شبكة ربيع الفردوس الاعلى

شبكة ربيع الفردوس الاعلى (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/index.php)
-   تفريغ المحاضرات و الدروس و الخطب ---------- مكتوبة (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/forumdisplay.php?f=350)
-   -   التجارة مع الله أربح التجارات (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/showthread.php?t=269589)

ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران 04-28-2016 07:05 AM

التجارة مع الله أربح التجارات
 
التجارة مع الله أربح التجارات


الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع





﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 207]



إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.



أمَّا بعدُ:

فيقول نبي الهدى محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم: ((كل الناس يغدو فبائعٌ نفسه فمعتقها، أو موبقها))؛ رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.



ففي هذا الحديث يُبيِّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس في هذه الحياة الدنيا غادون مستغرقون في أمورها، ولكنهم بين إحدى حالين، حينما يبيع الواحد منهم نفسه، فإما أن يعتقها من عذاب الله تعالى وسخطه، إلى رضوانه وجنته ونعيمه، وإما أن يُوبقها بأن يهلك هذه النفس، ويجعل عاقبتها إلى خسرٍ في الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ ولذلك أخبر الله جل وعلا في كتابه الكريم أن من عباده من عقدوا الصفقات معه جل وعلا، صفقات الربح والفوز والفلاح، بخلاف أُناسٍ باعوا أنفسهم للضلال والانحراف والهوى.



يقول الله جل وعلا مُخبرًا عن أمثال هؤلاء، مُخبرًا عن عباده المؤمنين الذين ابتغوا رضوانه، فباعوا أنفسهم لهم جل وعلا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ [التوبة: 111]، ويقول الله جل وعلا: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207].



وأخبر سبحانه عن أن هذه التجارة مع الله جل وعلا حينما يريد بها المؤمن رضا الله، أنها تجارةٌ رابحة، وأن عاقبتها إلى خير؛ يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ﴾ [الصف: 10، 11].



وعند هذه الآية الكريمة من سورة البقرة، أتوقف وإياكم في بعض دلالاتها، وما ينبغي للمؤمن في ضوئها؛ حيث يقول سبحانه: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾، فالله سبحانه لما أخبر عن الفئة السابقة وهم المنافقون بصفاتهم الذميمة؛ حيث قال الله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 204 - 206].



لما ذكر الله صفات هذه الفئة، ذكر صفات المؤمنين الحميدة، فقال مُمتدحًا لهم: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ﴾، وتأمل هذا التعبير القرآني: ﴿ يَشْرِي نَفْسَهُ ﴾؛ بمعنى - كما قال المفسرون في هذا المقام - البيع، فهو يبيع نفسه كلها لله جل وعلا، ويُسلمها كلها، لا يستبقي منها بقية، فكل حياته لله جل وعلا؛ في كل لحظةٍ، وكل سكنة، وفي كل حينٍ، وفي كل تصرُّف، ولا يرجو من وراء هذا البيع لله جل وعلا غايةً إلا مرضاة الله سبحانه، ليس له فيها شيء، وليس له من ورائها شيء، بيعةٌ كاملة لا تردُّد فيها، ولا تلفُّت لتحصيل ثمنٍ من أثمان الدنيا، ولا استبقاء بقيةٍ لغير الله جل وعلا، وإنما يبيع نفسه كلها لله سبحانه.



وقد جاء في بعض الروايات بيان سبب نزول هذه الآية، وتوضح كيف أن المؤمن إذا ابتغى وجه الله جل وعلا، كانت عاقبته إلى خيرٍ وربحٍ عظيم، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: "نزلت في صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه، وذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة، منعه الناس أن يهاجر بماله، وكان ذا مالٍ يُتاجر به، فلما اعترضوه عرَض عليهم عرضًا، وقال لهم رضي الله عنه وأرضاه: "إنكم لتعلمون أني من أشد الناس إصابةً في الرمي والسهام، فإن شئتم أن أُخلي بينكم وبين مالي، وتُخلوا بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهاجر إليه، وإما أن أنثر كِنانتي وأرميكم سهمًا من وراء سهم، ثم أبارزكم بالسيف"، فخلوا بينه وبين الهجرة، وأخذوا كل ماله الذي استبقاه لوجه الله جل وعلا، فلما أقبل على المدينة، قابله الصحابة منهم أبو بكرٍ رضي الله عنه وقال له: "ربح البيع صهيب، ربح البيع صهيب".



وجاء في روايةٍ عند الحاكم وقال: إنها على شرط الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذلك: ((ربح البيع.. ربح البيع)).



فتأمل أنها مبايعةٌ مع الله جل وعلا، ترَك ماله، وترك كل ما جمَع، يبتغي بذلك وجه الله:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207].



فهؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم، وأرخصوها لوجه الله جل وعلا؛ طلبًا لمرضاته، ورغبةً في ثوابه، فهم بذلوا الثمن للمَلِي الوَفِي لله جل وعلا الرؤوف بالعباد، الذي من رأفته ورحمته سبحانه أن وفَّقهم لذلك، وقد وعد الوفاء على هذا، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾ [التوبة: 111]، وفي هذه الآية أخبر سبحانه أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها لله جل وعلا.



ويدخل في هذا البذل وفي هذا التوجُّه نحو الله تعالى والصفقة معه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾، وفي قوله سبحانه: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ﴾ مَن يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله - يدخل في ذلك كل مشقةٍ يتحملها الإنسان في طلب الدين، فيدخل في ذلك المجاهد في سبيل الله، وهذا بأعلى المنازل، فهو ذِروة سنام الإسلام، ولذلك كان جزاؤه أعظم الجزاء وأوفاه؛ ففي الدين الإسلام أعظم الثواب وأجزله للمجاهدين في سبيل الله، ويدخل في ذلك أيضًا الباذل مُهجتَه الصابر على القتل، حينما يُلجأ إليه في مقابل دينه؛ كما فعل أبو عمار وأمه، وكما فعل ياسر رضي الله عنه، وكما فعلت سمية والدة عمار بن ياسر.



ويدخل فيه أيضًا المشتري نفسه من الكفار بماله؛ كما فعل صهيبٌ رضي الله عنه، ويدخل فيه أيضًا من يُظهر الدين والحق، وينشره بين الناس مهما واجَه في ذلك من الصعاب، وكلٌّ بحسبه، وبقدر ما صنَع، فإن الله تعالى يَجزيه الجزاء الأوفى.



ومن هنا أيها الإخوة في الله، ينبغي على الإنسان أن يُراجع نفسه، وأن ينظر في مسعاه في هذه الحياة الدنيا، وفي تجارته، فكما قال نبي الهدى محمدٌ صلى الله عليه وسلم: ((كل الناس يغدو)).



فانظر يا عبد الله على أي حالٍ أنت غادٍ، وفي أي مجالٍ أنت ساعٍ، هل هو فيما يرضي الله جل وعلا، تأمَّل حسناتك وسيئاتك، تأمَّل الطاعات التي افترض الله عليك، هل أنت آتٍ بها كما أمر الله جل وعلا، تأمَّل أمور هذه الحياة الدنيا وتكاليف معيشتها، هل أنت قائمٌ بها كما أمر الله سبحانه وتعالى.



إن مفهوم التدين ومفهوم الصفقة مع الله جل وعلا، شاملٌ لكل لحظات حياتك، ولكل توجهاتك، إنه ليس أمرٌ مختص بالعبادات المحضة، ولكنه في كل لحظات حياتك؛ في أكلك وشربك، في عملك وعموم مساعيك، وقد قعَّد النبي صلى الله عليه وسلم قاعدةً عظيمةً في هذا الباب، وهي أن الإنسان يؤجر على كل شيء حتى على ما يتعاطاه من شهوات نفسه؛ شهوة فرْجه أو بطنه، أو غير ذلك، فإن كانت من طريق حلال وفي مجالٍ حلال، فإن له الأجر والثواب، وإن كانت من سبيلٍ محرم وفي سبيل محرم، فعليه المؤاخذة والإثم.



أيها الإخوة الكرام، إن فترة هذه الصفقة مع الله جل وعلا، هي هذه الحياة التي نعيشها، والله جل وعلا قد قدَّر لكل واحدٍ أجلَه، فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعةً ولا يستأخرون، فبعض الناس ربما جعل أول هذه الصفقة مخلَّطًا، وربما أمهل، وقال: إذا بلغت من العمر كذا وكذا، أو إذا حصل كذا وكذا، صحَّحت حالي، وهيأت وضعي، وأحسنت الصلة بالله جل وعلا، ولكن مَن يضمن له؟ فإن هذه الصفقة مجالها الحياة الدنيا، وقد تَحِل ساعة الأجل ويُستنفَد الوقت، وحينئذ يتمنى الإنسان وأنَّى له أن يصنع أو يغير؛ ولذلك قال الله جل وعلا: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الزمر: 53 - 58].



بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدْي النبي الكريم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

♦ ♦ ♦ ♦ ♦



الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.



أمَّا بعدُ:

فنتأمل أيها الأخوة الكرام في هذه الآية الكريمة ودَلالاتها العظيمة، وقد جاء في آخرها خبر الله تعالى عن رأفته بالعباد: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207].



فأخبر سبحانه برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا، وبذل ما به رغبوا، فلا تسل بعد ذلك عما يحصل لهم من الكريم جل وعلا، وما ينالهم من الفوز والتكريم، وإخبار الله تعالى عن اسمٍ من أسمائه هنا، والله رؤوف بالعباد، وخبره عن صفةٍ من صفاته الجليلة رأفته بهم سبحانه وتعالى، وهذه الصفة هي أخص من صفة الرحمة؛ ذلك أن الرحمة عامةٌ شاملةٌ، ولكن الرأفة فيها خصوصيةٌ، وبالأخص لعباد الله المؤمنين، وبخاصةٍ أيضًا أنها تكون في ظاهرها وباطنها في عاجلها وآجلها، خيرٌ لهؤلاء الذين اختصهم الله جل وعلا برأفته، نسأل الله تعالى من فضله.



ومن رحمته سبحانه وتعالى وخصوص فضله، أنه جعل الرأفة بهؤلاء العباد الذين أرادوا معه سبحانه وتعالى صفقةً رابحة.



من مظاهر رأفته سبحانه أنه لم يُكلفهم فوق طاقتهم؛ كما قال سبحانه: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، فما امُرِوا به في هذه الصفقة والتجارة مع الله أمرٌ مُستطاع، ولذلك تتابع عليه عباد الله، ونالوا الحظوة العظمى، ومنهم من قد وضع رحاله اليوم في جنات النعيم، ونال الصفقة مُعجَّلة، وهذا يكون لكل مؤمن يُغادر هذه الحياة الدنيا وقد أراد الله له الجنة، فإنه يأتيه من رَوح الجنة وريحها ونعيمها ما شاء الله إلى أن تقوم الساعة.



ومن مظاهر رأفة الله جل وعلا أنه أسبغ على هؤلاء العباد نِعَمه ظاهرةً وباطنةً في الدنيا، مع تقصيرهم فيما أمرهم به، أو نهاهم عنه، فإن هؤلاء الذين عقدوا الصفقة مع الله، وأرادوا التجارة معه، مع صدقهم وإخلاصهم وحرصهم، إلا أنهم لا يبلغون الكمال، فلا بد من الزلل والخطأ، ولكن الله تعالى شمِلهم برحمته وواسع عفوه، فإنه لا يؤاخذهم بهذا التقصير، بل يتجاوز ويعفو ويغفر، نسأل الله من فضله.



ومن رأفته جل وعلا ورحمته التي تمتد في هذا المجال، أن المُصِر على الكفر مهما تطاوَل به العمر ولو بلغ مئات السنين، والمُصر على الذنب والخطيئة، أنه إذا تاب ولو في لحظةٍ، أسقط عنه المؤاخذة في كل ذلك، وهذا واضحٌ في عموم نصوص الكتاب والسنة التي بيَّنت أن الله تعالى فتح أبواب التوبة حتى على مَن أساؤوا الأدب مع الله جل وعلا، وزعموا في حقه الباطل، فإن الله سبحانه قد قال في كتابه الكريم في شأن الذين زعموا له الصاحبة والولد: ﴿ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 74].



ومن رأفة الله سبحانه أنه كافأ هؤلاء الذين تاجروا معه، كافأهم بنعيمٍ دائمٍ مقيم، مع أن العمل الذي قدَّموه، والثمن الذي قدموه، إنما هو عملٌ يسيرٌ منقطع، ولو وُزِن هذا العمل الذي يقدمونه في هذه الصفقة بواحدةٍ من نِعَم الله جل وعلا، لرجحت به هذه النعمة!



ومن رأفته سبحانه أنه جعل العاقبة للمتقين لا للمفسدين، فإن الذين يتاجرون مع الله جل وعلا سيرون عاقبة هذه التجارة، وأنهم هم الرابحون الربح الأعظم، وأما الذين لم يدخلوا في التجارة مع الله جل وعلا، وإنما ارتضوا الحياة الدنيا وشهواتها وأهواءها - فإنهم سيعايرون الخسارة العظمى؛ كما قال سبحانه: ﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الزمر: 15].



ومن مظاهر رحمته سبحانه وتعالى ورأفته، أن كل شيء مُلكه النفس والمال، والوجود كله في هذه الحياة الدنيا، ومع ذلك يشتري مُلكه بمُلكه؛ فضلًا منه، ورحمةً وإحسانًا، فالإنسان لا يملِك التصرف، وليس له الاستقلال بشيءٍ مما أعطاه الله جل وعلا، حتى بحياته التي وهبه إياها سبحانه وتعالى، ومع ذلك قبل الله تعالى، بل عظَّم هذه التجارة وهذه الصفقة بما وجد من النية الصالحة لدى هذا العبد المؤمن.



ولك أن تتأمل ولله المثل الأعلى، لو أن تاجرًا من تجار الدنيا من أصحاب الثروات الكبرى، جاء إليك وقال: إني أريد أن أتاجر معك بمبلغٍ قدره كذا وكذا مليار من الريالات، فقلت: لا أملك، كيف أتاجر معك وكيف أدخل معك في صفقةٍ لا أملك ولو شيئًا يسيرًا منها؟!

فيقول لك: هذا مليار، خذه وتملكه، ثم تدخل معي التجارة فيه، فإنك تستعظم هذا، وتعده شيئًا عجيبًا غريبًا، ولله المثل الأعلى أن الله تعالى منحك أعظم من ذلك، هذه الحياة الدنيا كلها، هذه الروح والنفس الذي يتردد بين جنبيك، إلى غير ذلك من أنواع النعم، ثم كلفك ربك باليسير، عبادة تستقيم عليها، وطاعة لا تُفارقها، ومع ذلك كان من شروط هذه الصفقة أن الله يقول لك إن أخطأت ولم تقم بما أوجبت عليك، فإني لا أؤاخذك ولا أعاجلك، فإن لك مجالاً لأن تصحِّح من وضعك، وتعود كما كنت، بل إنك إذا صححت وضعك عدت إلى حالٍ أفضل من التي كنت عليها؛ كما يدل عليه قول الله جل وعلا: ﴿ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].



أيها الإخوة الكرام، هذه هي التجارة الرابحة، وهذه هي الصفقة النافقة التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمن، وألا يضيع حياته في أمور الحياة الدنيا على نحو يُسخط الله جل وعلا، ويجعله في نهاية الأمر في خسرانٍ مبين.



أسأل الله تعالى لي ولكم حُسن العاقبة والتجارة الرابحة في الدنيا والآخرة.



ألا وصلوا وسلموا على نبي الهدى محمدٍ بن عبدالله، وقد أمرنا الله بذلك، فقال عز من قائل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].



اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين.

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.

اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.

اللهم أصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا.


اللهم أصلح قلوبهم، واهدهم في أعمالهم، واجعلهم رحمةً على رعاياهم يا رب العالمين.

اللهم أصلح أحوال المسلمين واحقِن دماءهم في ليبيا وفي سوريا واليمن، وفي غيرها من البلاد.

اللهم قِنا وإياهم الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم اجمع شمْلهم وأصلح حالهم، وأحْسِن عاقبتهم يا رب العالمين.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربَّونا صغارًا.

اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

اللهم بلِّغنا شهر رمضان، اللهم بلِّغنا شهر رمضان، اللهم بلِّغنا شهر رمضان، وأعنَّا فيه على ما تحب يا رحمن.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.







المصدر...


الساعة الآن 06:01 AM

Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات

mamnoa 2.0 By DAHOM