89].
أبعدهم الله وطردهم من رحمته أشد الإبعاد والطرد. وأجل نعم الله وأعظم آثار رحمته وهو الإيمان بالله ومعرفته وحبه؛ فقلوبهم صخور لا تستأهل لما أنزل الله من غيث الهدى والرحمة على نبيه صلى الله عليه وسلم فكفرهم هو الحقيق أن يسمى بالكفر لذلك أظهر نعتهم مكان الاسم المضمر في قوله ﴿ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾.
قال ابن إسحاق: وكان فيما بلغني عن عكرمة مولى ابن عباس، أو عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس "أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه؛ فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه؛ فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا بصفته: فقال سلام بن مشكم أحد بني النظير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكره لكم. فأنزل الله في ذلك من قولهم ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89].
وقال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه، قالوا "لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم – يعني النفر من الأنصار حين كان يعرض نفسه على القبائل تمهيداً للهجرة - قال لهم: من أنتم؟ قالوا نفر من الخزرج، قال: من موالي يهود؟ قالوا نعم. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. قال: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبياً مبعوثاً الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله أنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه - الحديث".
وقال ابن إسحاق: وكان من حديث عبدالله بن سلام: كما حدثني بعض أهله عنه وعن إسلامه حين أسلم، وكان حبراً عالماً قال "لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوقف له، فكنت مسراً لذلك صامتاً عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة؛ فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت عمتي حين سمعت تكبيري: خيبك الله، والله لو كنت سمعت بموسى ابن عمران قادماً مازدت. قال فقلت لها: أي عمة هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه، بعث بما بعث به. قال فقالت: أي ابن أخي، أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ قال فقلت لها: نعم. قال فقالت فذاك إذن. قال: ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا. قال: وكتمت إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله إن يهود قوم بهت وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك وتغيبني عنهم ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا إسلامي فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني. قال: فأدخلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض بيوته ودخلوا عليه فكلموا وسألوه، ثم قال لهم: أي رجل الحصين بن سلام فيكم؟ قالوا سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا؛ قال: فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله وأؤمن به وأصدقه وأعرفه، فقالوا كذبت، ثم وقعوا به؛ فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور؟ قال: وأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة فحسنت إسلامها".
وقال ابن إسحاق: ونحدثني عبدالله بن أبي بكر قال: حدثت عن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت "كنت أحب ولد أبي اليه والي عمي أبي ياسر" لم ألقهما قط مع ولديهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر ابن أخطب مغلسين. قالت فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس. قالت فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا. قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم. قالت: وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي: أهو هو؟ قال نعم والله. قال: أتعرفته وتثبته؟ قال نعم. قال فما في نفسك منه؟ قال عداوته والله ما بقيت".
فهذه الروايات تبين حال تلك الأمة الغضبية الذين عرفوا رسول الله ثم كفروا به أشد كفر وأقبحه، لما طبع الله على قلوبهم فجعلها غير أهل أن تكون وعاء لهذا الخير إذ كانت وعاء ملئ بكل طغيان وفسوق وفجور وبغي.
وإن الذين غلب على قلوبهم التقليد الأعمى والعصبية الجاهلية للآباء والرؤساء فانغمسوا في البدع والوثنية وغير الوثنية، وفتنوا بمدينة أوربا وقوانينها وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتخذوا الشيوخ المتفلسفين بزعم أربابا مشرعين لما لم يأذن به الله من الحلال والحرام والواجب والمندوب والمكروه والحرام، ثم يجيثهم الحق من الآية الصريحة والحديث الصحيح من رواية البخاري مثلاً، يعرفون صحة ذلك وأنه كتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي يزعمون أنهم يشهدونه له بالرسالة – فيردون تلك الآية وذلك الحديث بأهوائهم ويطعنون فيها بآراء شيوخهم وأساتذتهم وساداتهم قائلين مثلاً: هذا لا يناسب روح العصر ومدنيته، أو هذا لم يأخذ به شيخنا وليس من مذهبه ولا طريقته – أولئك لهم حظ وافر من نصيب الذين تحدث عنهم الآية، فإنها لم تذكرهم بأسماء ولا أشخاص وإنما ذكرتهم بأعمال، كما كانت بتزيين الشيطان في الماضي تكون بتزيين الشيطان أيضاً في الحاضر والمستقبل من كل زمان.
فليحذر أولئك الذين يخالفون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمر أعدائه من اليهود أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليهم، ثم لا ينفعهم أسماؤهم ولا ثيابهم ولا آباؤهم وأنسابهم، ولا دعاويهم العلم والدين، كما لم ينفع سلفهم من الماضين الذين كانوا يستنصرون على المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن العجب العاجب أن الشيطان لعب بعقول أولئك الخالفين كما لعب بعقول سلفهم، فأوحى إليهم في تأويل الاستفتاح بأنهم كانوا يتوصلون برسول الله صلى الله عليه وسلم وإن ذلك من عمل اليهود الذين لعنهم الله بكفرهم حجة لأولئك الخالفين على ما أباحوه من الشرك والوثنية ودعاء غير الله والاستغاثة به والالتجاء إليه في تفريج الكروب حتى قال قائلهم:
يا أشرف الخلق ما لي من ألوذ به ♦♦♦ سواك عند حدوث الحادث العمم
ونعوذ بالله من تحكم الغي واستعباد الهوى والجهل للعقول والقلوب. فهذه الروايات قد سقتها إليك وليس فيها تلك الرواية المكذوبة. وعلى فرض ثبوتها فإنما هي من عمل يهود، فهل يليق بمؤمن يحب الله ورسوله أن يتمسك بعمل يهود أشد الناس عداوة لله ولرسوله وللذين آمنوا، ويترك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبدالله بن عباس "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" أو نحو ذلك من الأحاديث الكثيرة والآيات الصريحة في التحذير أشد التحذير من دعاء غير الله؛ أو الالتجاء إلى مخلوق لا يملك نفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا؟ اللهم إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [فاطر: 8].
ولما كان هذا حال تلك الأمة الغضبية ومن أخذ سبيلها في كل زمان ومكان، وأنها إنما أغواها الشيطان وغلبت عليها شقوتها فباعت نفسها بذلك الكفر والجحود، ووقفت من الهدى والحق هذا الموقف، فقد باءت بأشد الغضب من الله والسخط: غضب متكاثف طبقات بعضها فوق بعض. والمباءة: هي التي يبوء إليها الشخص أي يرجع إليها رجوع تمكّن واستقرار ولا تحول عنه ولا انتقال. فغضب الله وسخطه ملازمهم في كل أحوالهم وأزمانهم في الدنيا والآخرة. والله يقيم للناس في كل وقت من الآيات على صدق القرآن وتحقق وعيده ما فيه أعظم العبرة لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. أعاذنا الله من غضبه وسخطه في الدنيا والآخرة. وغمرنا الله بفضله وهدانا صراطه المستقيم؟
مجلة الهدي النبوي: المجلد الخامس - العدد 6-7 - أول ربيع الثاني سنة 1360ه-
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك