وقفات مع آيات (1)
قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا) (موعظة الأسبوع)
سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
موضوع الآية:
- بيان شدة عداوة اليهود لأهل الإسلام، وبيان عظيم استجابة الصحابة لأمر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
مقدمة:
- التذكير بفضل مدارسة وتدبر آيات القرآن: قال -تعالى-: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص:29).
- ومن حكمة الله -تعالى-: أنه أنزل كثيرًا من الآيات عقب وقائع وحوادث في حياة مَن نزل عليهم القرآن، ليكون ذلك أبلغ في نفوسهم، وسببًا لزيادة إيمانهم، وإيمان مَن بعدهم، قال -تعالى-: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا) (الإسراء:106). وقال الواحدي: "لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان سبب نزولها" (الإتقان للسيوطي).
- آية اليوم وقصتها(1):
- قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِين َ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة:104).
قال الواحدي في أسباب النزول: "قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: وذلك أن العرب كانوا يتكلمون بها، فلما سمعتهم اليهود يقولونها للنبي -صلى الله عليه وسلم-، أعجبهم ذلك، وكان راعنا في كلام اليهود، السب القبيح، فقالوا: إنا كنا نسب محمدًا سرًّا، فالآن أعلنوا السب لمحمدٍ؛ لأنه من كلامهم، فكانوا يأتون نبي الله -صلى الله عليه وسلم-، فيقولون: يا محمد راعنا، ويضحكون! ففطن بها رجل من الأنصار، وهو سعد بن عبادة، وكان عارفًا بلغة اليهود، فقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، والذي نفس محمد بيده، لئن سمعتها من رجل منكم لأضربن عنقه، فقالوا: ألستم تقولونها له؟ فأنزل الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا)(2) الآية.
وقفات حول الآية:
(1) شدة عداوة اليهود وسائر الكفار للمسلمين:
- ففي قصة النزول ما يشير إلى ذلك؛ فهم يستغلون كل فرصة للإساءة للإسلام، والإضرار بأهله؛ وذلك لشدة عداوتهم لهم: قال -تعالى-: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) (آل عمران:118)، وقال: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة:120)، وقال: (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ) (البقرة:105).
- ومقتضى ذلك تحريم محبتهم ومودتهم وموالاتهم: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ) (الممتحنة:1)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة:51).
(2) حرمة التشبه بالكفار:
- لقد نهي المؤمنون عن كلمة "راعنا" وهي مباحة في أصلها(3)، لما استعملها الكفار في الإساءة إلى الإسلام ورسوله -صلى الله عليه وسلم-: قال ابن كثير -رحمه الله- بعد تعليقه على الآية: "ففيه دلالة على النهي الشديد، والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم، ولباسهم وأعيادهم وعبادتهم، وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا، ولم نقر عليها". وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
- الإسلام يرسِّخ لهذه العقيدة بوسائل شتى:
1- في العبادات: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلا خِفَافِهِمْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
2- في السلوك والآداب الاجتماعية: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ وَلا بِالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَ اليَهُودِ الإِشَارَةُ بِالأَصَابِعِ
، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الإِشَارَةُ بِالأَكُفِّ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
3- في الهيئة والصورة والسمت: قال: (خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا اللِّحَى) (متفق عليه)، ودخل على أنس بن مالك -رضي الله عنه- ناس ومعهم غلام له قرنان أو قصتان، فمسح برأسه وبرَّك عليه، وقال: "احْلِقُوا هَذَيْنِ أَوْ قُصُّوهُمَا فَإِنَّ هَذَا زِيُّ الْيَهُودِ" (رواه أبو داود، وضعفه الألباني)، وبعث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى قائد وأمير المسلمين في أذربيجان (عتبة بن فرقد): " ... فأشْبِعِ المُسْلِمِينَ في رِحَالِهِمْ ممَّا تَشْبَعُ منه في رَحْلِكَ، وإيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ، وَزِيَّ أَهْلِ الشِّرْكِ... " (رواه مسلم).
4- في نعتهم وكلامهم: قال عمر -رضي الله عنه-: "لا تَعَلَّمُوا رَطَانَةَ الأَعَاجِمِ" (رواه البيهقي بإسناد صحيحٍ)(4).
(3) عظيم استجابة الصحابة -رضي الله عنهم-:
- امتناع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قول: "رَاعِنَا"؛ امتثالاً لأمر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا يجب أن يكون المؤمنين: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (النور:51).
- صور من استجابتهم:
- عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يصلي بِأَصْحَابِهِ إِذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صلاته، قَالَ: (مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ) قَالُوا: رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ، فَأَلْقَيْنَا نِعَالَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ جِبْرِيلَ -عليه السلام- أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
- عن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: "أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا فِي الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَانْتَحَرْنَاه َا، فَلَمَّا غَلَتْ بِهَا الْقُدُورُ، نَادَى مُنَادِي رَسُولِ الله، أَنِ اكْفَئُوا الْقُدُورَ، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا" (متفق عليه)(5).
- خاتمة:
- تذكير بالآية، وقصة النزول، والإشارة إلى الفوائد باختصارٍ شديدٍ.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــــــــ
(1) هذه الآية نزلت في حادثة، وتعلَّقت بها قصة نزلت على أثرها.
(2) قال ابن كثير -رحمه الله-: "نَهَى الله المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم؛ وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص... فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولون: رَاعِنَا، يورون بالرعونة، كما قال -تعالى-: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنتهم وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) (النساء:46)، وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم، بأنهم كانوا إذا سمعوا إنما يقولون: "السام عليكم"، والسام هو: الموت؛ ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ(وعليكم)" (تفسير ابن كثير).
(3) راعنا: معناها، راعنا سمعك، فافهم عنا وأفهمنا، فأمروا بانظرنا: أي: أنظر إلينا وتعهدنا.
(4) المقصود بذلك: اعتياد الخطاب بغير العربية حتى يصير ذلك عادة للبلد وأهله، مثل ما حدث في بعض البلاد العربية: كالجزائر، وتونس، والمغرب. والخلاصة: أن أهل الكتاب وملل الكفر تبغض الإسلام ورسوله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، فكان من الواجب علينا البراءة منهم، (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ) (البقرة:105).
(5) ولذا؛ فما تظنون بهذه النفوس إذا أُمِرَت بما هو أدنى من ذلك؟! وهم الذين أُمِروا ببذل النفوس والأرواح والأموال وترك الديار، ففعلوا.
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك