مختصر البداية والنهاية لابن كثير (سنة 181 - 182)
مختصر البداية والنهاية لابن كثير (سنة 180)
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=364324 ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ فِيهَا غَزَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونُ الرَّشِيدُ بِلَادَ الرُّومِ , فَافْتَتَحَ حِصْنًا يُقَالُ لَهُ : الصَّفْصَافُ . وَفِيهَا غَزَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ بِلَادَ الرُّومِ , فَبَلَغَ أَنْقَرَةَ , وَافْتَتَحَ مَطْمُورَةَ . وَفِيهَا تَغَلَّبَتِ الْمُحَمِّرَةُ عَلَى جُرْجَانَ . وَفِيهَا أَمَرَ الرَّشِيدُ أَنْ يُكْتَبَ فِي صُدُورِ الرَّسَائِلِ الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الرَّشِيدُ , وَتَعَجَّلَ فِي النَّفْرِ وَسَأَلَهُ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ أَنْ يُعْفِيَهُ مِنَ الْوِلَايَةِ فَأَعْفَاهُ وَأَقَامَ يَحْيَى بِمَكَّةَ . مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ : الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ أَحَدُ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ الْعَبَّاسِيَّةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ , أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَرْوَزِيُّ كَانَ أَبُوهُ تُرْكِيًّا , مَوْلًى لِرَجُلٍ مِنَ التُّجَّارِ مِنْ بَنِي حَنْظَلَةَ مِنْ أَهْلِ هَمَذَانَ , فَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ إِذَا قَدِمَهَا أَحْسَنَ إِلَى وَلَدِ مَوْلَاهُمْ , وَكَانَتْ أُمُّهُ خَوَارِزْمِيَّةً وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ , وَسَمِعَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ , وَالْأَعْمَشَ , وَهِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ , وَحُمَيْدًا الطَّوِيلَ , وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ . وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلَائِقُ مِنَ النَّاسِ وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالْحِفْظِ , وَالْفِقْهِ , وَالْعَرَبِيَّةِ , وَالزُّهْدِ , وَالْكَرَمِ , وَالشَّجَاعَةِ , وَلَهُ التَّصَانِيفُ الْحِسَانُ , وَالشِّعْرُ الْمُتَضَمِّنُ حِكَمًا جَمَّةً وَكَانَ كَثِيرَ الْغَزْوِ وَالْحَجِّ وَكَانَ لَهُ رَأْسُ مَالٍ , نَحْوُ أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ , يَدُورُ يَتَّجِرُ بِهِ فِي الْبُلْدَانِ , فَحَيْثُ اجْتَمَعَ بِعَالِمِ بَلْدَةٍ أَحْسَنَ إِلَيْهِ , وَكَانَ يَرْبُو كَسْبُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ , يُنْفِقُهَا كُلَّهَا فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ , وَرُبَّمَا أَنْفَقَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ . قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ : نَظَرْتُ فِي أَمْرِهِ وَأَمْرِ الصَّحَابَةِ , فَمَا رَأَيْتُهُمْ يَفْضُلُونَ عَلَيْهِ إِلَّا بِصُحْبَتِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ : مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِثْلُهُ , وَمَا أَعْلَمُ خَصْلَةً مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي ابْنِ الْمُبَارَكِ , وَلِقَدْ حَدَّثَنِي أَصْحَابِي أَنَّهُمْ صَحِبُوهُ مِنْ مِصْرَ إِلَى مَكَّةَ , فَكَانَ يُطْعِمُهُمُ الْخَبِيصَ ( دقيق يطبخ مع سكر وسمن ) وَهُوَ الدَّهْرَ صَائِمٌ . وَقَدِمَ مَرَّةً إِلَى الرَّقَّةِ وَبِهَا هَارُونُ الرَّشِيدُ , فَلَمَّا دَخَلَهَا انْجَفَلَ النَّاسُ يُهْرَعُونَ إِلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ , وَازْدَحَمَ النَّاسُ حَوْلَهُ فَأَشْرَفَتْ أُمُّ وَلَدٍ لِلرَّشِيدِ مِنْ قَصْرٍ هُنَاكَ , فَقَالَتْ : مَا لِلنَّاسِ ؟ فَقِيلَ لَهَا : قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ عُلَمَاءِ خُرَاسَانَ , يُقَالُ لَهُ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ , فَانْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ . فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ : هَذَا هُوَ الْمُلْكُ , لَا مُلْكَ هَارُونَ الرَّشِيدِ الذي يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَيْهِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا , وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ . ( لو ذهبتَ إلى تويتر اليوم , تجد بعض العلماء يتابعه من الناس أكثر ممن يتابع بعض الملوك لو أن أهل العلم صانوا العلمَ لَصانَهم ) وَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ مَرَّةً إِلَى الْحَجِّ , فَاجْتَازَ بِبَعْضِ الْبِلَادِ , فَمَاتَ طَائِرٌ مَعَهُمْ , فَأَمَرَ بِإِلْقَائِهِ عَلَى مَزْبَلَةٍ , وَسَارَ أَصْحَابُهُ أَمَامَهُ وَتَخَلَّفَ هُوَ وَرَاءَهُمْ , فَلَمَّا مَرَّ بِالْمَزْبَلَةِ إِذَا جَارِيَةٌ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ دَارٍ قَرِيبَةٍ مِنْهَا , فَأَخَذَتْ ذَلِكَ الطَّائِرَ الْمَيِّتَ , فَكَشَفَ عَنْ أَمْرِهَا وَفَحَصَ , حَتَّى سَأَلَهَا فَقَالَتْ : أَنَا وَأُخْتِي هَاهُنَا , لَيْسَ لَنَا شَيْءٌ إِلَّا هَذَا الْإِزَارَ , وَقَدْ حَلَّتْ لَنَا الْمَيْتَةُ , وَكَانَ أَبُونَا لَهُ مَالٌ عَظِيمٌ , فَظُلِمَ وَأُخِذَ مَالُهُ وَقُتِلَ . فَأَمَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ بِرَدِّ الْأَحْمَالِ , وَقَالَ لِوَكِيلِهِ : كَمْ مَعَكَ مِنَ النَّفَقَةِ ؟ فَقَالَ : أَلْفُ دِينَارٍ . فَقَالَ : عُدَّ مِنْهَا عِشْرِينَ دِينَارًا تَكْفِينَا إِلَى مَرْوَ , وَأَعْطِهَا الْبَاقِيَ , فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ حَجِّنَا فِي هَذَا الْعَامِ . ثُمَّ رَجَعَ . وَكَانَ إِذَا عَزَمَ عَلَى الْحَجِّ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ : مَنْ عَزَمَ مِنْكُمْ عَلَى الْحَجِّ ؟ , فَيَأْخُذُ مِنْهُمْ نَفَقَاتِهِمْ , وَيَكْتُبُ عَلَى كُلِّ صُرَّةٍ اسْمَ صَاحِبِهَا , وَيَجْمَعُهَا فِي صُنْدُوقٍ , ثُمَّ يَخْرُجُ بِهِمْ فِي أَوْسَعِ مَا يَكُونُ مِنَ النَّفَقَاتِ وَالرُّكُوبِ , وَحُسْنِ الْخُلُقِ , وَالتَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ , فَإِذَا قَضَوْا حَجَّتَهُمْ يَقُولُ لَهُمْ : هَلْ أَوْصَاكُمْ أَهْلُوكُمْ بِهَدِيَّةٍ ؟ , فَيَشْتَرِي لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا وَصَّاهُ أَهْلُهُ مِنَ الْهَدَايَا الْمَكِّيَّةِ وَالْيَمَنِيَّةِ وَغَيْرِهَا , فَإِذَا جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةَ اشْتَرَى لَهُمْ مِنْهَا الْهَدَايَا الْمَدَنِيَّةَ , فَإِذَا قَفَلُوا ( رجعوا ) بَعَثَ مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ إِلَى بُيُوتِهِمْ , فَأُصْلِحَتْ وَبُيِّضَتْ أَبْوَابُهَا وَرُمِّمَ شَعَثُهَا , فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى أَوْطَانِهِمْ عَمِلَ وَلِيمَةً بَعْدَ قُدُومِهِمْ , وَدَعَاهُمْ فَأَكَلُوا , وَكَسَاهُمْ , ثُمَّ دَعَا بِذَلِكَ الصُّنْدُوقِ فَفَتَحَهُ وَأَخْرَجَ مِنْهُ تِلْكَ الصُّرَرَ , ثُمَّ يُقْسِمُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ نَفَقَتَهُ الَّتِي عَلَيْهَا اسْمُهُ فَيَأْخُذُونَهَا وَيَنْصَرِفُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ , وَهُمْ شَاكِرُونَ نَاشِرُونَ لِوَاءَ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ . وَكَانَتْ سُفْرَتُهُ ( خزانة طعامه ) تُحْمَلُ عَلَى بَعِيرٍ وَحْدَهَا , وَفِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَأْكُولِ مِنَ اللَّحْمِ وَالدَّجَاجِ وَالْحَلْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ , يُطْعِمُهُ وَهُوَ صَائِمٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ . وَسَأَلَهُ مَرَّةً سَائِلٌ فَأَعْطَاهُ دِرْهَمًا فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ : إِنَّ هَؤُلَاءِ يَأْكُلُونَ فِي غَدَائِهِمُ الشِّوَاءَ وَالْفَالَوْذَجَ ( حليب يُطبخ مع النشا حتى يجمد ويُصب على وجهه عسل أو سكر معقود , والعامة اليوم يسمونه : البالوظا ) وَقَدْ كَانَ يَكْفِيهِ قِطْعَةٌ . فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَأْكُلُ إِلَّا الْبَقْلَ وَالْخُبْزَ , فَأَمَّا إِذَا كَانَ يَأْكُلُ الشِّوَاءَ وَالْفَالَوْذَجَ فَلَا بُدَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ , يَا غُلَامُ : رُدَّهُ وَأَعْطِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ . وَفَضَائِلُهُ وَمَنَاقِبُهُ وَمَآثِرُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا . قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَبُولِهِ وَجَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَعَدْلِهِ . تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ بِهَيْتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ , فِي رَمَضَانِهَا , عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً . يَعْقُوبُ التَّائِبُ الْعَابِدُ الْكُوفِيُّ قَالَ مَنْصُورُ بْن عَمَّارٍ ( الواعظ الشهير ) : خَرَجْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَأَنَا أَظُنُّ أَنِّي قَدْ أَصْبَحْتُ , فَإِذَا عَلَيَّ لَيْلٌ , فَجَلَسْتُ إِلَى بَابٍ صَغِيرٍ , وَإِذَا شَابٌّ يَبْكِي وَهُوَ يَقُولُ : وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ مَا أَرَدْتُ بِمَعْصِيَتِكَ مُخَالَفَتَكَ , وَلَكِنْ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي , وَغَلَبَتْنِي شِقْوَتِي , وَغَرَّنِي سَتْرُكَ الْمُرْخَى عَلَيَّ فَالْآنَ مِنْ عَذَابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُنِي ؟ وَبِحَبْلِ مَنْ أَتَّصِلُ إِنْ قَطَعْتَ حَبْلَكَ عَنِّي ؟ وَاسَوْأَتَاهُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ أَيَّامِي فِي مَعْصِيَةِ رَبِّي ! يَا وَيْلِي كَمْ أَتُوبُ وَكَمْ أَعُودُ ! قَدْ حَانَ لِي أَنْ أَسْتَحْيِيَ مِنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ . المصدر... |
الساعة الآن 05:57 PM |
Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved.
mamnoa 2.0 By DAHOM