الاستخفاف بالأيمان والشهادة
الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز الدهيشي
الحمد لله رب العالمين، فاطر السموات والأرض، جامع الناس ليوم لا ريب فيه أجمعين، أرسل رسله مبشرين عباده بجنته وعن عذابه وناره محذرين.
أحمده - سبحانه - وهو أهل الحمد والثناء، وأشكره على نعمه التي بها قد عمنا، وأشهد أن لا إله إلا الله العلى العظيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي الكريم، ختم الله به أنبياءه وكيل به الدين القويم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن عل نهجهم مستقيم.. أما بعد:
فيا عباد الله، لقد مضت القرون الفاضلة التي أخبر بها سيد البشر بقوله: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، شك الراوي هل قالها مرتين أو ثلاثًا، وأخبر أنه يأتي بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن، زاد في رواية "ويحلفون ولا يستحلفون" أخرجه الخمسة، وفي رواية للبخاري ومسلم والترمذي عن ابن مسعود - رضي الله - عنه "تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته"[1].
عباد الله، على كل واحد منا أن يحاسب نفسه ويطبق أعماله على مقتضى الحديث فإن كان قد وقع فيما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - فقد هلك، وعليه أن يتدارك نفسه ويتوب إلى الله ويرجع إليه فإنه يفرح بتوبة عبده أشد من المسافر الذي ظلت راحلته في أرض فلاة وعليها طعامه وشرابه وقد أيس منها فما علم إلا وهي واقفة على رأسه فقام وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح، وفي الحديث عن أبي بكره - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت)[2]، أخرجه البخاري والترمذي.
عباد الله، أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه يأتي بعد القرون المفضلة قوم يشهدون ولا يستشهدون، وأخبر أيضًا بأكبر الكبائر وعدها وهو متكيء فلما بلغ شهادة الزور جلس وتحفز للتنبيه عليها لعظم شأنها وجسامة خطرها وقال: ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور، وأخبر هذا الصحابي الجليل أنه ما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت، وفي تكراره بالإخبار عنها دليل على أنها ستكثر في أمته أكثر من التي قبلها، ولما فيها من تعدي الذنب إلى الغير، لأن شاهد الزور سبب لأكل الحرام وإضاعة الحق واستحلال أموال الناس ودمائهم بشهادته الكاذبة الفاجرة، يبدل شهادته لينفع صديقه أو يضر عدوه بزعمه، وإنما أهلك نفسه وضر صديقه والنفع والضرر من الله، وذكر - صلى الله عليه وسلم - أنهم يحلفون ولا يستحلفون استخفافًا بالله تعالى وعظمته وتعرضًا لوعيده وهو تعالى يقول: ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا ﴾ [البقرة: 224] الآية، وذكر أنهم يخونون ولا يؤتمنون والخيانة من خصال المنافقين، فقد روي عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا خاصم فجر وإذا عاهد غدر)[3]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾ [النساء: 145]، وذكر أنه يظن فيهم السمن، قال الشراح: يحتمل أنه أراد أنهم يحبون التوسع في المآكل والمشارب، وقيل إنهم يحبون الإكثار من الأموال ويضعون ما ليس لهم من الشرف ويفخرون بما ليس معهم من الخير.
فيا عباد الله، لقد انطبق الحديث على كثير منا، فلنستغفر الله ولنتب إليه ولا نتهاون بالشهادة والحلف والخيانة، وعلينا - معاشر المسلمين- جميعًا محاسبة أنفسنا وردعها عما يوجب سخط ربنا فإنه لا جلد لنا على النار ولا طاقة لنا بعذابه، نستغفر الله ونتوب إليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [لقمان: 33].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بما جاء فيه من الآيات والذكر الحكيم.
والحمد لله رب العالمين.
[1] صحيح البخاري (2651، 2652) ومسلم (2533، 2534، 2535).
[2] صحيح البخاري ح (2654) وصحيح مسلم (87).
[3] صحيح البخاري ح (34) ومسلم (58).
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك