شبكة ربيع الفردوس الاعلى

شبكة ربيع الفردوس الاعلى (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/index.php)
-   تفريغ المحاضرات و الدروس و الخطب ---------- مكتوبة (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/forumdisplay.php?f=350)
-   -   تفسير سورة الزلزلة (http://rabie3-alfirdws-ala3la.net/vb/showthread.php?t=234792)

ربيع الفردوس الاعلى و روضة القران 02-14-2016 09:42 AM

تفسير سورة الزلزلة
 
تفسير سورة الزلزلة


الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل





الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عزّ وجل ففي التقوى سعادة الدنيا وفوز الآخرة: ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾ [النساء: 77].

أيها المسلمون: كتاب الله تعالى فيه الدواء لمن أراد الشفاء، والعلوم لمن رام المعرفة. من حفظ حروفَهُ، والتزم حدوده، وتدبّر معانيه، وعمل بما فيه كان في الدنيا من علمائها، وفي الآخرة من سعدائها: ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴾ [طه: 2 - 3]، ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16].

أيها الإخوة: وهذا حديثٌ عن سورة من سوره العظيمة، قليلة في حروفها، عظيمةٍ في معانيها؛ فيها العبرة والعظة، والترغيب والترهيب، والتذكير بيوم الوعيد.


اعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزَّلزلة: 1 - 8].

إنَّها تَتَحَدَّثُ عن يوم القيامة وما يَجْرِي فيه من أهوال وعظائم، تبدأ هذه الأهوال بزلزلة الأرض؛ أي: اهتزازها واضطرابِها. والزلازل: هي أشدُّ ما يشهد العالم من حركة، وقد شوهِدَتْ زلازلُ حدثت في أقلَّ من ربع ثانية فأطاحت جسورًا، وحطمت قصورًا، وأهلكت بشرًا كثيرًا، ودمرت مدنًا كاملة[1].

ومع هذا فإنَّ زِلزالَ الدنيا ليس شيئًا يذكر عند زلزال الآخرة الذي وصف بالعظمة دلالة على قوته وشدة دماره: ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 1]. عبّر عن ذلك بالشيء العظيم إيذانًا بأن العقول قاصرة عن إدراك كُنْهِهَا، والعبارة لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام[2].

إنها زلزلة مهما أُطنب في وصفها، وذكر أجزائها فإن العقل لا يستطيع بلوغ العظمة التي وصفت بها، وإلا فما ظَنُّكُمْ بزلزلة تُسَيَّر على إثرها الجبال، وتُسَجَّر البحار، وتنفطر السماء، وتنتثر الكواكب: ﴿ وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ﴾ [الحاقَّة: 14]، ﴿ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ﴾ [الواقعة: 4 - 6].


هذه الجبال الرَّواسي الصِّلاب هل يَستَوْعِبُ العَقْلُ القاصِرُ أَنَّها ستصبح من شدة هذه الزلزلة صوفًا يتطاير حتى يتلاشَى: ﴿ وَتَكُونُ الجِبَالُ كَالعِهْنِ المَنْفُوشِ ﴾ [القارعة: 5]، ﴿ وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ﴾ [النمل: 88]، سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبحمْدِكَ ما أعظم قدرتَكَ! وما أشدَّ قُوَّتَكَ! وما أَضْعَفَ خلقك!

ومن جراء هذه الزلزلة العنيفة تقذف الأرض مكنوناتها، وتخرج ما في بطنها، من مُخَبَّأٍ وَمَدْفُونٍ، من إنس وجِنٍّ وَكُنُوزٍ: ﴿ وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴾ [الزَّلزلة: 2] فمن أثقالها: كنوزها والأمواتُ في داخلها[3]، قال أهل اللغة: إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقلٌ لها، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها، وسمي الجن والإنس بالثقلين؛ لأن الأرض تثقل بهم إذا كانوا في بطنها، ويثقلون عليها إذا كانوا فوقها[4]، وهذه الآية مثل قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ﴾ [الانشقاق:3 - 4] وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئًا))؛ أخرجه مسلم[5].

ولأجل هذه الزلزلة وما حدث من جرائها من تحريك شديد، وإزعاج عنيف؛ بحيث زالت الأشياء من مقارِّها، وخرجت عن مراكزها[6]، وألقت الأرض ما في داخلها، كان ذلك محلاً للسؤال والاستفهام عن هذا الحدث العظيم: ﴿ وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا ﴾ [الزَّلزلة: 3]؛ أي: أيُّ شيء عرض لها، يستنكر ما حدث لها، فأمَّا الكفار فيقولون: ﴿ وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ﴾ [يس: 25] فيجيبهم المؤمنون ﴿ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ المُرْسَلُونَ ﴾ [يس:52][7].

وحيث إن نظام العالم قد تغير بتلك الزلزلة فإن الخلق يُقبلون على مرحلة جديدة تنطق فيها الجمادات، وتشهد الأركان. إنها مرحلة الحساب، والسؤال والجواب، والنعيم والعذاب. ومن جملة الشهداء: الأرض؛ إذ تنطق وتشهد[8]، ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾ [الزَّلزلة: 4 - 5] يأمرها ربنا أن تخبر عمّا عُمِل عليها فلا تَعْصِي أمره؛ بل تشهد على العاملين بما عملوا على ظهرها من خير وشر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "قال لها ربها: قولي، فقالت"؛ وخرَّج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾ [الزَّلزلة: 4 - 5] قال: ((أتدرون ما أخبارها))؟ قالوا: "الله ورسوله أعلم"، قال: ((فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها أن تقول: عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا فهذه أخبارها))؛ قال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح[9].


﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴾ [الزَّلزلة: 6]؛ أي: ينصرفون فرقًا متفاوتين بحسب طبقاتهم، منهم: بيضُ الوجوه آمنين، ومنهم: سود الوجوه فزعين، كل جنس مع جنسه، يصدرون من كل ناحية[10]. ليس معهم ما كان يميزهم على الناس في الدنيا كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [الأنعام: 49]، وقال سبحانه: ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي العَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾ [الرُّوم: 14- 16].

يصدرون ليرى كل واحد منهم ما عمل في هذه الدنيا من خير وشر: ﴿ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ المَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ﴾ [النَّبأ: 40]، ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾[الزَّلزلة: 7- 8]. إنه عدل ربنا تبارَكَ وَتَعالى حيث يجد العبد جزاء الذرة: ﴿ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]. ﴿ وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47]، ﴿ إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40].


إنه كرمٌ واسعٌ، وعَدْلٌ تامٌّ، من ذي الجلال والإكرام. أتدرون رحمكم الله ما الذَّرَّةُ التي لا يضيع جزاؤها؟ أدخل ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها، وقال:"كل واحد من هؤلاء مثقال ذرة"[11].

وجاء العلم الحديث؛ ليسمى هذا العصر بعصر الذرة؛ لأن الإنسان اكتشفها، واستطاع أن يفتتها إلى جزيئات لتصبح الذرة الواحدة ذرات، وفرح الإنسان بما أوتي من علم، وما وصل إليه من تقدم واكتشاف، وزعم من زعم من طغاة بني آدم أن القرآن وقف عند الذرة، وأنَّ الإنسانَ تجاوز ذلك فاستطاع أن يفتت هذه الذرة؛ وما علم من قال ذلك أنه يَسْتدل بعلمه على جهله، وبقوله على قلة عقله؛ حيث إن القرآن ذكر ما هو أقل من الذَّرَّةِ: ﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61].

ولو لم يُذْكَرْ ذلك في القرآن لكان عند المؤمن الحق من الإيمان واليقين بقدرة الله تعالى وعظمته ما يرد شبهات أهل الزيغ والضلال: ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطَّلاق:12].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..


الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشْهَدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 88]، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وَمَنْ سار على نهجهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.

أمَّا بَعْدُ: فإنَّ لهذه السورة العظيمة فضلاً اخْتَصَّتْ به، فهي السورة الجامعة التي جمعت أسباب الخير فحثَّتْ عليه، والشر فحذرت منه، فمن أخذ بها فقد أخذ بالإسلام كله؛ دلَّ على ذلك أن رجلا أتى النبي صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم فقال: ""أقرئني يا رسول الله"، قال: ((اقرأ ثلاثًا من ذوات ﴿ الر ﴾ [يونس: 1])) فقال: "كبرت سني، واشتد قلبي، وغلظ لساني" قال: ((فاقرأ ذوات ﴿ حم ﴾ [غافر: 1])) فقال مِثْلَ مقالته الأولى، فقال: ((اقرأ ثلاثًا من المسبحات)) فقال مثل مقالته، فقال الرجل:" ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة، فأقرأه: ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا ﴾ [الزَّلزلة: 1] حتى إذا فرغ منها قال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها أبدًا، ثم أدْبَرَ الرَّجُلُ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفلح الرُّوَيْجِل، أفلح الرويجل..))؛ أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم[12].


إنَّ هذه السورة وُصفت بأنها الجامعة؛ لأنها حَوَتْ آيتين جمعتا عمل الثقلين من خير وشر؛ ولذلك لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسام الخيل، وأنها لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر وبيّن كيف ذلك، سئل صلى الله عليه وسلم عن الحُمر فقال: ((لم ينزل عليّ فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذّة: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [ القدر: 7 - 8]))؛ متفق عليه[13]، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "هذه أحكم آية في القرآن"[14]، ونقلوا عن كعب الأحبار أنه قال: "لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [15]، ولما قَدِمَ عَمُّ الفَرَزْدَق صعصعة بن معاوية المدينة سمع: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ قال: "حسبي لا أبالي أن لا أسمع غير هذا"؛ أخرجه أحمد[16].


إنَّ هذه السورة الشاملة الجامعة ترشد المسلم إلى الخير، وتحذره من الشر مهما كان قليلاً، فالقليل مع القليل يصبح كثيرًا، حتى الذرة لها وزنها عند رب العالمين، فأيُّ دين علّم أتباعه هذه المعاني العظيمة، وربّاهم على هذه الدقة المتناهية؟! وجاءت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكدة لهذا المعنى الدقيق، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا تحقِرَنَّ مِنَ المعروف شيئًا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وَلَوْ أَنْ تُكَلِّمَ أخاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ))؛ أخرجه أحمد[17]، وفي الصحيحين قال النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام: ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ولو بكلمة طيبة))[18].

وفي المقابل يجب على المسلم ألا يَحْتَقِرَ قليل الشر؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إياكم ومحقَّرات الذنوب؛ فإنَّما مُحَقَّرات الذنوب؛ كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود، حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن مُحقَّرات الذنوب متى يؤخذْ بها صاحبُها تهلكه))؛ أخرجه الإمام أحمد[19].


لقد فهم الصحابة رضي الله عنهم هذا المعنى الجليل الدقيق، فها هي أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - يستطعمها مسكين وبين يديها عنب فقالت لإنسان: "خذ حبة فأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويعجب، فقالت عائشة: أتعجب؟ كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة"[20].

قال ابن عبدالبر: "قد جاء مثل ذلك عن عبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، ومن اعتاد الصدقة تصدَّق مرَّة بالكثير، ومرَّة باليسير"[21].

وعن سعد بن مالك رضي الله عنه أن سائلا أتاه وبين يديه طبق عليه تمر فأعطاه تمرة فقبض السائل يده، فقال سعدٌ: "ويحك تقبَّل الله منا مثقال الذرة والخردلة، وكم في هذه من مثاقيل الذر"[22].

وبهذا يُعْلَمُ - أيها الأخوة - أن قليل الخير لا يحتقر؛ كما أن قليل الشر لا يحتقر؛ فقليل مع قليل يصبح كثيرًا

اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، والحمد لله رب العالمين.

[1] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (9/ 429).
[2] تفسير أبي السعود (6/ 91)، ومحاسن التأويل للقَاسِمِي (5/ 186).
[3] اختلف المفسرون في معنى ذلك على ثلاثة أقوال: أ - قيل: تخرج الأموات من بطنها؛ أي من قبورهم. ب - وقيل: تخرج كنوزها ويشهد له حديث أبي هريرة عند مسلم. ج - وقيل: تخرج أسرارها بالشهادة على العباد في موقف الحساب، والآية تحتمل هذه المعاني كلها إلا أن المعنى الثالث يدل عليه صراحة قوله تعالى: ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾ [الزلزلة: 4] فلا داعي لإقحامه في تلك الآية، وانظر: "النكت والعيون" للماوردي (6/ 319)، "وزاد المسير" لابن الجوزي (9/ 202)، "وتفسير الرازي" (32/ 55 - 56).
[4] نقل هذا عن أبي عبيدة والأخفش؛ كما في تفسير الرازي (32/ 55)
[5] أخرجه مُسْلِم في الزكاة؛ باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها واللفظ له (1013)، والترمذي في الفتن باب (36) (2209).
[6] تفسير أبي السعود (6/ 91)، ومحاسن التأويل (5/ 185).
[7] أضواء البيان (9/ 431).
[8] تفسير السعدي (5/ 445).
[9] أخرجه أحمد (2/ 374)، والترمذي في تفسير الزلزلة وقال: حديث حسن غريب صحيح (3353)، والنسائي في السنن الكبرى (11693)، والبغوي في شرح السنة (4308)، وفي معالم التنزيل (4/ 515)، والحاكم وصححه، فتعقبه الذهبي بقوله: يحيى هذا منكر الحديث قاله البخاري (2/ 532)، وصححه ابن حبان (7360)، ويحيى هو أبو سليمان صالح المدني ضعفه الأئمة، وهو علة هذا الحديث؛ ولكن معناه صحيح دلت عليه الآية، ومجمع عليه عند المفسرين؛ ولذلك أوردته.
[10] انظر: "زاد المسير" (9/ 204)، "وتفسير ابن كثير" (4/ 856).
[11] أخرجه هنَّاد في "الزهد" (193). وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 649).
[12] أخرجه أحمد (2/ 169)، وأبو داود في الصلاة؛ باب تحزيب القرآن (1399)، والنسائي في الكبرى (8027)، وهو في عمل اليوم والليلة برقم (716)، والحاكم وصححه على شرط الشيخين، وتعقبه الذهبي بأنه صحيح فقط، وليس على شرطهما (2/ 532)، وصححه ابن حبان (774)، والشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (6575).
[13] أخرجه البخاري في الجهاد، باب: الخيل لثلاثة (2860)، ومسلم في الزكاة؛ باب إثم مانع الزكاة (987)، والنسائي في الخيل (6/ 216)، وأحمد (2/ 262).
[14] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (20/ 104).
[15] الجامع لأحكام القرآن (20/ 104).
[16] أخرجه أحمد (5/ 59)، والنسائي في الكبرى (11694)، والحاكم في معرفة الصحابة (3/ 613).
[17] أخرجه أحمد (5/ 63)، قال الألباني بعد أن ذكره بسنده: وهذا إسناد صحيح رجاله رجال الشيخين غير عقيل بن طلحة وهو ثقة، انظر: "السلسلة الصحيحة" (1352).
[18] أخرجه البخاري في الزكاة؛ باب اتقوا النار ولو بشق تمرة (1417)، ومسلم في الزكاة؛ باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة (1016).
[19] أخرجه أحمد من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه (5/ 331)، والبيهقي في شعب الإيمان (7267)، والطبراني في الأوسط واللفظ له (7323). قال الهيثمي: "رواه أحمد ورجاله رجال صحيح، ورواه الطبراني في الثلاثة من طريقين ورجال أحدهما رجال الصحيح غير عبدالوهاب بن عبدالحكم وهو ثقة" انظر: "مجمع الزوائد" (10/ 190)، وصححه الألباني وقال: على شرط الشيخين، انظر: "السلسلة الصحيحة" (389). وله شاهد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه رواه أحمد (1/ 402)، والطبراني في الأوسط (2529)، وصححه الشيخ أحمد شاكر في شرحه على المسند (3818).
[20] الاستذكار (27/ 407)، والدر المنثور وفيه آثار كثيرة جدًّا (6/ 649).
[21] الاستذكار (27/ 407 - 408).
[22] الدر المنثور (6/ 649).






المصدر...


الساعة الآن 10:22 AM

Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved. منتديات

mamnoa 2.0 By DAHOM