المحافظة على الأمانة
الشيخ صالح بن عبدالرحمن الأطرم
الحمد لله القائل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]، أحمده سبحانه حمدًا يُوافي نِعمَه، وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله، أمرنا بالمحافظة على الأمانة، وحذَّرنا من الخيانة، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 27]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فأيها الناس:
اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله ائتمننا على أداء ما كلَّفنا به من الأوامر، وترْك ما نهانا عنه من المُحرَّمات، والمكروهاتِ التي هي وسيلة إلى ارتكاب المحرمات، واعلموا أن الدافع والحامل والباعث إلى العصيان وعلى العصيان اتباعُ شهوات النفس الأمارة بالسوء، والانسياق وراء الشيطان المُحسِّن والمزيِّن لسوء الأعمال، قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ﴾ [فاطر: 8]، وبهذا يَصُد الإنسانَ عن الصراط السوي والطريق المستقيم، ويتولاه الشيطان اللعين، فيحق عليه العذاب الأليم، فالله - جل وعلا - خلَق ذوات الأرواح فكانت ذات شهوة خالصة، أو عقل خالص، أو عقل وشهوة، فالأول البهائم، والثاني الملائكة، والثالث الثَّقلان: الجن، والإنس، فمَن رجحت به شهوتُه كان في حساب البهائم، ومَن رجَح به عقله ونفسه كان في حساب الملائكة، وهؤلاء هم صالحو المؤمنين؛ الذين قال الله تعالى فيهم ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَؤونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 22 - 24]، وهذه ثمرات التقوى، والقول الرشاد، وطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
لما أرشد الله تعالى المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وأدَّبهم بأحسن الآداب، بيَّن أن التكليف الذي وجَّهه الله تعالى إلى الإنسان أمر عظيم، فقال: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]، فالأمانة هي: التكليف، وسُمِّيت أمانة؛ لأن مَن قصَّر فيها فعليه الغرامة، ومن وفَّى فله الكرامة، وقوله تعالى: ﴿ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا ﴾،لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى: ﴿ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 31]، من وجهين:
أحدهما: أن السجود كان فرضًا، وهنا الأمانة كانت عرضًا.
ثانيهما: أن الإباء هناك كان استكبارًا، وهنا كان الإباء استصغارًا، استصغرن أنفسهن؛ بدليل قوله تعالى: ﴿ وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ﴾ [الأحزاب: 72]، ولأنهن مسبِّحات لله عز وجل.
قال تعالى: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44]، والإنسان من شأنه الظلم والجهل، فيظلم بالعصيان، ويجهل ما عليه من العقوبة، كما ظلَم آدم عليه السلام نفسه، ولم يعلم ما عليه من العقوبة، وهو إخراجه من الجنة، ولما علِم رجع وتاب، فقال: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23]، وانقسم الناس في حمل الأمانة إلى ثلاثة أقسام:
قسم حملها في الظاهر دون الباطن، وهم المنافقون، وقسم لم يحملها لا ظاهرًا ولا باطنًا، وهم الكفار والمشركون والزنادقة والملاحِدة، وقسم حملها ظاهرًا وباطنًا، وهم المؤمنون، فكان جزاء المنافقين والمشركين العذاب المهين الأليم، وثواب المؤمنين قَبُول توبتهم ومغفرة ذنوبهم والرحمة بهم، كما قَبِلها من أبيهم آدم وأمهم حواء ومن الراجعين إلى ربهم المنيبين المخبتين، قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [الزمر: 53، 54]، وقال تعالى: ﴿ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 73].
وعرَض الله تعالى الأمانةَ على هذه الجمادات؛ لشدَّتها وقوَّتها، كما قال تعالى: ﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ﴾ [النبأ: 12]، والأرض والجبال لا تخفى شدَّتها وصلابتها؛ فامتنعن عن حَمْلها، وإن كن أقوياء، إلا أن أمانة الله تعالى فوق قوتهن، وحمَلها الإنسان مع صفة ضَعْفه الذي قال الله فيه: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]؛ ولهذا أودع الله فيه العقلَ وقوة الإدراك والحواس، ووعده بالإعانة على حِفظ الأمانة بقوله: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3].
وجاء أن الله تعالى يقول: ((أنا أعين مَن يستعين بي ويتوكَّل عليَّ))، والكافر والمنافق لم يرجع إلى الله تعالى فتركه مع نفسه.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وحافظوا على الأمانة، وأطيعوا الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم لعلكم ترحمون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال: 27، 28].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
المصدر...
ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك