نعمة الله الوارفة بالإسلام والتوحيد
عبدالله أحمد علي الزهراني
إنَّ الْحَمْد لله نحمده ونستغفره ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لَا إِلَه إِلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
عباد الله؛ يقول الله في محكم التنزيل: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111]، لا إله إلا الله العظيم، سبَّحت له الأفلاك، وخضعت له الاملاك؛ ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الحديد: 1]، سبحانه وبحمده، كيف لا يستولي حُبَّهُ على القلوب، وكل خير منه نازل، وكل فضل إليه صاعد، فمنه سبحانه العطاء والمنع، والابتلاء والمعافاة، والقبض والبَسْطُ، والعدل والرحمة، واللطف والبر، والفضل والإحسان، والستر والعفو، والحلم والصبر، وإجابة الدعاء، وكشف الكربة، وإغاثة اللهفة، بل مطالب الخلق كلهم جميعًا لديه، وهو أكرم الأكرمين، وقد أعطى عبده فوق ما يُؤمِّله قبل أن يسأله، يشكر القليل من العمل ويُنمِّيه، ويغفر الكثير من الزَّلَلِ ويمحوه، لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، يجيب الدعوات، ويُقيل العَثَرات، ويغفر الخطيئات، ويستر العورات، ويكشف الكربات.
مَن ذا لجأ إليه فردَّه؟ ومن ذا الذي استنصر به فذلَّه؟ ينصر فيُخفَى نصره، ويمكر فلا يُعرَف مكره إلا حين وقوعه، ويبتلي ليحفظ على القلوب إيمانها وتقواها، يسمع صرخات المستضعفين، وأنين الخائفين، ودعوات المتهجدين.
دينه الإسلام ارتضاه لخلقه، وقَبِلَه منهم ولا يقبل منهم غيره: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].
هو الرحمن الرحيم، عمَّت رحمته السماء والأرض، والإنسان وبهيم الحيوان، غير أن الذين كفروا لا يعقلون ولا يعلمون.
أرسل المصطفى صلى الله عليه وسلم بنور ساطع، وضياء لامع، أضاء به الطريق، وأوضح به السبيل؛ ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81].
من أجل الإسلام والاستسلام لله والانقياد له، شمَّر المشمِّرون، ولبَّى الحجاج والمعتمرون، ودخل صلى الله عليه وسلم مكة فاتحًا، فطهُرت مكة من رجْسِ الوثنية، وهيمنة الأصنام؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ﴾ [الصافات: 4، 5]، وقد ختم الله بالإسلام الشرائعَ، وأنار به المضائق والمفاوز؛ ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [آل عمران: 19]؛ ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار)).
عباد الله:
إنه الإسلام دين عظيم، ثابتٌ وتدُه، عظيمٌ ألْقُه، سرى في الدنيا فبلغ المشارق والمغارب، فارتوت منه البشرية بعد ظمأ، وشبعت منه حتى الرِّيِّ بعد جوع وسَغْبٍ، وعفَّت به بعد قَذَرٍ ودَنَسٍ.
هو الإسلام يخفُتُ نوره حينًا، فتعرف البشرية هوانها وذُلَّها، وتتخبط في الظلمات، يأكل بعضهم بعضًا، فتقسو القلوب، وتتعفن الضمائر، وتتوحش المادة، ويغلي مِرْجلُ الشهوة، وتنتكس الفِطَرُ وتَحار العقول الراشدة، فيكون الإسلام رحمة وهدًى، سلامًا وأمانًا، مُستنقذًا ومُنقذًا، فحينئذٍ تشْرَئبُّ إليه النفوس الطيبة، وتُجِلُّه العقول المنصفة؛ إنها ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الحج: 78]؛ قال الحسن: "تمسكوا بدين الله"، وعن ابن عباس: "سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره"، وقيل: ادعوه ليُثبِّتكم على دينه"، ومنه قيل: "الاعتصام بالله هو التمسك بالكتاب والسنة"، ﴿ هُوَ مَوْلَاكُمْ ﴾؛ أي: ناصركم وحافظكم، حافظًا لقلوبكم من الزَّيغِ بعد الهدى، ومن الحَورِ بعد الكَورِ؛ ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8].
عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا مقلِّبَ القلوب، ثبِّت قلبي على دينك؛ ثم قرأ: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ [آل عمران: 8]، وجاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: ((قولي: اللهم ربَّ النبي محمد، اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظَ قلبي، وأجرني من مُضلَّات الفتن)).
نعم عباد الله، الإسلام حينما يقَرُّ في الصدر ويستقر، يجعله واحة من الرحمة والخير وفيضًا للعطاء والإيمان، وحينما تقحط القلوب منه، يجعلها مَطِيَّةً لكل ناعق، لا قرار لها ولا استقرار، كمن ينشد الري من ماء البحر، وهل يزيده إلا عطشًا وبلاءً؟
عباد الله، تأملوا قسوة تلك القلوب المبغضة للإسلام من المخالفين وتاريخهم من الفتك والقتل والاستباحة، من أين لهم بكل تلك القسوة؟ من أين جاؤوا بها؟ كيف انعدمت الرحمة من قلوبهم؟ يسلخون الحيوان حيًّا، وهم يتضاحكون من شدة ألمها عند تقطيعها وسلخها، يزدَرُون الأعراق، ويتعاملون بالدونية والاحتقار، ولا يرحمون ضعيفًا ولا مسكينًا؛ ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة: 13].
نعم، إنها قلوبٌ قاسية غليظة فظيعة لا تُجدي فيها المواعظ، ولا تنفعها الآيات والنُّذُرُ، فلا يرغِّبهم تشويق للخير والإسلام، ولا يُزعجهم تخويف.
عباد الله، حتى لا يصيبكم ما أصاب القوم من القسوة والغِلظة، والتجبر والفظاظة، تمسكوا بالهدى والنور، واعلموا أن لا خيرَ في قول لا يُراد به وجه الله، ولا خير في مال لا يُنفَق منه في سبيل الله، ولا خير فيمن يغلِبُ جهله حِلْمَهُ، ولا خير فيمن لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، وإن عظُمت عبادته وقلَّت خطيئته.
قال السعدي رحمه الله: "والحرمان كل الحرمان أن يغفُلَ العبد عن أمور الطاعة والخير، ويُشابه قومًا نسوا الله، وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها، فلم ينجحوا ولم يحصلوا على طائل، بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فرطًا، فرجعوا بخسارة الدين وغُبنوا غَبْنًا لا يمكن تداركه، ولا يُجبر كسره؛ لأنهم هم الفاسقون، خرجوا عن طاعة ربهم، وأوضعوا في معاصيه.
نسأل الله الحفظ، والعزيمة على الرشد، والثبات في الأمر.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين؛ أما بعد:
عباد الله:
اعلموا أن الصوارف في هذا الزمان كثيرة، والشواغل أكثر، تأتي للمرء من هنا وهناك؛ ولذا لا بد من العناية بالإيمان وإحاطته وتسْوِيره وتجديده، وتقوية صلة المرء بربه، وتجنب القوادح التي تؤثر في الإيمان نقصًا وضعفًا، شهوةً وشُبهة.
جاء في الحديث: ((إن الإيمانَ لَيَخْلَقُ في جوفِ أحدِكُمْ كَما يَخلَقُ الثَّوبُ، فاسْألُوا اللهَ تعالَى أنْ يُجَدِّدَ الإيمانَ في قُلوبِكمْ))، وقد سُئل الإمام أحمد رحمه الله: "أيزيد الإيمان وينقص؟ قال: يزيد حتى يبلغ السماوات، وينقص حتى أسفل سافلين"، وصح في الدعاء: ((اللهم زيِّنَّا بزينة الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مهتدين))، فعلى المرء عباد الله أن يلجأ صادقًا إلى الله أن يجدد الإيمان في قلبه، ومع الدعاء المجاهدةُ والصبر والمصابرة؛ ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله)).
كيف لا تصيب الغفلة من لا يحضر حَلَقَ العلم، ويغفل عن الرِّباط بين الصلوات، ولا يُقبل على العلم والدعاء؟
كان صلى الله عليه وسلم يقول كل يوم إذا أصبح في دعائه: ((اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا طيبًا، وعملًا متقبلًا)).
فالزموا حلق العلم، واقرؤوا كتب العلماء، وأقبِلوا عليها؛ حتى لا يُوصَدَ باب الخير والإيمان، وعمدةُ ذلك العنايةُ بالقرآن الكريم قراءة واستماعًا وتفسيرًا؛ ﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [التوبة: 124].
اللهم اجعلنا ممن يحب العلم ويُقبِل عليه، ويحضر مجالسه، ويُعنى بالقرآن تعلُّمًا وتعليمًا.
هذا عباد الله، وصلوا وسلموا على مَن أمركم الله بالصلاة والسلام عليه؛ فقال جل من قائل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على حبيبنا وسيدنا وشفيعنا، وقرة أعيننا وإمامنا ومعلمنا للخير، محمد بن عبدالله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
اضغط هنا للذهاب ل مصدر عنوان موضوعنا...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك