07-28-2015, 11:12 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 376,634
|
|
تسليسل الحوادث في القدم و الأزل قول قديم أخده الآخر عن السلف الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
من المعلوم أن مسألة تسلسل الحوادث في القدم من المسائل الشائكة والمعتركات القوية في العقيدة لكن الشيء الغير المعلوم أن نفي هذا التسلسل في الأزل هو قول الأشاعرة المخالف لقول السلف وهذا الذي سعى شيخ الاسلام في اثباثه واظهار الحق الذي خفي على كثير من الناس
وقد صنف فيها تصنيفا كثيرا وقال فيها كلاما طويلا واستدل لها استدلالا قويا متينا منه استدلال نقلي ولكن معظمه عقلي يصعب على العقول استيعابه ويشفق اللبيب من خوض أعماق بحاره
وهاهو هذا البحث أقدمه بين أيديكم مع التبسيط قدر المستطاع وما توفيقي الا بالله
قال ابن حجر في شرح حديث عمران في بدء الخلق
((تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ قَوْلُهُ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ بِلَفْظِ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ كَانَ اللَّهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ بِمَعْنَى كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ وَهِيَ أَصَرْحُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا مِنْ رِوَايَةِ الْبَابِ وَهِيَ مِنْ مُسْتَشْنَعِ الْمَسَائِلِ الْمَنْسُوبَةِ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ وَوَقَفْتُ فِي كَلَامٍ لَهُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ يُرَجِّحُ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى غَيْرِهَا مَعَ أَنَّ قَضِيَّةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ تَقْتَضِي حَمْلَ هَذِهِ عَلَى الَّتِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ لَا الْعَكْسَ وَالْجَمْعُ يُقَدَّمُ عَلَى التَّرْجِيحِ بِالِاتِّفَاقِ ))
أما قوله أنها من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية
فنقول بل هي من أحسن المسائل وأعظم ما كتبه شيخ الاسلام في رد مذهب الكلابية والاشاعرة
وما كتبه هو في مئات السطور لا يرد عليه ببضعة من السطور
أما قضية الاجماع الذي اختلقتموه في أن المخلوقات لها ابتداء ومنع تسلسل الحوادث في القدم
فالجواب أن يقال ايتونا بنقل واحد عن صحابي أوتابعي يقول بما ادعيتموه فنقبل عندئذ الاجماع ونكون أول المؤمنين به وأكبر المسلمين له
أما ما ادعاه ابن حجر من دعوى الاجماع على تقديم الجمع بين الروايات المتعارضة على الترجيح بينها فهذا صحيح وان خالف فيه الأحناف
لكن الجمع يكون فيما قد تيقنا أن النبي عليه السلام قد قاله حقا
ومعلوم أن التعارض لا يمكن أن يكون في كلامه عليه السلام , وانما قد يكون في أفهام المخاطبين
وهذا الحديث الذي رواه عمران بن الحصين ما هو الا قصة واحدة حين جاء وفد الأشعريين وسألوا النبي عليه السلام عن (أول هذا الأمر ) فأجابهم بهذا الكلام ولنكتب الحديث كاملا حتى يتجلى للقراء الأمر جيدا
عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ، فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ» ، قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا أَهْلَ اليَمَنِ، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ» ، قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالُوا: جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ؟ قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» فَنَادَى مُنَادٍ: ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا ابْنَ الحُصَيْنِ، فَانْطَلَقْتُ، فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ، فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا،))
ورواه في موضع آخر (ولم يكن شيء قبله))
فمما لا شك فيه أن القصة واحدة والراوي واحد بل الطريق كله من الأعمش الى عمران واحد
فاذا تبين أن المجلس واحد فلا يمكن أن يقول النبي عليه السلام لفظين مختلفين في آن واحد
فعلى هذا يكون أحد اللفظين قد قاله حقيقة والثاني روي بالمعنى قد قاله أحد الرواة ظنا منه أنه مقارب للمعنى المنطوق حقا
فتعين مما تقدم البحث عن أي اللفظين الذي قاله النبي عليه السلام وهذا هو الترجيح الذي قصده شيخ الاسلام بين الروايتين وسنذكر فيما بعد أيضا كيف جمع شيخ الاسلام بين اللفظين بطريقة توافق ما ذهب اليه في اثبات التسلسل في القدم ليس فيها تكلف ولا تعسف
فكيف السبيل اذا لترجيح أحد اللفظين على الآخر؟
وكلام النبي عليه السلام يفسر بعضه بعضا ويصدق ما قاله في موضع الذي قاله في موضع آخر
فبحثنا هل قال في موضع آخر كلاما يشبه هذا المعنى أو يقاربه
فوجدنا في دعائه الذي أخرجه مسلم (( أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء))
وسبحان الله العظيم , فمن عجائب الموافقة أن هذا الحديث قال في أوله
((«اللهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ..))
فذكر أنه خالق ورب العرش والسماوات وكل شيء كما قال في حديث عمران لكن بترتيب مختلف للمخلوقات
فلفظ الدعاء (ليس قبلك شيء) موافق لاحدى الروايتين في حديث عمران وهي (لم يكن شيء قبله) فتترجح هده الرواية على قوله (لم يكن شيء غيره)) لأن هده الأخيرة لم تأت قط في كلام النبي عليه السلام الا في حديث عمران هذا وعلى جهة الاحتمال
و لفظ رواية مسلم جاء لتفسير اسم الله تعالى (الأول)) فلو كان معنى الأول أن لا شيء معه أو لا شيء غيره لقاله النبي عليه السلام وفسره في ذلك الموضع ولما كتمه عن أمته
فلما قال (أنت الأول فليس قبلك شيء )) دل على أن هذا هو تفسير معنى الأول الذي يجب قبوله ولا يقبل معه ولا يقدم عليه تفسير غيره
والذين سألوا النبي عليه السلام انما سألوه عن بدء خلق هذا العالم المشهود ولم يسألوه عن ابتداء الخلق مطلقا لذلك قالوا ( قَالُوا: جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ؟ قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ(أو قبله)، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ» ))
فحرف الاشارة للقريب المشهود لذلك أخبرهم بابتداء خلق السماوات بعد أن كتب الله تعالى المقادير حال كون عرشه على الماء
فعرشه كان مخلوقا ولم يخبرهم أن الله تعالى خلق العرش وأيضا في جميع النصوص انما يذكر الله تعالى أنه استوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض
ولهذا اختلف السلف في أيهما خلق أولا العرش أو القلم والجمهور على أنه العرش
وفي حديث عبد الله بن عمرو (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ "،))
والحديث الذي فيه أن أول ما خلق الله القلم فكتب في تلك الساعة كل ما هو كائن الى قيام الساعة لا يعارض الحديث السابق بل يوافقه فأول المخلوقات باعتبار مايتعلق بهذا العالم المشهود هو القلم لذلك أخبر بأن الكتابة وقعت حال كون العرش على الماء أي أن العرش كان موجودا قبل بدء الكتابة ولم يخبرنا الله تعالى متى خلق العرش ولا الماء وانما أخبرنا سبحانه عن وقت استوائه على العرش
فالقلم متعلق بخلق السماء والأرض والانسان
أما العرش فهو متعلق بربوبيته لذلك يذكره الله تعالى في القرآن لاظهار علوه وربوبيته ( رب العرش العظيم ) أو (رب العرش الكريم ) (استوى على العرش ) (( وكان عرشه على الماء)
ولم يقل أبدا (رب القلم ) فالعرش أعظم المخلوقات على الاطلاق
ويؤيد ما سبق أن العرش متقدم على خلق القلم حديث أبي رزين
(( قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ قَالَ: «كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، وَخَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى المَاءِ» )) وعماء هنا معناه سحاب
وعلى فرض صحة رواية (لم يكن شيء غيره أو معه) فيمكن توجيه الكلام بأن الله تعالى لم يكن شيء معه من هذا العالم المسؤول عنه لكن وقتها كان عرشه على الماء
فيكون المعنى لم يكن شيء غيره حال كون عرشه على الماء وعلى هذا تكون هذه واو الحال
لكن كما سبق تقريره فالراجح من اللفظين هو لفظ القبلية
لذلك اقتصر على اخراجه بلفظ القبلية أئمة الحديث كالحميدي والبغوي وابن الأثير كما قال شيخ الاسلام
فالله هو الأول أي الذي ليس قبله شيء أي لم يتقدمه أي مخلوق فلم ينف أن يكون معه مخلوق و هذا بعينه اثباث تسلسل الحوادث في القدم وأن ما من مخلوق الا وقبله مخلوق ولا يزال الله تعالى خالقا ولم يأت عليه أبدا حين من الدهر لم يكن خالقا ثم ابتدأ الخلق وأنشأ الحوادث
و ليس في هذا اثباث لقدم العالم لأن ما من مخلوق الا وهو محدث بعد أن لم يكن وكان عدما فصيره الله بمشيئته موجودا بعد أن كان غير موجود
فالعقلاء متفقون أن الفاعل يجب أن يتقدم مفعوله والفاعل هو الأول والفعل حادث بفعله موجود بايجاده وهو لا يكون الا بعده فيستحيل أن يكون قبله وهذا هو معنى اسم الله تعالى الأول الذي ليس قبله شيء وهو الذي خلق وأحدث كل شيء وكل مخلوق وجد بفعله
وايضا في المقابل من جهة المستقبل فهو الآخر الذي ليس بعده شيء فلم يمنع كونه الآخر أن يكون معه شيء من مخلوقاته موجودة معه الى الأبد
فاذا أمكن أن يقارنه المخلوق في المستقبل لم يمتنع أن تكون المقارنة في الماضي , فكما لم تمنع المقارنة باتصاف الخالق بأنه الآخر في المستقبل كان من لازم ذلك أن لا تمنع المقارنة اتصاف الخالق بانه الأول في الأزل
وصفة الخلق هي من صفات الكمال لذلك قال تعالى (أفمن يخلق كمن لا يخلق))
وصفات الكمال لازمة له وهو متصف بها في الأزل فلو أثبثنا للمخلوقات ابتداء لكان الله تعالى قبل ذلك المخلوق الأول غير خالق, وانعدام الخلق هي صفة نقص يتنزه الخالق عنها
ولو كان للمخلوقات ابتداء لكان الله معطلا عن هذه الصفة كل ذلك الزمان الذي سبق أول مخلوق له ولصار الله تعالى خالقا بعد أن لم يكن كذلك
فان قيل هو موصوف بالخلق وان لم يخلق شيئا ولم يكتسب صفة الخلق بعد أن خلق بل هو متصف بها قبل أن يخلق
فالجواب أن يقال يجب التفريق بين الاسم والصفة
فالاسم هو الخالق و هذا اسم كمال ثابث له سواء خلق أم لم يخلق
أما الصفة وهي الخلق فلا تكون الا بتحقيق الفعل وهي صفة كمال مدح الله تعالى بها نفسه, فلوقيل ان الله تعالى لم يخلق شيئا في زمن ما فهذا سلب لصفة الكمال وتعطيل لما وصف الله به نفسه , وحمد نفسه على وقوع الفعل والخلق منه فقال
(( وهو الخلاق العليم)) بصيغة المبالغة الدالة على الاكثار والتكرار وهي مقرونة بالعلم
والعليم هو الذي يعلم الأشياء فكما أن صفة العلم تابثة له في الأول منذ الأزل قائمة بداته لم تزل عنه ولم يسبقها عدم , كذلك صفة الخلق لا يزال ولم يزل خالقا فكلاهما صفة كمال لا يجوز نفيهما وسلبها عن الله تعالى في وقت من الأوقات ولا يجوز تخصيص احداهما دون الأخرى بالكمال
و سر المسألة أن اتصاف الله تعالى بهده الصفة أي صفة الخلق يستلزم وجود مخلوق كما أن وصف أحد بأنه فاعل يستلزم وجود الفعل منه فاذا عدم الفعل لم يسم فاعلا ولا عرفنا أنه فاعل الا بعد وجود الفعل فلو قدر أن للمخلوقات ابتداء لانعدمت صفة الخلق ولم يتصف بها الله تعالى الا بعد وجود هذا المخلوق الاول وهذا باطل لأن الله موصوف بهذه الصفة منذ الأزل
فالصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه كلها صفات كمال وضدها صفات النقص لا يجوز أن يوصف الله تعالى بها أزلا و لا مستقبلا أما صفات الكمال فهي قائمة بذاته لا تزول عنه
لذلك قال (( وله الحمد في الأولى والآخرة )) فهو محمود باتصافه بصفات الكمال في الأولى وفي الآخرة
وقال أيضا تقريعا للكفار الذين عبدوا آلهة لا تستطيع أن تخلق شيئا (( لا يخلقون شيئا وهو يخلقون )) فدل هذا على أن الذي لا يخلق لا يعبد ولا يستحق ذلك لأن هذه صفة نقص وضدها صفة الكمال وهي الخلق والفعل لذلك قال (( فعال لما يريد) فلا يزال فاعلا فعالا كما لا يزال مريدا فكما أن الارادة صفة كمال لا يوصف أبدا بضدها فكذلك صفة الفعل هي من صفات الكمال فلا ينبغي أن يوصف بضدها أي عدم الفعل
وكذلك صفة الظاهر الذي ليس فوقه شيء لأنه تعالى هو فوق كل شيء وهو عال على كل مخلوقاته ومستو على عرشه ولو قدر أن لا شيء معه لكان اذا فوق العدم , والعلو صفة كمال فلا تسلب عنه في وقت من الأوقات
ولما رأى كثير من الطوائف المنتسبين الى الاسلام قول الفلاسفة بقدم العالم ظنوا أن القول الصحيح هو في نفيه فنفوا بذلك أن يكون مع الله تعالى شيء من مخلوقاته
وعطلوا عنه قيام الحوادث به حتى نفوا عنه صفة الكلام ونفوا أن يتكلم الله تعالى بمشيئته واختياره كما نفوا قيام الحوادث به فأشبهوا قول المعتزلة والمعطلة
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|