|
03-11-2016, 05:16 AM
|
مدير عام
|
|
تاريخ التسجيل: Aug 2012
المشاركات: 377,285
|
|
هل في علم الحديث قواعد ؟! - د. عصر محمد النصر
هل في علم الحديث قواعد ؟! ربِّ يسر وأعن
قد يبدو السؤال غريبا إذا اختبر به علم من العلوم, أو القي في ساحته, ومع هذا القدر من الاستغراب فالنظرة العلمية تتطلب الوقوف على سياق هذا السؤال وفهم موجباته, حيث شاع عند كثير من المتأخرين أن علم الحديث علم قرائن لا قواعد, وأن الحكم فيه يدور مع القرينة هكذا بإطلاق حتى غاب خلفه ذلك الكم الهائل من قواعد وأصول حديثية احتوتها كتب العلماء, فهذا محل السؤال وسياقه!, ولم يكن لهذا السياق أن يكون لولا أن وجدت له ممهدات وأسباب اقتضته, يمكن حصرها بنقاط أربع تتضمن السبب وصورته وبيان الخطأ الذي اكتنفه على النحو الآتي :
الأولى : غياب ملامح تاريخية العلم عامة والحديث بصورة خاصة : يمثل تاريخ العلم أهم أبوابه التي يستطيع المتعلم أن يتعرف على العلم من خلالها, حيث يقف على مراحل نشأته وتطوره بما في ذلك تصور دقيق لملامح تكون قواعده وأصوله ومصطلحاته, وعلى قدر الإلمام بهذا التاريخ يكون التصور عند الناظر, وكلما نقص اطلاعه وإلمامه نقص تصوره ومن ثمّ أحكامه عليه.
تمثل القاعدة العلمية مكون رئيس في أي علم من العلوم, بل هي ضرورة علمية لا يسمى العلم علما إذا فقدت, وبيان هذا أن العلم عادة يبدأ على صورة مفاهيم كلية تتداول بين علماء الفن الواحد ثم تأخذ طابعا أكثر دقة وتحديدا من خلال الممارسة للعلم, حتى تكون المصطلحات الضابطة الجامعة لمشكلات العلم والناظمة لأبوابه, ومن هذه المجموعات المصطلحية تتكون القواعد الناظمة للعلم, وهذه المراحل مطردة في كل علم, وبالعودة إلى علم الحديث محل البحث, فهو من أوائل العلوم التي نضجت, وهذا يعود لعلاقته بالوحي, حيث مثل في جانب مهم منه العلم الإجرائي لتميز النصوص المنقولة وفحصها, ومثال ذلك : قاعدة الاتصال, ومفادها أن الاتصال شرط لقبول الحديث, فهذه قاعدة كلية لا يخالف فيها أحد, وتحت هذه القاعدة منظومة إجرائية واسعة من القواعد والمصطلحات المتعلقة بها, كصور السماع وما يتعلق بكل واحدة منها من اتفاق واختلاف وما يترتب على ذلك من حكم, وكأنواع الانقطاع وحكم كل نوع وما جرى فيه من اختلاف.
الثانية : العمل بالقرائن : اشتهر عند المتأخرين أن علم الحديث علم قرائن, وأن الحكم فيه يدور مع القرينة, وفي تقرير هذا الأمر دخلت مبالغات تمثلت بالإطلاق وبالسياق الذي وضع فيه الكلام, وفي بيان أهمية القرائن في هذا الباب يقول الدكتور الملّباري :" ... بيد أن النقاد صرفوا عنايتهم البالغة إلى جوانب أخرى, حيث كانت تفرض عليهم ذلك, لما فيه من غموض وخفاء, ألا وهي أخطاء الثقات وأوهام الضعفاء غير المتروكين, لأن كشفها لا يخضع لقاعدة كلية, ولا يضبطها ضابط مطرد, كما هو الحال في الموضوعات "( نظرات جديدة ص72), ويقول في موضع آخر :" ... وإذا كانت العلل تدرك بالمخالفة والتفرد إلا أن ذلك متوقف على تتبع القرائن التي تنضم إليهما, وقدرته على تحديد نوعيتها التي لا تنضبط عادة بقواعد محددة "( المصدر السابق 140), ولذلك اشتهرت عبارة الإمام ابن رجب على لسان كثير من المتأخرين وهي قوله :" ...ولهم في كل حديث نقد خاص, وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه "( شرح العلل 2\582), وقد نزّلت هذه العبارة منزلة غير ما ينبغي أن تكون بها, حيث نقلت من منزلة الاستثناء إلى أن تأخذ طابع القاعدة, وسياق العبارة لا يسعف هذا التوجه فهي في سياق الكلام على أحاديث الثقات, ووجه الخطأ في هذه المسألة يعود لعدم التفريق بين الجانب النظري التقعيدي وبين جانب التطبيق, وهذا الفرق بين البابين مطرد في كل علم, حيث يخضع كل باب منها إلى قواعد تخصه وأحكام, وتنزيل كل باب منزلة الآخر أنتج لنا اضطرابا بيّنا في العلم, ومن هذا الباب التفريق بين الترجمة العامة للراوي والتي تُعنى بالوصف العام له, وبين الترجمة الخاصة التي تُعنى بالوصف المباشر المؤثر في الحكم على الراوي وحديثه, وثمة نكتة مهمة في هذا الباب وهي أن القرائن من جنس القواعد, وإنما الكلام فيما يمكن أن يعمل به في الحالة المخصوصة, وهذا هو المراد بباب التطبيق وتنزيل الحكم على الحديث المخصوص, وقد أشار إلى نحو هذا الدكتور عادل الزُّرقي في كتابه " قواعد العلل وقرائن الترجيح " حيث قال :" وخلاصة ما سبق نقله, أن الحكم في علل الحديث ليس قولا واحدا مطردا في كل حديث, بل كل حديث له حكم خاص به, يعرف ذلك من قواعد كلية استقرائية, مجموعة من كلام الحفاظ, من خلال أحكامهم على الجزئيات, بتلمس الأسباب التي دعتهم إلى ترجيح رواية على أخرى مع سلامة المرجوح ابتداءً "(ص49), ولعل من أسباب هذه السيولة في التعامل مع القواعد الحديثية المتقررة عند علماء الحديث, هو ما رآه البعض من مبالغة بعض المتأخرين في إهمال القرائن والجمود على القواعد وتنزيلها على الواقع الحديثي.
الثالثة : أن علم الحديث إلهام : وهذه العبارة كسابقاتها كان لها أثر في تعميم القول بأن علم الحديث لا قواعد له, وقد أحسن فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور همام سعيد في الوقوف عند هذه العبارة وبيان سياقها وما يمكن أن تحمل عليه, ولعلي هنا أنقل بعض كلامه الذي وضح به هذه العبارة, من ذلك قوله :" أما كلام النقاد – كابن مهدي وأبي زرعة- فإنه يحمل على أن من يجهل هذا العلم لا يمكنه الإحاطة بطرائقه ومعارفه وعناصره, وعرض الدليل والبرهان يلزم منه وجود من يدركهما لأنهما ثمرة هذه المعارف المتنوعة الشاملة وغير ذوي الاختصاص يكفيهم الحكم المتضمن صحة أو ضعفا أو يبطلانا, فإن حرصوا على المزيد فعليهم أن يسلكوا مسلك النقاد في إعداد الرصيد الكافي "( مقدمة شرح العلل 1\123) وأما عن وجه الغرابة التي يجدها بعض الناس ممن ليس الحديث صنعته, فيقول :" وعلى هذا يمكن تخريج كلام النقاد, إذ أن كل علم هو كالعرافة والسحر بالنسبة لمن يجهله, وكلام أبي حاتم وهو يشبه معرفة الناقد للعلة لمعرفة الصائغ للدرهم الزائف من الجيد إنما يعني به أن الحديث صناعة وفن كالصياغة التي صناعة وفن, ولكل منهما مبادئه وطرائقه وقوانينه " ثم أخذ يدلل على منهجية علم الحديث بكلام حسن يُرجع إليه في موضعه, وإنما المقصود هنا بيان سياق هذه العبارة وأنها لا تعني بحال من الأحوال تجرد علم الحديث عن القواعد.
الرابعة : التفريق بين المتقدمين والمتأخرين : تكلمت عن هذه المسألة في مقال مفصل قد مضى عرضه سابقا, والمراد هنا بيان أثر هذه المسألة على مسألة القواعد الحديثية وطريقة التعامل معها, والكلام في بعض جوانبها مضى في النقطة الثانية, حيث شاع بين المتأخرين أن طريقة المتقدمين من علماء الحديث تعود إلى إعمال القرائن على ما تقدم ذكره سابقا, إلا أن ثمة نكتة مهمة, وهي المبالغة في التعاطي مع مسألة المتقدمين والمتأخرين, مع اختلاف القائلين بها على معالم هذه المسألة, مما فتح باب إعادة القراءة لتراث أهل الحديث ورفض كثير مما دونه علماء الحديث المتأخرون, ولما كان الذي بين أيدي الدارسين هو النتاج التطبيقي دون كثير من التنظير الذي دونه المتأخرون, والتطبيق كما هو معلوم تعمل فيه القرائن بصورة ظاهرة؛ دخل الوهم على بعضهم في هذا الباب كما تقدم ورأوا أن علم الحديث علم القرائن لا القواعد, والأصل أن تعامل هذه المسألة كسائر مسائل العلم دون الأحكام المسبقة وإنصاف جهود المتأخرين من علماء الحديث, والتميز بين الصحيح والضعيف مما كتبه المتأخرون, والأصل فيما كتب أن يكون صحيحا مطابقا إلا ما قام الدليل على مخالفته.
إذن هذه إجابة مختصرة عن السؤال المتقدم, هل في علم الحديث قواعد ؟! أوضحت فيه أصل المسألة وسياقها وأهم المؤثرات فيها.
كتبه:
د. عصر محمد النصر
دكتوراة الحديث الشريف - جامعة اليرموك الأردنية
صفحة الدكتور على الفيسبوك:
www.facebook.com/asur.naser
صفحته على تويتر:
http://twitter.com/ibnmajjah77
المصدر... ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك
|
|
|