شبكة ربيع الفردوس الاعلى

شبكة ربيع الفردوس الاعلى (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/index.php)
-   الموسوعة الضخمة مواضيع اسلامية هامة جداااااااااااااااااااااااا (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/forumdisplay.php?f=294)
-   -   فقه البدائل: الهجرة نبراسًا (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/showthread.php?t=78366)

منتدى فرسان الحق 10-28-2014 12:41 AM

فقه البدائل: الهجرة نبراسًا
 

فقه البدائل: الهجرة نبراسًا




علاء سعد حسن حميده




تهلُّ علينا ذكرى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو بالأحرى: تهلُّ علينا ذكرى التأريخ بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وبداية الدولة؛ إذ إن تاريخ هجرته الفعلية على الأرجح لم يكن في شهر المحرَّم، وإنما كان خروجُه صلى الله عليه وسلم من مكة في أواخر شهر صفر، ووصوله إلى قباء على مدخل المدينة في الثامن من ربيع الأول.

إننا نحتفي ببداية العام الهجري، وبداية المجتمع المسلم، وإقامة دولة النبي أكثر من احتفائنا بذكرى رحلة الهجرة ذاتها، وفي هذا إشارة إلى تخليد المعنى والمضمون أكثر من تخليد الحدث.

كل عام وتحل علينا الذكرى، فهل من مدَّكر؟
إن أعظم مميزات سيرة النبي صلى الله عليه وسلم - وهي مجموع حوادث حياته - سمةُ التجدُّدِ الدائم، فهي كما القرآن الكريم - باعتبارها التفسير العملي له - فهي لا تخلَقُ على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبها، فكيفما وأينما ووقتما احتجتَ إلى الاستفادة من دروس السيرة، وجدتَها هناك نبعًا صافيًا ميسرًا لتنهَلَ منه.

في زمن الأزمة عندما تتعدَّد، وتتشابك حزمة الأسباب، والعوامل المؤدِّية إلى تعقُّدِ الوضع، لا نملك في الواقع سوى التعامل مع مجموعة الأسباب الداخلية، مع الاعتراف بتأثير الأسباب الخارجية دولية وإقليمية ومحلية.

فالأسباب الداخلية متغيرات يمكننا التعامل معها، وتغييرُها والتحكم فيها، بينما الأسباب الخارجية موجَّهةٌ من خارجنا، بحيث يمكننا التعاطي معها بتفادِي تأثيراتِها، أو وضع إستراتيجيات لمواجهتها، بينما لا يمكننا التحكم فيها؛ فهي بأيدي غيرنا.

في زمن الأزمة تختلط المفاهيمُ، وتتداخل الغايات بالوسائل، وتلتبِسُ الثوابتُ بالمتغيرات، وتقديرات البشر واجتهاداتهم ورؤاهم وحصيلة عملهم على الأرض بقدَر الله الغالب.

إن درس الهجرة النبوية الشريفة الذي نحتاج إليه هذا العام - إذ لها في كل عام درس، ولكل أزمة مفتاحُ حلٍّ، ولكل حادث حديث - هو فقه البدائل.

إن مرونة المنهج الإسلامي وحيويتَه قائمةٌ على قدرة هذا المنهج الواقعي على توفير العديد من البدائل للاختيار من بينها في مواجهة الواقع المتأزِّم، كان النبي صلى الله عليه وسلم على الحق المطلق، ومعه المسلمون في مكة المكرمة، كانوا أصحاب الحق، ويمتلكون مشروعيَّة العقيدة، ومشروعية العبادة، ومشروعية الدعوة إلى الحق الذي آمَنوا به في أكناف المسجد الحرام، ولم يكن لقريش التي اضطهدتْهم، وواجهتْهم بالمحنة القاسية - أيُّ وجه حق أو شرعية، وكان الابتلاء - كما سيظل دائمًا - قدَرَ الله تعالى في الرسالات لتمحيص المؤمنين ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142]،ولم يستسلم النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الابتلاء؛ وإنما عدَّدَ سبُلَ المواجهة أمام تلك المحنة، ففتَحَ بابَ الهجرة إلى الحبشة، وظل يعرض نفسه على القبائل في مواسم الحج المتتالية، يبحث عن بيئة تحتَضِنُ هذا الدين، وخرج إلى الطائف بحثًا عن تلك البيئة الداعمة، ووجَّه أصحابَه القادرين لشراء العبيد من المسلمين، وعتقِهم لوجه الله، وسمح للبعض أن يُسِرَّ بإسلامه؛ إيثارًا للسلامة، وأحلَّ الله تعالى لبعض المضطهدين المجاهرةَ بالكفر - كعمار بن ياسر رضي الله عنه - وفيه نزل قول الحق: ﴿ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل: 106]، فلم يكن إيمان النبي صلى الله عليه وسلم بحتمية الابتلاء لِيَقعُدَ به عن فتح آفاق متعددة أمام المسلمين.

ثم جاءت الهجرة إلى المدينة بعد التحالف مع قبيلتَي الأوسِ والخَزْرجِ وفقَ بيعتَي العقبة الأولى والثانية، تتويجًا لفقه البدائل في الإسلام.

لقد ميز النبي صلى الله عليه وسلم بين الغايات والوسائل، كانت الغاية هي إعلاءَ كلمة التوحيد ورسالة التوحيد، وإيجاد بيئة تحتضن الرسالة والدعوة، وإنشاء المجتمع الذي تقوم عليه الدولة، والوسائل مختلفة ومتعددة "((من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي؛ فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي؟))".

ورغم كون مكة المكرمة حَرَمًا، ورغم أن بها أول مسجد وُضع للناس في الأرض، ورغم كونها مهبطَ الوحي ومنطلق الرسالة - إلا أنها لم تَعُدْ محضنًا صالحًا لاحتضان رسالة الإسلام، وحملها إلى العالمين، فلم تعد تلك الأرض من ثوابت الدين، ولتنطلق الرسالة من محضن آخرَ مناسب.

علمتنا الهجرة النبوية والخطوات التي سبقتها ومهدت لها: أن الإصرار على الثوابت ثبات ومرابطة، والإصرار على المتغيرات والوسائل جمود وتحجر! كما أن الإيمان بالقدر لا يعني ولا يسمح بالاحتجاج والتذرُّع به عند تقصيرنا في الأخذ بالأسباب، يقول الإمام ابن تيمية: "إن القدر نؤمن به ولا نحتج به، فمن احتج بالقدر فحُجَّتُه داحضة، ومن اعتذر بالقدر فعذره غير مقبول"[1]، أثبتت لنا هجرة النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان بحتمية الابتلاء لا يعني الاستسلامَ له، وعدم بذل الطاقة والوسع للخروج منه، وأن البحث عن المخارج من الأزمات ليس فرارًا من قدر الله إلا إلى قدر الله.

وعندما كان القرآن الكريم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم مثبِّتًا له وللذين آمنوا معه وهم يلاقون العذاب بمكة، بسرد قصص ثبات أصحاب الرسالات من قبلُ في وجه المحن، ويثبِّتُ النبيُّ أصحابه بحديث أصحاب الأخدود، فإن هذا المصير مع ذلك لم يكن اختياره ولا اختيار المولى عز وجل للأمَّة، على العكس من ذلك كان طلب النجاة بالعقيدة والنفس معًا فرضًا من الله تعالى على عباده عندما حبَّب إليهم اختيار الهجرة عن القعود بين ظهراني المشركين عرضة للفتنة والإيذاء والاضطهاد ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 72].

ويرفع الله تعالى المهاجرين درجة على القاعدين، وتصبح الهجرة لتأسيس المجتمع والدولة من دلائل تمام الإيمان، ويفتح الله على نبيه مكة المكرمة فلا تكون هجرة بعد الفتح؛ وإنما يظل المهاجر دائمًا أبدًا من هجر ما نهى الله عنه، وتظل هجرة المؤمنين من ضيق المحنة إلى سَعَة البدائل الممكنة في كل عصر، دون التفريط في غايات الدين وثوابته.


[1] (مجموع الفتاوى) المجلد الثامن.













الساعة الآن 02:31 PM

Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات

mamnoa 2.0 By DAHOM